هوشنك أوسي
بالتوازي مع الانتصارات التي حققتها قوات البيشمركة الكرديّة التابعة لإقليم كردستان العراق، في جبهات سنجار وكركوك والموصل، ضدّ تنظيم “داعش” الإرهابي، حققت القوات الكرديّة التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي – PYD (الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني التركي) في منطقة عين العرب الكرديّة شمال سوريا، انتصارات لافتة وقامت بتحرير المدينة من “داعش” نهائيّاً، وبدأت تحرير ريف المدينة تباعاً، قرية إثر أخرى .
ثمة مشتركات وتشابكات عدّة بين مشهدي التحرير في عين العرب وسنجار، أقلّها شأناً، أنه مثلما كان هنالك وجود كردي عراقي مسلّح واستراتيجي في منطقة عين العرب السوريّة، كذلك هنالك وجود عسكري للعمال الكردستاني – التركي، في منقطة سنجار العراقيّة .
وهذا التداخل، الذي يشير إلى التعاضد والانسجام والتنسيق الكردي – الكردي المشترك، العابر للحدود، من حيث الشكل، ولكن من وراء الكواليس، بقي صراع على النفوذ محتدماً بين الديمقراطي الكردستاني والعمال الكردستاني، بخاصّة الأخير، واستثماره الأحداث والمجريات التي شهدتها منطقتا سنجار وعين العرب، لصالحه بشكل مفرط، بهدف فرض أجندته الحزبيّة السياسيّة – الأيديولوجيّة على كامل المجتمع الكردستاني، عبر التشكيك والطعن في صدقيّة ومصداقيّة الطرف الآخر، مع التسويق لنفسه مخلّصاً ومنقذاً . والسؤال هنا: هل سيبقي حزب أوجلان قواته العسكريّة في مناطق نفوذ الديمقراطي الكردستاني في منطقة سنجار العراقيّة؟ . وبالتوازي مع هذا السؤال الافتراضي، هل سيرد الحزب الديمقراطي الكردستاني عليه بالمحافظة على وجود قوات البيشمركة التابعة له في عين العرب التي تعتبر من مناطق نفوذ العمال الكردستاني، في سوريا؟ بخاصة أن قيادة قوات البيشمركة أصدرت بياناً ذكرت فيه؛ “أن عودة قواتها من عين العرب، لن يتمّ إلاّ بقرار من قيادة الإقليم، حال انتهاء مهامها” دون تحديد طبيعة المهام وسقفها الزمني، وهل ستقتصر على تحرير المدينة؟ أم ستتجاوزه إلى تحرير ريفها أيضاً؟، أم سيكون تحرير باقي المناطق السوريّة كريف حلب والرقة من “داعش”، من صلب مهمة البيشمركة، باعتبار هذه القوّة البريّة الكرديّة جزءاً من التحالف الدولي – العربي ضدّ “داعش”؟ على الطرف الآخر، أعلن حزب العمال الكردستاني، بشكل منفرد، عن تشكيل إدارة ذاتية تابعة له، ضمن منطقة سنجار الإيزيديّة الكرديّة العراقيّة، معتبراً ذلك أنه “قرار أهالي المنطقة الإيزيديين، ولا علاقة له بالأمر” .
فشل المشروع التركي
أشارت مصادر إعلام تركيّة وأوروبيّة وأمريكيّة عدّة، وتصريحات بعض المسؤولين الأمريكيين والأوروبيين؛ إلى عدم تعاون تركيا في مسألة مكافحة “داعش” وأن الأتراك يشترون نفط “داعش”، إلى جانب الكشف عن وجود تورّط تركي في دعم تنظيم الإرهابي فيما يتعلّق بالهجوم على عين العرب، تحقيقاً لجملة من الأهداف، خارجيّة وداخليّة .
داخليّاً: بالتزامن مع التسويف والمماطلة التي مارستها الحكومة التركيّة في عملية التفاوض مع العمال الكردستاني، حاولت السلطات التركيّة تشكيل حالة ضغط على الكردستاني الذي بدأ يتعاظم نفوذه السياسي والعسكري في سوريا، بحيث تجاوز نفوذه وحضوره الجماهيري واللوجستي الذي حظي به في سوريا مطلع ومنتصف التسعينات، إبان تواجد أوجلان في دمشق . وبالتالي، لجأت تركيا إلى استخدام “داعش” ضد الكردستاني الذي أعاد تموضعه في المحور السوري – الإيراني بعد انطلاق الحراك السوري منتصف مارس/ آذار 2011 . كل ذلك، بهدف الضغط على الكردستاني وإجباره على تقديم المزيد من التنازلات، أثناء عملية التفاوض السري – العلني بين أنقرة وأوجلان، وقيادة الحزب المتواجدة في جبال قنديل الكردية العراقية . وقد حققت تركيا بعض المكاسب التكتيكيّة، بحيث استنزفت الكردستاني بشريّاً، وجعلته يخسر المئات من مقاتليه، في غضون أربعة أشهر، دون إصابة أصبع جندي تركي بخدش . لكن على الصعيد الاستراتيجي، انتصر الكردستاني، ودحر تنظيم “داعش” وحقق مكاسب إعلاميّة وبعض الاختراقات الدبلوماسيّة على الصعيد الغربي . كما استفاد الكردستاني من الظروف السوريّة بشكل عام، وفي المناطق الكرديّة السوريّة بشكل خاص، بغية تجنيد وجذب عشرات الآلاف من المقاتلين والمقاتلات إلى صفوفه، والحصول على كميّات كبيرة من الأسلحة . وبالتالي، قلب الكردستاني الحسابات التركيّة وجعلها متناقضة بين “حسابات البيت وحصيلة البيدر” كما يقول المثل الشائع . لذا، استشاط القادة الأتراك، غيظاً وفي مقدّمتهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بسبب الاهتمام الإعلامي والدولي بعين العرب ومقاومتها ضدّ “داعش”، بحجّة ضرورة الاهتمام بالمدن السوريّة الأخرى .
وأعاد أردوغان تكرار أسطوانة امتعاضه وتذمره من الاهتمام الدولي بتحرير عين العرب من “داعش”، بنفس الحجّة السابقة، وأن المجتمع الدولي يهمل المدن السوريّة الأخرى، ويركّز فقط على عين العرب . مع تكرار رفضه حصول نوع من الحكم الذاتي او الإدارة الذاتية في المناطق الكردية السوريّة، على غرار ما هو حاصل في كردستان العراق . علماً أن أنقرة اعترفت بكردستان العراق، ورفعت مستوى التمثيل الدبلوماسي في اربيل إلى مستوى القنصليّة، بعد سنوات عدّة من إطلاق تصريحات على شاكلة التي يطلقها المسؤولون الأتراك بحق عين العرب . في حين كانت لهجة رئيس الحكومة التركيّة أحمد داوود أوغلو ونائبه بولنت أرينج أخفّ من نبرة أردوغان حيال التعاطي مع حدث تحرير عين العرب، إذ طالبا “بعدم نسيان الكرد الدور التركي في التحرير” في إشارة إلى السماح بقوات البيشمركة وأسلحتهم بالعبور عبر تركيا إلى عين العرب . ذلك أنه بعد فشل مشروع الاحتلال “الداعشي” وما كان سيترتّب عليه محليّاً وإقليميّاً ودوليّاً لصالح تركيا، ستتجه الأخيرة إلى الاستحواذ على مشروع إعادة إعمار عين العرب، (التي تحوّلت إلى أكوام من الردم والخرائب)، كي تكون للشركات التركيّة حصّة الأسد، من هذا المشروع . إذ لا يوجد أي تفسير آخر، للغة شبهة المرنة التي يتبنّاها داوود أوغلو وأرينج بهذا الخصوص .
خارجيّاً: سعت أنقرة، سواء بشكل مباشر أو عبر التيّار التركي أو المتعثمنين في المعارضة السوريّة، بالتزامن مع هجوم “داعش” على عين العرب واحتلالها، إلى إقناع الاتحاد الأوروبي وأمريكا بضرورة إقامة منطقة عازلة، شمال سوريا، تكون لتركيا اليد العسكريّة والسياسيّة والإداريّة الطولى فيها . لكنها فشلت في تحقيق هذا المشروع أيضاً .
مفارقات إقليميّة ودوليّة
كشف تحرير عين العرب عن بعض المفارقات، لعل أبرزها ترحيب الخارجية الإيرانية بما حققه الكرد من انتصار في المدينة، وتجاهلها من حققوه في جبهة سنجار . ويحيل مراقبون ذلك، إلى العلاقة الوطيدة والخفية بين العمال الكردستاني وطهران ودمشق . وأن طهران غير راضية عن مسعود بارزاني، الأقرب إلى أنقرة منه إلى طهران، بخلاف حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، بزعامة الرئيس العراقي السابق جلال طالباني .
وفي الوقت عينه، تجاهلت أنقرة تحرير سنجار، وتحدّثت عن “دورها الإيجابي” في تحرير عين العرب . وعليه، أتى الترحيب الأوروبي – الأمريكي بتحرير عين العرب، منسجماً مع الموقف الإيراني، بالضد من الطموح التركي في سوريا والعراق .
“داعش” لن تنتهي
بقدر ما حظيت مقاومة المقاتلات والمقاتلين الكرد في عين العرب بتغطية واهتمام وإعجاب الإعلام العربي والعالمي، كذلك فإن خبر تحرير المدينة من “داعش” أخذ مساحات واسعة من المتابعة والتحليل . وأشارت العديد من الصحف وسائل الإعلام الأوروبيّة والأمريكيّة إلى أن تحرير عين العرب هو “مؤشر كبير ومهم على بداية نهاية داعش”، وأن المقاتلين الكرد “حطموا أسطورة دولة داعش الباقية والتي تتمدد” . زد على ذلك، رحّب الكثير من المسؤولين الأوروبيين والأمريكيين بتحرير عين العرب وأبدوا الإعجاب بالمقاومة الكرديّة وأثنوا عليها، حيث ذكر وزير الخارجيّة الأمريكي جون كيري في مؤتمر صحفي مع نظيره المكسيكي أن المقاتلين الكرد، “أجبروا داعش على الاعتراف بالهزيمة في عين العرب” .
أيّاً يكن من أمر، غالب الظنّ أن تنظيم “داعش” الإرهابي، لن ينتهي حتى لو تم تحرير كامل الأراضي السوريّة والعراقيّة من شرّه وإرهابه . لسبب بسيط ووجيه أنه باندحار النازية في الحرب العالمية الثانية، لم تنتهِ الجماعات والأفكار النازية بشكل مطلق ونهائي . وبانهيار الاتحاد السوفييتي ومنظومة الدول الاشتراكيّة الشرقيّة وسقوط جدار برلين، لم تنتهِ الأحزاب الشيوعيّة واليساريّة . كذلك فإنه بإسقاط نظام طالبان في افغانستان، لم تنتهِ “القاعدة” واشتقاقاتها، ما يعني أن “داعش” ستبقى باعتبارها منهجاً وفكراً وذهنيّة، تستند إلى منظومة قيميّة وأخلاقيّة دينيّة لها حضورها في التراث والتاريخ الإسلامي وبعض كتب الفقه والتفسير، ومناهج التربية والتعليم . وعليه، النزعة التكفيريّة الموغلة في التاريخ، أثبتت التجربة أن استخدام العنف والسلاح ضدها، يزيدها قوّة وشراسة واستشراءً . ولن ينفع في مكافحتها إلإ القيام بحملة نهضة وتنوير وإصلاح ديني شاملة وعميقة وجديّة وجذريّة، على مدى عشرات السنين .
* كاتب متخصص في الشؤون التركية والكردية
ملاحظة من الكاتب: حذف كلمة كوباني من عنوان ومتن المقال، هي من فعل المحرر والمسؤول عن الصفحة، ولم أقم بذلك. لذا، اقتضى التنويه.