قبول الأخر بديلاً عن كاتم الصوت

المحامي مصطفى أوسو

  منذ أن بدأت الثورة السورية في منتصف أذار 2011 في مواجهة الظلم والاضطهاد وغياب الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، المنتهجة من قبل النظام الاستبدادي في سوريا، وما رافقها من تطورات مختلفة، وخاصة لجهة تحول مسارها من السلمية إلى العسكرة وحمل السلاح للدفاع عن النفس، بسبب إصرار النظام على التعامل الأمني معها واستخدام العنف والقوة المفرطة، والذي أدى إلى وقوع عشرات الآلاف من الضحايا، شهداء وجرحى ومعتقلين ومحتجزين ومختفين قسرياً وضحايا التعذيب وجرائم هتك الأعراض والاغتصاب.

  وكان الهدف الأساسي للنظام من وراء ذلك، توجيه رسالة إلى المجتمع الدولي، بإن لا ثورة جماهيرية شعبية في سوريا، وإنه يواجه فقط إرهاباً من بعض الجماعات المسلحة، ولتعزيز هذا المفهوم، قام بتسليح وتمويل بعض الجماعات الإسلامية المتطرفة، التي كان قد أنشأها أبان التدخل الأمريكي في العراق عام 2003 في محاولة لمنع ذلك في سوريا، بعد أن لمس إن التدخل الأمريكي قد لا يتوقف عند حدود العراق.
  وبعد أن تبدد وتلاشى التدخل الأمريكي في سوريا، قام بمحاربة هذه الجماعات واعتقل عناصرها وقياداتها، وزجهم في السجون والمعتقلات، وتم تقديمهم للمحاكمات وإصدار أحكام قضائية بالسجن عليهم، ليتم إطلاق سراحهم بعد إنطلاق الثورة وتشجيعهم على حمل السلاح، في محاولة لتميع الثورة ووصمها بالإرهاب، وبالتالي القضاء عليها ومنعها من تحقيق أهدافها.

  ونتيجة لما قام به النظام من أعمال العنف والقمع والتغول في القتل والإجرام، ودعم التطرف والإرهاب وحواملهما، برزت على السطح في المجتمع السوري، الذي يتميز بغناه وتنوعه القومي والثقافي والسياسي والديني والطائفي والمذهبي، حالة من التقوقع والخوف والتوجس والاستقطاب الشديد بين مختلف مكوناته.
  وهذه الحالة كان قد أسس لها النظام الاستبدادي خلال عقود حكمه الماضية، بسبب سياسته القائمة على العنصرية القومية والفكر الشمولي، وما نجم عنها من ظلم واضطهاد وتمييز وحرمان من الحقوق والحريات، وتطبيق للمشاريع والقوانين والإجراءات الإستثنائية بحق أبناء الشعب السوري، وخاصة الكورد منهم، الذين عانوا ولا يزال من الآثار السلبية الضارة، لهذه السياسة الشوفينية المقيتة، ما أدى إلى نفي وجوده وحرمانه من ممارسة حقوقه القومية والوطنية الديمقراطية والشطب عليه وإخراجه من حياة البلاد العامة، وإلى غياب الديمقراطية ولغة الحوار وثقافة المواطنة والتعايش المشترك وقبول الأخر في المجتمع السوري ككل.
  وأن حالة الاستقطاب الذي أشرنا إليها بين مكونات المجتمع السوري، تتعمق وتزداد حدة وبروزاً وعنفاً، يوماً بعد يوم مع إطالة عمر النظام المجرم، الذي يعمل جاهداً وبكل الوسائل والإمكانات المتوفرة لديه، على تأجيجها وانتشارها بقوة في طول البلاد وعرضها، لإظهار نفسه على أنه الوحيد القادر على حفظ الأمن والاستقرار في المجتمع، ولعب دور الوسيط والحكم بين أبناءه وحمايتهم من بعضهم البعض.
  وفي موازارة ذلك ومع كل الأسف، نرى أن هناك غياب شبه كامل لبرنامج وطني للمعارضة السورية وخارطة طريق لبناء سوريا المستقبلية، يكون الأساس فيها للديمقراطية والتعايش واحترام حقوق الإنسان والاعتراف بحقوق مكونات الشعب السوري في تقرير مصيرها بنفسها وفق القوانين والمواثيق والعهود الدولية.

  وأمام هذه الحالة التي تهدد كيان المجتمع السوري، وتجعله عرضة لمخاطر التوتر وعدم الاستقرار وتهديد السلم الأهلي والاحتراب الداخلي، لابد للمعارضة السورية من العمل لوضع الخطط والبرامج البديلة الكقيلة والمؤسسة لبناء دولة الحق والقانون، التي تصان فيها حقوق وحريات كل المكونات السورية، على أسس من الديمقراطية والحوار والعيش المشترك والتسامح وقبول الآخر المختلف، بديلاً لما نشهده اليوم من حالة التقوقع والإنكفاء والاستقطاب الحاد وانتشار ثقافة كاتم الصوت.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف يبدو التدوين، في زمن باتت الضوضاء تتكاثر فيه، وتتراكم الأقنعة فوق الوجوه- لا كحرفة أو هواية- بل كحالة أخلاقية، كصرخة كائن حرّ قرّر أن يكون شاهداً لا شريكاً في المذبحة. التدوين هنا ليس مجرد حبرٍ يسيل، بل ضمير يوجّه نفسه ضد القبح، حتى وإن كان القبح قريباً، حميماً، أو نابعاً من ذات يُفترض أنها شقيقة. لقد كنتُ- وما…

عبد الجابر حبيب ـ ذاكرة التهميش ومسار التغيير بعد عقدين من اندلاع الأزمة السورية، وتحوّلها من انتفاضة مطلبية إلى صراع إقليمي ودولي، ما زال السوريون يتأرجحون بين الحلم بوطن حر تعددي عادل، وبين واقع تمزقه الانقسامات، وتثقله التدخلات الأجنبية والمصالح المتضاربة. سوريا اليوم لم تعد كما كانت، لكن السؤال يبقى: إلى أين تسير؟ وهل ثمة أمل في التحول نحو…

حوران حم في زوايا الحديث السوري اليومي، في المنشورات السريعة على مواقع التواصل، في تصريحات بعض “القيادات” ومواقف فصائل تدّعي تمثيل الثورة أو الدولة، يتسلل الخطاب الطائفي كسمّ بطيء، يتغلغل في الروح قبل أن يظهر في العلن. لم تعد العبارات الجارحة التي تطال الطوائف والأقليات، والمناطق، والمذاهب، تُقال همساً أو تُلقى في لحظة غضب، بل باتت تُصرّح جهاراً، وتُرفع على…

إبراهيم اليوسف لم يكن، في لحظة وطنية بلغت ذروة الانسداد، وتحت وطأة أفق سياسي وأخلاقي مغلق، أمام الشيخ حكمت الهجري، شيخ عقل الطائفة الدرزية في السويداء، كما يبدو الأمر، سوى أن يطلق مكرهاً صرخة تهديد أو يدق طبول حرب، حين ألمح- بمسؤوليته التاريخية والدينية- إلى احتمال طلب الحماية الدولية. بل كان يعبّر عن واحدة من أكثر المعضلات إلحاحاً في واقعنا…