ماذا فعل المربع الأمني بغربي كردستان؟.. الجزء السابع

د. محمود عباس

جدلية العاملين الذاتي والموضوعي، وأيهما كان الأفضل العمل بموجبهما؟ لبلوغ المأرب الكردي، وتحقيق الغاية الكردستانية. فرضت الجدلية ذاتها على تحليلات جميع المؤرخين. تأرجحت المفاهيم حسب الظروف والزمن، ونوعية الأقلام التي عرضت المطروح على صفحات التاريخ. كثيرون انجرفوا مع الرغبة الشخصية، وغاب المنطق تحت ضغط إبراز الذات أو العائلة أو العشيرة. فكلما قورن العامل الموضوعي بالذاتي، غابت عنها التحليلات المجردة أو النقد بنقاوته، بل لاعتبارات عديدة خلقت حوادث من العدم وضخمت لتصبح كهالات وهمية حول بعض الشخصيات أو العائلات.
  وكثيرا ما تعرضت الأحداث التاريخية إلى حذف؛ أو تهميش؛ أو تحريف لإرضاء البعض، فالكل الكردي متعارف، والكل متداخل في حيثيات بعضهم، وهي التي تؤدي إلى تشويه التاريخ في كثيره، وتشويهه يؤدي إلى نتائج سلبية، والنتائج بهذه النوعية لن تعطي الكردي أية خبرة ناصعة، ولا فائدة مرجوة لقادمه، فتبقى المسيرة متلكئة في دروب متعرجة، وتثابر على الخطأ القديم، والحاضر يستسقى من تجارب فيها الكثير من النفاق، حيث تلاعب بها المتاجرون، والانتهازيون، وهو ما تطفح به العديد من صفحات التاريخ، كتاريخ مسيرة الصراع الكردي مع القوى التي اجتاحت كردستان أو التي سكنتها كمحتل عابر أو قاطن. 
  فمتابعتنا المختصرة لتاريخ مقاومة بعض العشائر الكردية للفرنسيين، في جنوب –غربي كردستان، تبين أن الصراع عرض بوجهات نظر متباينة، وفي كل جانب كان التفخيم إلى جانب التقزيم، وإبراز البعض على الساحة بشكل مغاير، فظهرت صفحات من التاريخ عكس الحقيقة، أوجدت وطنيين لا صلة لهم بالحقيقة، وبالمقابل طمست نضالات بعض الوطنيين الحقيقيين، والكرد بشكل عام لا يستسيغ أن يرى الكردي إلا نقيا؛ نزيها؛ وطنياً؛ مناضلا؛ ولا يوجد بينهم المتهاونون؛ والانتهازيون.
   الصراع مع القادم الجديد لم يكن من منطق مقاومة المستعمر، بقدر ما كان على خلفيات استنكاره دينيا ووطنيا، وبالمقابل برز الاستنكار الفرنسي للمجتمع الكردي، ككيان لهم خصوصياتهم، فتفاقم التصادم مع مرور الزمن، ولم يلعب هنا المثقف –السياسي الكردي دورا إيجابيا يذكر، وكانت واحدة من العوامل التي خسرها الكرد، وبقي التنافر بين الفرنسيين والعشائر الكردية مستمراً، علما أن البعض من قادة الكرد وخاصة مثقفيهم كانوا على لهفة لبناء كيان ذاتي مستقل عن استبداد العثماني الفارسي، بعد فرمانات العثمانيين، وتهجير وتجويع وقتل أكثر من مليون وسبعمائة ألف كردي، وحرق الألاف من القرى الكردية، لكن الفرنسيين لم يتمكنوا من تبديل الرأي المسبق عن ديانة الكرد الإسلامية، وتوقع الصراع معهم على الخلفية الدينية تلك، وتوقعهم على أنهم سيفضلون الديانة الإسلامية، رغم المآسي التاريخية القريبة المذكورة آنفاً. وكما ولم يتمكن المثقفون الكرد الذين كان لهم علاقات ما معهم على محاولة تغيير هذه المفاهيم، وعليه انصبت جهود كل الانتفاضات الكردية مثل معظم الثورات لصالح الحركات التركية والعربية تحت خيمة الدين أو الوطنية. 
   ولا تبين وثيقة تاريخية فرنسية دون البريطانية، أو بنود من اجتماع ما حول قضايا الدول المستعمرة في الشرق الأوسط، على انهم كانوا كسلطة استعمارية، قد أعطوا للكرد الفرصة للبحث معهم في خلق تقارب بينهما، بعكس ما اقترحه وزير المستعمرات البريطانية ونستون تشرشل حول الكيان الكردي المنفصل عن العربي والتركي، وبخلاف ما كانوا يقدمونه للشعوب الأخرى، وبالمقابل لم يحصل من جانب المثقفين وقادة الكرد محاولات لكسر هذا الحاجز، وتبقى معظم الإسقاطات التي تؤكد دعم فرنسا للكرد في غرب كردستان مبنية على التخمينات(كما يقال أن وفداً فرنسيا أرسل إلى وجهاء جزيرة بوتان، عارضين فيها مساندتهم بإنشاء كيان كردي) لكن ويبقى الرأي الأقرب إلى الواقع هو أنهم قد عزلوا الشعب الكردي عن مخططات تكوين الكيانات السياسية في الشرق الأوسط، بطريقة أو أخرى، حتى ولو كان السبب الذاتي الكردي هو العامل الأهم في هذه المعادلة.
 فالتمعن في أجزاء من تاريخ (آل شيخ إسماعيل زاده) زعماء عشيرة (بيا) المتوزعين في شمال منطقة كورداغ، ما بين تركيا وسوريا، و(آل عميكي كالي) من عشيرة المللي، وآل جعفر من شيخان وغيرهم من العائلات المعروفة في كورداغ، الذي دخلوا في حروب متنوعة مع العثمانيين والفرنسيين فيما بعد، بدون أن يتحدوا لخلق قوة متكاملة ويطالبوا بكيان كردي موحد في المنطقة، أو ماهية كردستانية أمام الفرنسيين، وما جرت من الصراعات بينهم وبين محتلي المنطقة وخاصة مع الفرنسيين، ستوضح أجزاء من الجدلية المطروحة ذاتها بين المثقفين الكرد. وما كتبه السيد أحمد تاج الدين من آل زاده عنهم وعن منطقة وعشائر عفرين، ونشرها في كتاب بعنوان (الأكراد، تاريخ شعب وقضية وطن) ومثلها أيضا دراسات الدكتور (محمد عبدو علي) القيمة عن تاريخ عفرين وعشائرها…
ملاحظة: من الأن فصاعدا سندرج الاسم الجغرافي المنطقي (جنوب-غربي كردستان) على كردستان الواقعة ضمن جغرافية سوريا.

يتبع…

د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف لم يكن، في لحظة وطنية بلغت ذروة الانسداد، وتحت وطأة أفق سياسي وأخلاقي مغلق، أمام الشيخ حكمت الهجري، شيخ عقل الطائفة الدرزية في السويداء، كما يبدو الأمر، سوى أن يطلق مكرهاً صرخة تهديد أو يدق طبول حرب، حين ألمح- بمسؤوليته التاريخية والدينية- إلى احتمال طلب الحماية الدولية. بل كان يعبّر عن واحدة من أكثر المعضلات إلحاحاً في واقعنا…

د. محمود عباس صرخة في وجه التكفير والخراب والإرهاب. من يهاجم المكون الدرزي في السويداء؟ من يحاصر مدنها، ويهدد شيوخها، ويحرّض على أبنائها بذريعة كلمة قيلت أو لم تُقَل؟ من نصب نفسه حاميًا للرسول الكريم وكأن الإسلام ملكيته الخاصة، وكأن نبي الرحمة جاء لقوم دون قوم، ولدين دون آخر، متناسين أن محمدًا عليه السلام نبي الإنسانية كلها، لا نبي التنظيمات…

بوتان زيباري في رياح السياسة العاتية التي تعصف بأطلال الدولة السورية، يبدو أن الاتفاق الموقّع بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وهيئة تحرير الشام (هتش) لم يكن سوى وميض برقٍ في سماءٍ ما لبثت أن اكتظت بالغيوم. فها هو مؤتمر قَامشلو الأخير، بلغة ملامحه المضمرة وتصريحاته الصامتة أكثر من الصاخبة، يكشف عن مكامن توتّرٍ خفيٍّ يوشك أن يطفو على سطح…

إبراهيم اليوسف لقد كان حلم السوريين أن يتوقف نهر الدم الذي فاض وارتفع عداده ومستواه، تدريجياً، طيلة العقود الأخيرة، أن يُفتح باب السجون لا ليُستبدل معتقل بآخر، بل ليُبيّض كل مظلوم مكانه، أن يتحول الوطن من ساحة للبطش إلى حضن للكرامة. لقد كان الأمل كبيراً في أن تؤول الأمور إلى دولة ديمقراطية، تُبنى على قواعد العدالة والحرية والكرامة، لكن هذا…