ابراهيم محمود
قبل ربع قرن، وربما أكثر، قرأت تعليقاً في مربع صغير، حملته صحيفة” الحياة ” العربية اللندنية، ورد فيه أن صحفياً عربياً أراد إجراء مقابلة مع الكاتب الكولومبي النوبلي المشهور والراحل ” غ..غ. ماركيز “، وكان الوسيط بينهما كُردي، وحين علِم ماركيز بذلك، إثر التعارف، لم يقل له أكثر من ” يا لكم من شعب غريب ! “. الغرابة تعني العجب أيضاً، وصعوبة تفهم المستغرَب بالمقابل، وكأني بالكولومبي الكبير يقول: ما الذي دفع بكم لأن تكونوا هكذا ؟
هذا يحفّزني على التذكير بالثنائي الأكثر تضاداً كردياً: أبو الخطاب الكردي الحلبجاوي ” الذي كتبتُ عنه قبل عدة أيام في موقع ولاتي مه “، وهو يتزعم المجموعة الداعشية الإرهابية المشدّدة على ” كوباني “، والعظيمة بروحها الكردية البطلة نارين العفريني، التي تقود قوات الحماية الشعبية في كوباني: المدينة هذه التي ” تنذهل ” بين كرديين مع فارق كبير جداً بين منسلخ عن كرديته ومعاد لها، بقدر ما يكون ملبّي ” طلبات ” ألد أعداء الكرد ” أبو الخطاب ” إيذاء وتدميراً، وملتحمة مع كرديتها، بقدر ما تستميت في الدفاع عن جوهرة جغرافية كردية : كوباني .
ربما كان المثال الأول والذي افتتحت به المقال، مضلّلاً في مساره البحثي، لأنه خارج نطاق المقال هذا ومضمونه، ولكنه يحرّضنا على رؤية علاقة الكردي، وهو في موقع لافت مع محيطه، وما الذي دفع به إلى الموقع ذلك، وليكون المثال الثاني وهو ” بيت القصيد الأكبر ” طبعاً، إذ يقرّبنا من هاوية تاريخية يجد الكرد منذ أزمنة سحيقة أنفسهم فيها .
لعل المثال الثاني يكون باعثاً على عنونة المقال في كلّيته : هل الاصطفاف مع العدو من الطباع الثابتة لدى الكرد ؟
لا يفيد السرد التاريخي من خلال نقاط استناد، تكشف من خلال مجموعة أمثلة ما يشدّد على رعب القول دون طرحه سؤالاً: الاصطفاف مع العدو من الطباع الثابتة لدى الكرد ! لأنني لا أريد التحرك مأخوذاً بغواية قول كهذا، ولا كنت، كما لن أكون آخذاً بما يسمى بـ” أزلية ” تصور كالذي تقدَّم، لأن ثمة ما يبقينا خارجه، سوى أن نظرة إلى تأريخ يحفر في ذاكرتنا الجمعية، تأريخ مقروء، وتأريخ متداول شفاهة، تخيفنا، لحظة معاينة مشهديات العلاقات بين الكرد أنفسهم، بينهم وبين أعدائهم وفي المنعطفات التاريخية .
لا بد أن الاستشهاد بابن خلدون الذي اعتبره الباحث المصري ” نبيل زكي ” كردياً في كتابه عن الكرد، وقبل عقدين من الزمن، لا بد أنه مؤثر فيما يذهب إليه عن جانب البداوة لدى الكرد، أي عن العصبية التي تمزقهم، كما هم العرب، وربما جاءت كرديته وتتأكد من خلال اهتمامه بهم في نقاط مختلفة ضمن ” تاريخه “، والمهم جداً، هو ما ذهب إليه بقوله: يمكن أن نتعرف إلى الماضي، فيما هو قابل للصواب أو الخطأ، من خلال المعاش، مثلما أن معرفة الكردي لتمزقات الكرد حديثاً، وانقسامهم، وتخوينهم لبعضهم بعضاً، وسهولة تجاوبهم مع العدو في هذه الجهة أو تلك، بهذه الطريقة أو تلك، من العلامات الفارقة لمعرفة ما كان عليه الكرد قديماً.
من خلال ذلك يمكن قراءة ” آفستا ” بالذات، وتشديد زرادشت على العمل الطيب والفكر الطيب مثلاً، وما كان شرف خان البدليسي يتخوف منه في ” الشرفنامة ” قبل أكثر من أربعة قرون، وهو يعلِم السلطان العثماني أن ليس في الإمكان تعيين ممثل عن الكرد في مقام وجيه الوجهاء والناطق الرسمي أمام السلطان هذا عنهم، لأن كلاً منهم، يريد هذا ” المنصب “، وهذا يذكرني بما ذهب إليه أحمد خاني إزاء تشظيات الكرد، ومعاداة يزدان شير البدرخاني لبدرخان بك ومناصرته للعثمانيين، وما كانه الصراع بين ” عادلة خانم ” السليمانية والثائر على الانكليز محمود برزنجي وقد وقفت إلى جانب الانكليز هؤلاء وكوفئت من قبلهم، في الربع الأول من القرن العشرين..إلى آخر القائمة التي تسمّي ما لا حصر له من حالات التخوين أو الاتهامات المتبادلة بين ” أولي الأمر الكرد ” حتى اللحظة، وكل ذلك يريح أعداءهم وأي راحة ؟
وفي المواجهة القائمة: الكوبانية، ثمة ما يقرّبنا من ذواتنا، ومما يثار كردياً في هذه الجهة وتلك، حيث الانقسام الكردي مضرب المثل لأعدائهم وهم على عتبات بيوتهم، وفي الوقت الذي يندفع أغلبهم معترفين بالخلل القائم، والحل يكون دائماً في إبقاء الكرة في ملعب الآخر: الكردي، كما لو أن احترابهم التحزبي، أو الحزبي بمرجعياته المختلفة، لا صلة له بكل ما يجري..
طبعاً، ليس بالضرورة أن يظهر كردي مصطفاً إلى جانب عدوه من خلال ” الجرم المشهود “، إذ ربما يكون الإسهام في الانقسام الكردي في تبادل الاتهامات، أو من خلال مظاهر معينة: كما في رؤينة نسبة ملحوظة ومخيفة ممن يطلقون لحاهم، ويحفون شواربهم، ويقصّرون أرديتهم..الخ، ويُرون هنا وهناك، كما لو أنهم بذلك خارجون عن ” صفهم ” الكردي، أي يصطفون مع أعداء الكرد بالحرف الواحد.
في الجانب الآخر، وكما ذكرنا في أكثر من مقال وبحث، ما أسهل التأكيد على أن الاستخفاف بالعدو، مقابل الاستهانة بالذين يمتلكون طاقات شبابية بعقولهم، وبأفكارهم، ومواهبهم، انطلاقاً من مواقف تحزبية واصطفافية وشِللية، من العوامل المدمرة لكل ما هو كردي حتى على المدى ما بعد المنظور. صحيح أن ثمة أكثر من ” نارين ” العفريني، المرأة الكردية الأربعينية المقدامة، لكن بالمقابل، وبأسف بالغ يمكن الإشارة إلى أضعاف مضاعفة من نظراء وأمثال ” أبو خطاب الكردي ” الحلبجاوي، أنى التفت الكردي، حتى في منامه أيضاً .