أتاتورك مصافحاً أردوغان رئيساً للجمهورية

 ابراهيم محمود

المسافة الفاصلة بين تركيا العلمانية الطابع مع أتاتورك 1923، وتركيا الإسلامية الطابع مع أردوغان 2014، هي ذاتها المسافة بين ذهنيتين سياسيتين مختلفتين أقصى الاختلاف ظاهراً، بينهما أقصى التوافق باطناً، هي ذاتها المسافة الفاصلة بين الذين يحشرون التاريخ في زاوية ضيقة باعتباره ذا بعد واحد، والذين ينظرون إلى الزمان على أنه أزمنة، وتبعاً لبنية المجتمع ومكوناته الاثنية والثقافية وموقعه الاستراتيجية ورهانات التحدي” وما أكثرها “، وللكرد محل من الإعراب في هذه المسافة التي تقرب من القرن إلا عقد زمني واحد، إذ على دمائهم كان الانتصار الساحق لأتاتورك على ” أعدائه ”

وضمناً هم كانوا في عِداد هؤلاء الأعداء، بعد تمكُّنه من السلطة ” تصوروا كيف أن اتفاقية لوزان جسَّدت نصرين معاً: إعلان الجمهورية التركية الأولى، وإخراج الكرد ” الأكراد ” من الواجهة السياسية التركية كلياً، إذ كان لوزان حفار قبر سيفر: الأمل القومي الكردي الأكبر، كما هو معروف !”، وعلى أكتافهم كثيراً كثيراً كان صعود أردوغان، حتى وهو رئيس الجمهورية ومن بوابة دينية، وفي هذا المعبر الرجراج ولكن المجرّب لقوة التوازن، تبرز اللعبة السياسية بوجوهها الألف، ويظهر جانب مؤثر من الحضور الكردي بمفهومه الاثني” بله القومي ” مدمجاً بالمشروع الأردوغاني الإسلامي الطابع، لكنه القومي التركي الأكثر مرونة وحنكة في العمق .
تلك هي السياسة، نعم ! والقوة في تجلياتها تدابير وتعابير ومعايير لا يحاط بها، والسلطة، كما يحلو لمنظريها أعقد وأعمق مما يتردد حولها أو باسمها، والدرس الانتخابي الشارعي التركي معطى سياسي يؤخَذ بعين الاعتبار من قبل دول الجوار وعلى مستوى عالمي، وهو الجامع بين وجهين متداخلين، لا يتنكَّر لخاصية الربط الغريبة بينهما: إسلامية الانتماء وتركية الولاء: شرقية الجسم، غربية الوسم، وكما كان أتاتورك ينحّي الإسلامي بعيداً عنه لا كرهاً فيه، إنما حباً بالتركية وأوان قطافها في ظروف استوعبها بدهائه السياسي ” هل نقول معاوية التركي هنا ؟ “، فإن أردوغان ينحي التركية جانباً بصورة ما، لا كرهاً فيها طبعاً، وإطلاقاً، وإنما حباً بها، ولتكون الإسلامية ” البطاقة الأتاتوركية المستثمرة سالفاً ” مُدارة بطريقة أخرى.
العمامة لم تُزح القبعة، بالعكس: ثبتتها وهي معادة صياغة وتوليفاً! لقد أفصحت الانتخابات الأخيرة، وربما كما كان ذلك متوقعاً، أن أردوغان الذي كان قبل فوزه اللافت وعن طريق ” الشعب ” مرئياً بوجهه الإسلامي، ولابساً العمامة تقديرياً، برز متعدّي الوجه الواحد، جامعاً بينها وبين القبعة هذه المرة، ونسبة كبيرة من الكرد الذين استمروا، ولو تحت الضغط لابسي القبعة لعقود زمنية طويلة، وجرّاء العنف السلطوي، ظهروا أتاتوركيين” بقبعة خفية كذلك ” في المسلك أو التوجه السياسي الفعلي، إسلاميين كتمثيل في الاستجابة لصوت أردوغان .
ليحسب من يشاء أن يحسب للكم المقدَّر من الإخفاقات، ولائحة الفساد، وعلى أعلى مستوى ” إذ لا ينفع هنا من يحاول التشديد على بروز سوأة أردوغان ومن معه، طالما أن الصحافة الرسمية أسهمت في ذلك إلى جانب الإعلام، وعلى الهواء ومباشرة..بقدر ما تأتي النتيجة عكسية “، ويكون الطعن في مصداقية أردوغان بصفته مستبداً، مكيافيلياً على طريقته، وهنا يكون ضحك من نوع آخر، إذ متى كانت المكيافيلية خطأ، أو جريرة سياسية محل مساءلة ؟ بالعكس إن انتفاءها هو الذي يستدعي السؤال، تلك المكيافيلية التي تبقي المجتمع في وضع من التماسك، وضع يحفّز المنتمين إليه بكل مكوناتهم، ليعيشوا حيوات تعنيهم، وهم يقارنون ما يجري بالنسبة لهم بما يجري حولهم في دول الجوار، وأن يكونوا في صورة أفضل الموجود بالمقابل حتى لا يخسروا كامل وجودهم جهة الانحدار التاريخي والتشظي المجتمعي بالكامل :
لا بأس أن ينظَر في أمر المتحولات الاجتماعية والسياسية في تركيا، وخصوصاً بعد اندلاع الأحداث في سوريا ” 15 آذار 2011 “، وكيف كان يُمسَك بالعصا السياسية وهي تتجاوز حدود تركيا ” عصا توازن ما بالنسبة لأولي أمر السلطة، وهي هراوة في آن على هامات من حاولوا ويحاولون نخر العصا تلك “، ولتعيش تركيا ذاتها اختبارها العصيب، حربها المركَّبة على طريقتها، هي ومن معها داخلاً وخارجاً: السياسة استمرار للحرب بوسائل أخرى هنا، طالما أنها تثمر جهوداً.
هنا ربما من باب غواية المقاربة والمقارنة، ولو سريعاً: القول بأن قصر” يلدز ” لم يعد يحكم، ولكنه مقيم في الخلفية بمدلوله التاريخي، ولا ” مجلس الأمة التركي الكبير ” هو الذي يفرض سلطته، ولكنه لا يعدِم مفعوله مقابل ” يلدز “، فثمة الساحة بمستجدها “ آغورا “، وهو ثالوث، لا أعتقد أن النظر في تركيبته بمعدوم الفائدة للتعرف على ” البيت التركي بمنازله الكثيرة “!
لا بأس أن يجري الحديث عن الدعم المرئي لتركيا النظام للمعارضة السورية وعلى أعلى مستوى ” وهي قاعدتها “، وبالمقابل، أن يكون تسهيل لعبور متشددين إسلاميين عبر بوابتها جهة آسيا الوسطى ومن خلالها بالذات” دواعشيين فيما بعد ” ليس عبر معبر موجَّه في ” سري كانيه : رأس العين ” في روجآفا وحدها فحسب في مواجهة الظهور الكردي ” pyd كامتداد لـ pkk ” وكل الطواقم أو التشكيلات السياسية والاجتماعية التي باتت تعرَف في روجآفا، وإنما من نقاط عبور رسمية وغير رسمية أخرى، وأن تفسح في المجال حتى  بالنسبة لمتعاطفين أتراك في أن يعبّروا عن حضورهم.
لا بأس أن يظهر كل ما يمكن ظهوره أو إظهاره في تركيا، كما لو أنها على وشك الانفجار، وهو تقدير يسهل القول فيه بأنه مستقى من انطباعات أو من تقييمات أحادية الجانب، حيث عقل الرغبة غير رغبة العقل، لأن هذا المستشرَف الإعلامي والسياسي التركي الرسمي ومع مختلف الفرقاء والقوى السياسية ” حتى مع القائد والسياسي الكردي عبدالله أوجلان الذي لم يكن وضعه في ” إيمرالي ” بمثابة نفي له خارج الجغرافيا التركية، إنما في العمق، وإن إبقاءه وهو في المحتجز ومنذ خمسة عشر عاماً، قابلاً للزيارات، أفاد السلطة أكثر من الكُرد أنفسهم، وإن ظهوره الإعلامي غيّب مفهوم كل من المنفى وحتى السجن بالمعنى الحَرفي، في دولة عرِف عنها طوال عقود زمنية أنها لا تدخر جهداً في تصفية خصومها: أعدائها، والكرد بصورة رئيسة، وأن لا بد من مقاربة هذا التفعيل لحدث استثنائي واستثماره سياسياً “، وما يمكن أن يخرج من المعطف البككاوي في الرهان السياسي وللرأي العام عبر رفع سقف المكاشفة وتوجيه الأنظار إليه..كان له حسابه الاستراتيجي، وفي العمق تلك الهندسية في الترتيب والتوضيب وتوخي النتائج، لنكون خارج مضمار الذهنية التقليدية المستنسخة من قبل خصوم الجمهورية والإسلامية معاً، من قبل من هم مع الكرد كشركاء مصير أو دون ذلك معاً، ومن جهة الكرد بالذات، حيث تركيا تزداد حضوراً بقدر ما تثري ولا تفقر عملياً تجاه مستجدات قائمة.
لا يظنن أحد أن في المتقدم مديحاً ما، وهو يكال لتركيا، إنما هو جانب من جوانب تقصّي بنية الدولة، والنظام، حيث إن أي دولة أكبر من المفهوم الحسابي لسلطاتها الثلاث، مثلما أن السلطة أكبر من أن تتحدث في مشخّصها التنفيذي، وأن النظام أكثر تجاوزاً ولا مرئية من الاسم الذي يمكن أن يعرَف به، أكثر من القوة التي تتشخصن هي الأخرى ومواقعها الموزعة هنا وهناك .
لأول مرة في التاريخ التركي، كما لو أننا إزاء مئوية جديدة، حيث التذكير بمرور قرن على الحرب العالمية الأولى، نجد أنفسنا في مواجهة منعطف تاريخي مغاير، لا يخفي ارتباطه ببنية المتغيرات، لكنه المنعطف الذي يتكامل مع المنعطف التاريخي الذي حمل ختم أتاتورك، الذي أشير في عهده بداية إلى هذه الـ ” لأول مرة ” وبشكل لافت أكثر، مع تلك الجمهورية التي أعلِن عنها. لذا، ما أسهل أن نقول: لعل تركيا صارت أكثر هيبة، وهي تجمع بين أتاتورك وأردوغان.

ليكن الحديث عن الكِلَف، الضحايا، الجرائم السياسية، صرخات المنكَّل بهم..تلك وسيلة من يتنكر لوجوده الفعلي في التاريخ، وما يحرّك التاريخ، فمآسي التاريخ لا تدعوك لأن تبكي وتسفك الدموع، وإنما أن تقرأها في المفارقات وتبتسم !!

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…