في ذكرى اغتيال الشهيد مشعل تمو


عبدالواحد علواني
سمعت باسم مشعل التمو كناشط سوري/ كردي منذ عقد
ونيف، ومع أني لم ألتق به، لفت نظري في مواقفه وآرائه، إذ اعتدنا أن يكون
المشتغلون في السياسة من الكرد إما من المغالين في الطموح، الحاملين هاجس توحيد
الأمة الكردية في أوسع جغرافية ممكنة، أو من المنخرطين في حركات مسلحة ضد دول
تتقاسم مناطق الكرد وفق ايديولوجيات قومية متشددة، كانت في (كفاحها المسلح) تعمل
على فرض أجنداتها على الكرد قبل غيرهم، أو قلة ممن يعملون على تطويع الكرد
وإخضاعهم للأنظمة الشمولية والعنصرية التي تحكمهم. كان التمو خارج هذه التصنيفات
التي قد تكون حادة بعض الشيء، كان ينطلق من واقعية سياسية بعيدة عن المغالاة
والتصنع والارتباط، كان يمثل وعياً كردياً أقرب للتعبير عن الروح الكردية العامة،
التي لم تجد في المشاركة بحد ذاتها بأساً، إنما كانت تناهض التمييز والغبن الواقع
عليها بشكل مضاعف، مرة بسبب كرديتها، ومرة بسبب تابعيتها لدول محكومة بالاستبداد،
هذا الوعي الذي دفع
بالتمو نحو حمل هاجسه الكردي في إطار وطني، مدركاً الهدف الاسمى الذي يتجاوز
الشعارات القومية الفضفاضة، الهدف المتمثل في استعادة الكردي لانسانيته، وتمتعه
بحقوقه كاملة أسوة بشركائه في الجغرافية القسرية التي أصبحت قدراً منذ قرن. الهدف
الذي لا يغيب حق الكردي في كيان قومي أسوة بالقوميات الأخرى، ولكن ضمن طموح واقعي
قابل للتحقيق بوسائل حضارية ذات تأسيس إنساني، تتحقق فيه الانتماءات الخاصة في
إطار هوية جامعة بمثابة العقد الاجتماعي والعهد الوطني.. شخص التمو واقع الشعب
السوري بدقة وعمق، وأدرك طبيعة النظام الحاكم في بنيته، واختصر ذلك كله في عبارات
موجزة وردت على لسانه: سورية قلعة مغلقة يستباح فيها كل شيء، طبقتان هي ، أسياد قلة،
والبقية عبيد واقنان لا حول لهم ولا قوة، مزرعة إن هاجت كائناتها زادوا لهم العلف،
لأنهم لا يستطيعون أن يروا الوطن سوى حظيرة سوائم.
ومع ذلك لم يمتنع التمو عن إمكانية
الحوار، شرط تحقيق الحد الأدنى المتمثل بالاعتراف بالآخر، الحوار في توصيفه
الحقيقي وليس المزيف: الحوار كمفهوم مدني له مرتكزاته وأهدافه من أجل حلول ترضي
الجميع وتنصفهم، وليس الحوار في ظل العسكرة وتغول الأجهزة الأمنية وويلات القمع،
آمن بالحوار، ولكن عندما استفحل إجرام السلطة أعلن مع الشعب السوري القطيعة، ورفع
شعار التفاوض من أجل سلامة الوطن والمواطنين، مشعل التمو مثلما كان كردياً مخلصاً،
كان سورياً بامتياز.. أدرك في لحظة معينة مأزق السلطة وعجزها عن الحوار، فتماهى مع
صرخة الثورة المنادية بإسقاط النظام..
لم يفصل بين الحراك الكردي وبين الثورة
الجامعة، وأسس تياراً عابراً للأحزاب والقوميات والطوائف، تياراً شبابياً يندفع
بإيمان بالوطن، لإنهاء احتكار السلطة للدولة والثروة والمجتمع، وفتح الباب أمام
نظام تعددي تداولي حثيث، غايته التنمية والاستقرار العادل وفتح ابواب الغد الأفضل،
آمن التمو بسوريا وطنا للجميع، سوريا موحدة قرارها بيد مواطنيها، ولذلك رفض
مخادعات السلطة التي دفعت باتجاه التقسيم منذ اللحظة الأولى، أصبح شوكة في حلق
نظام اعتاد أن يبتلع كل من يقف في وجهه، وعلى الرغم من نجاته مرة من الاغتيال لم
تفتر همته ولم تهن عزيمته، مقدماً أمثولة جديدة للثائر الحقيقي، الثائر الذي يمتلك
مشروعاً ناضجاً للوطن، الثائر الذي يدرك أن للكلمة أثراً يفوق أثر الرصاص، عندما
اعتقل في سجون نظام يلغي انسانية الإنسان، كان هاجسه أن يحافظ على إيمانه وعقله،
واستأنف مسيرة الثورة على الرغم من ذكريات السجن الأليمة، مستندا إلى روحه الطموحة
الفدائية، ومعرفته الدقيقة ببنية السلطة، ووثقافته الحقوقية الواسعة التي لا يمكن
للسلطة أن تلتف عليها بقرارات شكلية. آمن أن الحرية هي أساس كل حضور إنساني، فقال:
لا وطن بدون حرية، ولا مواطنة بدون حرية.
كان يدرك تماماً أن التغيير في سورية سيمد
بظلاله إلى كل الجوار، وسيكون له أثر مجلجل حيثما وجد استبداد في الأرض. كان
مدركاً أنها ثورة أحرجت العالم، أربكت النظام الدولي، وعرت كل الادعاءات الانسانية
للقوى الكبرى والمنظومات التحالفية، والمنظمات الأممية، أدرك أن انتصارها سيكون
منعطفاً تاريخياً على مستوى العالم، وأدرك ايضاً أن ثورة كهذه لن تمر إلا عبر سبيل
معبد بالتضحيات الجسام، كان هو إحداها… كانت رؤيته متبصرة ومستندة إلى قراءة
سياسية عميقة لواقعه والظرفين الإقليمي والدولي. وفي العمق من وعيه كانت مسألة
تجاوز الاختلافات بين الأطياف المعارضة حاضرة، فحث الجميع على الانخراط في حوارات
بينية بغية الوصول إلى جسد معارض موحد، كان يرى أن لا فضل ولا منة لطرف على طرف،
إنما الجميع شركاء من أجل وطن قائم على المواطنة الكاملة لكل أطيافه، لذلك رفض أن
يستجدي طرف الطرف الآخر، ورفض هيمنة طرف على بقية الأطراف.. لأن الوطن السليم وقيم
المواطنة الحقيقية لا تتأسس إلا عبر ثقافة تأسيسية سليمة مناهضة للاستبداد وثقافته
التمييزية. 
مشعل التمو سيبقى مشعلاً للثورة السورية،
مشعلاً إنسانياً ينير دروب الباحثين عن الحرية والساعين إلى الكرامة والطامحين إلى
أوطان عزيزة تكرم مواطنيها وتعتني بهم.. لم يدرك القتلة أنهم عندما اغتالوه وغدروا
به، إنما جعلوه مشاعل لا مشعلاً منفرداً.. تشظى التمو في الروح السورية، وعبقت
روحه في كل رؤاها، قتلوه جسداً لتعيش روحه وقيمه، أرادوا له الموت، فحكموا على
أنفسهم بالموت.. وعاش وسيعيش التمو… آمن التمو بالثورة.. وسيعيش في العمق منها..
ككردي سوري فضل الطموح على الحلم، وفضل الوطن الكريم على عصبوية منغلقة، كان
مؤمناً بأن استعادة المواطن لحقوقه كاملة هي بداية كل آمان، وغاية كل إنسان.
الرحمة لروحك أيها الشهيد.. الأمثولة. 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف لقد كان حلم السوريين أن يتوقف نهر الدم الذي فاض وارتفع عداده ومستواه، تدريجياً، طيلة العقود الأخيرة، أن يُفتح باب السجون لا ليُستبدل معتقل بآخر، بل ليُبيّض كل مظلوم مكانه، أن يتحول الوطن من ساحة للبطش إلى حضن للكرامة. لقد كان الأمل كبيراً في أن تؤول الأمور إلى دولة ديمقراطية، تُبنى على قواعد العدالة والحرية والكرامة، لكن هذا…

صالح جانكو حينما يتوهم القائمون على سلطة الأمر الواقع المؤقتة بأنهم قد شكلوا دولة من خلال هذه الهيكلية الكرتونية، بل الكاريكاتورية المضحكة المبكية المتمثلة في تلك الحكومة التي تم تفصيلها وفقاً لرغبة وتوجهات ( رئيس الدولة المؤقت للمرحلة الانتقالية)وعلى مقاسه والذي احتكر كل المناصب والسلطات و الوزارات السيادية لنفسه ولجماعته من هيئة تحرير الشام ، أما باقي الوزارات تم تسليمها…

خالد جميل محمد جسّدت مؤسسة البارزاني الخيرية تلك القاعدة التي تنصّ على أن العمل هو ما يَمنحُ الأقوالَ قيمتَها لا العكس؛ فقد أثبتت للكُرد وغير الكُرد أنها خيرُ حضن للمحتاجين إلى المساعدات والمعونات والرعاية المادية والمعنوية، ومن ذلك أنها كانت في مقدمة الجهات التي استقبلَت كُرْدَ رۆژاڤایێ کُردستان (كُردستان سوريا)، فعلاً وقولاً، وقدّمت لهم الكثير مما كانوا يحتاجونه في أحلك…

ريزان شيخموس بعد سقوط نظام بشار الأسد، تدخل سوريا فصلًا جديدًا من تاريخها المعاصر، عنوانه الانتقال نحو دولة عادلة تتّسع لكلّ مكوّناتها، وتؤسّس لعقد اجتماعي جديد يعكس تطلعات السوريين وآلامهم وتضحياتهم. ومع تشكيل إدارة انتقالية، يُفتح الباب أمام كتابة دستور يُعبّر عن التعدد القومي والديني والثقافي في سوريا، ويضمن مشاركة الجميع في صياغة مستقبل البلاد، لا كضيوف على مائدة الوطن،…