الكردية= الحزبي، والمثقف ليس كُردياً

 ابراهيم محمود


سألني أحد المعارف من الملمّين بالثقافة معاتباً: لماذا لم تكتب عن اجتماع اللجنتين الحزبيتين الكرديتين في دهوك ؟ ألا يملي عليك واجبك الكردي في أن تكتب عن ذلك مسبقاً كما كتبت في أمور كثيرة ؟ وبعتاب يقرب من الإدانة : أنت مقصّر هنا، لا بل وتستحق الإدانة بصراحة .
” صفنت ” لبعض الوقت، وتألمت كثيراً، وبحرقة بالغة قلت: نعم، هو ما ذهبت إليه يا صاحبي، لكن اسمع: من قال لك أنا كُردي ؟ الكردية = الحزبي، ولا كردية خارج هذه الدائرة، ومن يسمّي نفسه مثقفاً لا يعود كردياً أبداً، لأن المثقف لا وجود له في الوسط الكُردي.
انفعل صاحبي واندفع بفضول بالغ، ومحتداً هذه المرة: خاف الله يا رجل، ماذا تقول ؟
لم أشأ إثارته أكثر من ذلك، سوى أنني حاولت تهدئته حباً به وربما بصفاء نيته، واضطررت أن أرسم صورة واقع ربما عشته أنا، ومن موقعي كمثقف، مازال بينه وبين كردية من سمّيت بون شاسع واسع، ويصعب علي وصف الألم الذي تملكّني من الداخل:
اسمع يا صاحبي، أولاً أنت محق فيما قلته، محق، لأن المثقف معني بالكتابة عما يجري في محيطه قبل الحدث وأثناءه وبعده، وإلا فإنه لن يستحق تسمية المثقف، والكردي معني بما يجري حوله أكثر من أي كان، نظراً للأخطار المحدقة به، لكن أوتظن أن هؤلاء الذين يكتبون عما يجري كردياً يُعدُّون من المثقفين ؟ إنهم منتسَبون طوعاً إلى هذا الحزب أو ذاك، أو حزبيون أو متحزبون برغبتهم، أو لأنهم يجدون أنفسهم هكذا، ليتم الاعتراف بهم ويعيشوا، ودعوتهم إلى هذا النشاط أو ذاك، وكل من يتصرف خلاف ذلك ” يصف برّا “.
وتنهدت لبعض الوقت لأكون حكواتياً هنا: أتعلم، أنه مع بداية الأحداث في سوريا منذ ثلاث سنوات ونصف وأكثر، حيث تحركت الأحزاب الكردية ليتمخض عنها المجلس الوطني الكردي في سوريا، وتم الاتصال بهذا وذاك من الكتاب أو اندفع هؤلاء إلى المعنيين بهم تعبيراً عن أنهم معهم ” في ظلهم ” وإن لم يكونوا منظمين حزبياً، وقيل بلسان أكثر من مسئول حزبي: نحن نتصل بمن نريد ليحضر اجتماعاتنا أو يكون معنا ” لاحظ ما تعنيه كلمة: معنا ! “،وكان هناك كتاب أو من يُعدون من المثقفين ولعلي كنت من بينهم، وعلى مدى سنتين وأكثر في عزلة تامة، وخرجت مقهوراً مدحوراً صحبة عائلتي إلى الإقليم، وهاهي سنة ونصف تمر، ليتعمَّق شعوري بمأساة أن تكون كردياً ومثقفاً، اكتشفت أنه من الصعب وربما من المستحيل أن تعرّف بنفسك مثقفاً بعيداً عن ولاء حزبي أو تحزبي معين، كما الحال في التهميش الإعلامي وحتى الثقافي، ورغم ذلك أوحيَ إلى نفسي ربما كآخرين مثلي، على أنني مثقف، وللمثقف دوره، وموقعه، ولا بد من أن يقوم بهذا الدور على أكمل وجه، مهما كانت درجة التهميش، لأن الكردية أعم من كل منظّم حزبي، ومن يكون في ظله، ومن يضع نفسه في تصرف هذا الطرف أو ذاك، ومن يرسل مديحاً أو تقريظاً لهذا الطرف أو ذاك، وليزداد ألم الاكتشاف مع الزمن وفي كل لحظة، حيث تستمر الحالة هنا، مع كامل التقدير لكل كلمة تسمّي الوطن الكردي، وكردستان، وحق تقرير المصير للشعب الكردي، لأن ذلك من البداهات عندي، إلا أن ذلك لا يمنع من قول تسمية الجانب ” المظلم ” والمأسوف عليه: معنى أن تعيش كرديتك وتحاول التعمق فيها، وأن تعيش الأخطار التي تتهددك ككردي أولاً وكمثقف ضمناً وفي هذا الإقليم، ومعاً: أن تكون على بيّنة بالغة الإيلام: هو أنك مهمش لا بل وشبه منبوذ وحتى مشتبَه به حين يعتبر نفسه مستقلاً، كما لو أنه يعني انشقاقه الخاص، كون الانشقاق الحزبي مفعلاً وبطولياً هنا وهناك، والمثقف شبه معطّل حياتياً كأي كان، لأنه من المستحيل بمكان أن تكتب وتكتب وحولك من ينظر إليك بريبة، باعتبارك تتحرك بظل يسمّيك .
أوتطلب مني بعد كل الذي تقدَّم أن أكتب عما أشرت إليه؟ نعم، ما يجري مؤثر لا بل وخطير، وهو على أعلى مستوى في منحاه السياسي، ورغم ذلك لا أقول ” يبدو ” وإنما يظهر ، ومن خلال الإعلام الكردي المكثف هنا وهناك، أن الكردية وفي ظل الأوضاع الأكثر خطورة على مستوى كردستاني وليس على صعيد هذه الجهة الكردستانية وتلك، أن الكردية هذه لا تعني سوى من يشاركون في الاجتماع المذكور، ومن يطلَب منهم أن يتحدثوا عما يجري بوصفهم مثقفين أو في عدادهم، ولأن القائم مشهود له بالخطورة البالغة طبعاً، حيث يغيَّب المثقف الفعلي، تتعمق لدي القناعة بأن المثقف ليس كردياً، ومن يكون مثقفاً فهو تعد عليه عملياً، وبالمقابل، بأن الكردية لا تعرف المثقف ولم تعهده بعد، أعني المثقف الذي يقول كأي مثقف في مجتمع آخر يستحق تسمية المجتمع: المجتمع تنوع = الأحزاب ومن لا ينتسبون إلى الأحزاب، ومن لا صلة لهم بأي حزب، وإنما ينتمون إلى مجتمع أكبر من أي حزب، وربما تجد مثقفاً يرفض تسمية نفسه أحياناً باسم هذا الشعب أو هذه الثقافة بختمها القومي، ورغم ذلك، فإنه يكون موضع تقدير، وربما أكثر من ذلك، لأن ما يقوم به، يبقيه المنتمي إلى مجتمعه، ويعترَف به مهما بدا ” خارجه ” بموقفه و..
وهنا شعرت بحاجة شديدة إلى البكاء، وتحشرج صوتي، ولم أستطع الاستمرار، وبدوره، صمت صاحبي وهو مطأطىء رأسه !

ملاحظة: أنا مقتنع تماماً، أن ثمة من سيقرأ هذا المقال ليقول ومنذ البداية- ربما- ويتأفف: بلّش يبربر! نعم، هو الأمر كذلك، فأنا أبربر منذ ثلاثين عاماً وأكثر، ولعلّي سأبربر حتى النفَس الأخير، كما يظهر، مجدداً !

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…