ابراهيم محمود
” إلى روح الراحل نورالدين زازا مجدداً، الذي هرب بجلده تحت وطأة سدنة رفاقه الحزبيين، وأهمِل لحظة رحيله، ليُسمى شهيداً بعد غياب عقدين من الزمن تقريباً، ومن قبِل من كان الأكثر ضغطاً عليه والدفع به خارجاً “
راهناً : إلى الصديق الدكتور فرزند علي حيث يقيم روجآفاوياً .
======
ما قبل الوطنية الكردية:
لم نعش الوطنية الكردية بعد، وإذا اُستفسِر عن ذلك في الحال، فالجواب في الحال، هو أن الوطنية بصيغة كيان سياسي وطني بالكامل، وما تحقَّق للكرد، لا تعدو أن يكون ربع الوطن، وهو داخل كيان سياسي قومي مضاد، يُرصد في شهيقه وزفيره القوميين، أما من يتحدث عن الوطنية الكردية من طوائف السياسيين الكرد ؟ فلا يعدو- بدوره- أن يكون ذلك إمعاناً في الضحك على عامة الكرد، وتمرير شعاراته وهتافاته بوصفها العقار الأنسب في التخدير، وممارسة سيطرته التحزبية ذات الدمغة العشائرية اللاوطنية في المجمل.
مع التهجير أولاً :
من هنا، آتي إلى فحوى الحديث عن التهجير، لا بل والهجرة التي ، وكما يبدو، ارتقت إلى مستوى العدوى، أو الهستيريا المرئية، ومن جهة روجآفا تحديداً، حيث اضطردت النسبة في التداول الإعلامي الكردي، وهو في مجمله تحزبي أو في ظله، وتزايد نسبة العرب القادمين من المناطق السورية المنكوبة، واتخذوا من روجآفا مكاناً: محل إقامة لهم، وهذا التركيز المتزايد راهناً أكثر، له ما يفسّره بالمقابل، وهو الضغوط التي يعيشها ” أهل ” الهجرة ” إنما ما يسبق فعل الهجرة والتهجير، وأنا أسمي بالحرف الواحد قائلاً: نعم، هناك تهجير، ولكن الفاعل الرئيس سياسي كردي في الأعم الأغلب، إنه نتيجة فاعلة ومدمرة للسياسات التحزبية الكردية وممارساتها، والتي لم تستطع حتى الآن عن تمثل درس المؤسساتية أو الحداثة، وهي في مرجعيتها المحسوباتية: العشائرية ومرادفاتها.
نعم، في المنطقة عموماً، وفي العالم العربي، ثمة السيطرة الفاعلة لمرحلة ما قبل الوطنية، سوى أن الكيانات السياسية العربية، رغم كل أخطائها، وبمؤثرات خارجية وداخلية، بثت في أذهان ” رعاياها ” أو شعوبها فكرة القومية التي تكون هي حوامل لها، بينما كردياً، فإن التذرع حتى الآن بمؤامرات الأعداء وخططهم في الحيلولة دون نشوء وطن كردي، عملة مستهلكة، وجرّاء كثافة الضغوط التي تلزِم المعنيين بالموضوع من المسيسيين أو الحزبيين بتنوع محافلهم، في أن يكونوا أكثر انفتاحاً على ” شعبهم ” .
نعم، ثمة هجرة من روجآفا، وللمرء أن يتساءل لماذا، وكوني مهاجراً، وأسمي المفردة الأدق في التعبير تجاوباً مع الواقع ” مهجَّراً “، لكن ما يجب التنبه إليه هو السؤال: لماذا ؟
لأحاول بسط الموضوع:
بداية أقول، وكما ثبتُّ في أكثر من موضوع سابق، ليس من هجر، ضعيف الإيمان بالوطنية، أو ضعيف في كرديته، يقابله من هو قوي في الوطنية، أو في كرديته في ” روجآفا “، فثمة تداخل في الجهتين:
قد يجد المرء من بين الذين هاجروا، لدواعي أمنية، أو مواقف، وجدوا أنفسهم مضطرين إلى الهجرة، أو كان التهجير الضمني رد فعل على ما يمكن اعتباره بـ” السياسة التحزبية الكردية ” وسلوكياتها العملية، وتهميشهم بأكثر من صيغة، فيكونون أكثر حفاظاً على وطنيتهم العامة، وعلى كرديتهم كروح تتنفس داخلهم، من كثيرين يرفعون بيرق الكردية على جبهات أو فوق خنادق تحاربية وهمية داخلاً، كما هو المستقرَأ في تاريخ أدبيات السياسات التحزبية الكردية، ومفهوم” المواجهة ” أو ” النزعة الكفاحية- النضالية “.
من بين الذين بدأوا بالهجرة وما زال الخط مفتوحاً وبصيغ شتى، أولئك الذين يبحثون عن أدوار لهم، وهم مرتزقة أو في مقامهم، ويعملون بالمقابل، دون السؤال عن مفهوم الصيت ، أو السمعة، ويبحثون عن نقاط استناد لهم، حيث يكونون سخرةً أو عملاء، أو وشاة وكتبة تقارير، وحتى في مجال الإيذاء لبني جلدتهم، كما هم سابقاً، مثلما أنهم حولوا كياناتهم العضوية إلى قوة مطروحة في البزنس التجاري المبتذل، ويكون النظير لهم، أولئك الذين بقوا في ” الوطن ” منتظرين من يشير إليهم في أن يتحركوا، في تجسيد ما هو وضيع أو مبتذل، وبمردود مادي معين، وبدرجات.
ولعل من بين الذين وجدوا أنفسهم مدفوعين إلى الهجرة، أي بسببها، ذلك الشعور بالمناخ الوخيم سياسياً، وفقدان الأمل ببنية الأحزاب الكردية التي استولدت سواها. على سبيل المثال في مخاض الأحداث الجارية والدامية والمروعة في سوريا، منذ قرابة سنين أربع، وليس هناك ما يحفّزهم على البقاء والاعتراف بمواقعهم من أصحاب الشهادات أو المهن المؤثرة كفعاليات اقتصادية واجتماعية، وليكون التهجير فعلاً داخلاً في محتوى ” الهجرة ” ومتداخلاً معها كذلك، مع إضافة معلومة: تنامي سطوة الأحزاب، حيث الاختلال الأمني، ولفت الأنظار إلى أنها مقررة مصائر كردها” هكذا بالمفهوم القومي ” والدخول في مساومات جانبية تبعاً لمصالح مخزية بالمقابل، لتبز في جوانب منها، عنف سياسات السلَط القائمة.
ولعل الأحزاب الكردية في مجملها برزت أكثر قابلية على استثمار الأحداث لصالحها، عندما انبرى وينبري كل مسئول حزبي لأن يكون في مقام ” ولاية فقيه معتبَرة “، في نطاق تبعيات مخجلة، متهيأة لذلك، لحظة النظر في تنقلات أولي أمرها المكوكية بين روجآفا وباشوري كردستان. ولكم ذكّرني هذا المشهد بعملية التدفق الألوفي لتلك الثيران والغزلان وغيرها للنهر الإفريقي، منتقلة إلى الطرف الآخر بحثاً عن الكلأ والماء، وفي كل عملية عبور تبرز تماسيح الماء” السياسية ” تنهش في بعض منها، وفي الحالتين: الجهتين، وأشير بعملية النهش التماسيحي إلى ظاهرة الغفلة السياسية والانتشاء بالمنتظَر في الطرف الآخر، مع فارق أن تلك المهاجرة مدفوعة لأسباب حيوية، أما هنا فلأسباب تزيح الحيوية الخاصة جانباً، وما في صحبة هؤلاء من كتبة وأشباههم: في الجهتين. وهنا أشير إلى ما هو مأسوي حقاً وهو: أن الروجآفاويين لم يحصل لهم في تاريخهم المديد، ومنذ أكثر من قرن، أن فكروا ذاتياً، ولجهتهم الجغرافية، بقدر ما سلَّموا أنفسهم لحسابات خارجية” جهوية أخرى “: جهة باكُري كردستان، أو باشوري كردستان تالياً، ثم ضمن دائرة الطباشير القوقازية راهناً، وسعي كل طرف إلى الاستئثار بالمشدود دون النظر في خاصيته هنا.
بقدر ما أشدد على الذين، ما إن اندلعت الشرارة الأولى للحدث الثوري، حتى اندفع ساسة كرد ومن معهم إلى البحث عن ظل وارف أكثر ليصبحوا نجوم الحدث السوري، وفي منازل فخمة وأجور لم يحلموا بها سابقاً، وبروز الإعلام المنتمي إلى ما هو حزبي أو تحزبي، والتضحية بالوطنية في العمق .
وأشير هنا أيضاً، إلى أن ثمة من خرجوا مضطرين لعدم وجود ضمان أمني، يشجعهم على البقاء، والمسئولية تطال هؤلاء. ويمكنني الإشارة هنا، أنه رغم تقدير من يمارسون حفاظاً على روجآفا، من الكرد بالذات، إلا أن السياسة المتشددة، وبفوقية ملموسة في التعامل مع المختلف الإيديولوجي وفي فعل الزج بالقوة الشبابية التي لم تبلغ سن الرشد في أتون المجابهة مع الأعداء” الدواعشيين ” ومن معهم، تلقي بظلها الرطب والخانق على المناخ السياسي، بقدر ما يمكنني الإشارة إلى أن نسبة معلومة من المعنيين بإصدار القرارات، والتنفيذ، قد دفعوا بأبنائهم وبناتهم خارجاً، وهذا يضاعف من وطأة فعل الجاري عملياً .
ضمناً، لكم يحز في نفسي، وأن أتوقف عند هذه النقطة الأخيرة، وهي أن ثمة من أعرفهم، وعن قرب، خرجوا وهم يبرّرون لأنفسهم، بدواعي أمنية، وليس هناك شيء من هذا القبيل، وقد ارتموا في أحضان من يفتحون لهم طرق البروز والاغتناء، ومن بقوا اهتموا بأمرهم تبعاً لمحسوبيات موظفة، وتاريخهم المسلكي فضائحي: ساسةً وكتبة وحتى من باتوا يعرَفون بإعلاميين ومحللين سياسيين وجامعيين، وكان في الوسط الجامعي سماسرة رموز بعثية وكتاب حلقات بالأجرة، ليصبحوا في الواجهة، ومن المنتقدين لمن خرجوا والداعين إلى لزوم الالتفاف ” الوطني “.. يا للعار !
ضمناً، ثمة من التزموا الصمت، أو الحياد، في غمرة حالات الخلط المريعة، والتي نبهتهم إلى أن الصمت، قد يكون في مقام الموقف الأمثل مما يجري، لا بل والاحتجاج على لاسويته، وهم واعون بأكثر من معنى.
طبعاً، لست خارج دائرة المساءلة، أنا أو غيري، ممن أصبحوا خارجاً، سوى أن الممكن قوله، هو التالي: عندما يجد المرء نفسه محاصَراً أو معزولاً، وبتخطيط من سدنة التحزب، ومن يرابون في البورصة القوموية والكردايتي، كما جرى ذلك في بداية الأحداث، وهم من دعاة الكتابة الكردية المنافحة ليكونوا ذيليين بالكامل، ولم يخرجوا تعبيراً عن مرجلة مسجلة، وإنما لأن دورهم قد استهواهم، فإن الطريق اليتيم لسلوكه، ليس في أن يبقى معتزاً بوطنيته العامة أو كرديته، ويموت بطلقة طائشة أو معروفة بجهتها، وليسمى شهيداً من لدن من سلعنوا البلاد والعباد” كردستان في مجملها “، وإنما في الخروج، والتنفس بمعيار آخر، إذ ماذا يعني أن يكون المرء كاتباً، أو محباً لوطنه وشعبه، وثمة قيّمون، هم أولو أمر الوطنية والقومية والكردايتي، يحيلونه إلى الصف الأخير، وهو عار آخر، يعاش بإباء طاغ !