النفير الثقافي

 

فرمان صالح بونجق

 

لا جدوى من التلكؤ بعد اليوم ، لا نفع من التراخي بعد الساعة ، ولا فائدة من الخمول بعد اللحظة ، حيث المشهد الثقافي الكوردي يسجل أقصى درجات الانتكاسة ، إن لم يكن قسطاً من التراجع ، بمعنىً من المعاني ، منذ أكثر من نصف قرن مضى ، حيث درجَ الأوائل وبحرص وحذر ، وشجاعةٍ لا يُذكر لها مثيل ، تدشين الهيكل العظيم لتجربة ثقافية كوردية حداثوية ، شعراً ونثراً ، ولغةً إلى جانب لغةٍ ، سِيماؤها نقاء المفردة والسريرة ، وغايتها فيض من الكرامة ، في فضاء رحب من الحرية .
اليومَ يومٌ آخر ، حيث تتسلل الأصابع ، رويداً رويداً ، لتخيف آلهة الإبداع ، لترعب مفاتيح القصائد ، بكلماتٍ لونها من دم ، وأزيزها من رصاص ، وغايتها إماتةُ روح الثقافة ، إعدامها ، ومواراتها مرةً بعد مرةٍ ، كطقس من طقوس الرحيل الأبدي ، الذي لطالما شَهِد عليه تاريخ البشرية حيناً بعد حين ، في صورة مياه دجلةَ السوداءَ تارةً ، وفي صورة نيران روما تارة أخرى ، وفي صورة ” شَيْبوبَ ” حاملُ الفأس بيمناه ، حيث لا ملاذ للحبر والورق ، ولا شفاعة تُرتجى .

 

كالقطة التي تأكل أبناءها وبناتِها ، كالمقصلة التي تقطف رؤوس صانعيها ، أصبحت اليوم أقلامُ بعضنا ، كسهام ، كرماح ، ترتدُّ إلينا ، بلا رحمة ، تحاول أن تقتل فينا ما تبقى من روح ، ما تبقى من أمل ، ما ليس بحوزةِ سِوانا من نور ، يمكن أن يضيء بعضاً من زوايا سكنتها الظلمة ، في ردهات العقول والقلوب ، في راحات الأكُفّ ، في المآقي ، في خيمةٍ غربلتها الريح ، وتحت معطف والدة شهيد .
هنا قلبي ، هنا محراب أشعاركم ، وأمنياتكم ، التي ما برحتُ أرددها إخلاصاً لذكراكم ، فليأخذهُ آخذ ، شرارةً ، شعلةً إن شئتم ، أحرقوا بها ما تبقى من روحي ، من سنوات شيخوختي ، أوقدوا بها ما تبقى من طرقٍ ، ومسالكَ ، وعتباتِ كلماتٍ مقدساتٍ ، سهرتم عليها أعماراً ، أوقدوا كل ما يضيء ــ قبل فوات الأوان ــ  طريق النفير العام للثقافة .
ــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة كوردستان ــ العدد 503  .

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي في السنوات الأخيرة، بات من الصعب تجاهل التحوّل المتسارع في نبرة الخطاب العام حول العالم . فالعنصرية والكراهية والتحريض عليهما لم تعودا مجرّد ظواهر هامشية تتسلل من أطراف المجتمع، بل بدأت تتحول، في أكثر الدول ديمقراطية ولم يعد ينحصر في دول الشرق الأوسط ( سوريا . لبنان – العراق – تركيا – ايران وو .. نموذجاً ) وحدها…

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…