استناد إلى المنطق السياسي البسيط، تبين على أن الولايات المتحدة الأمريكية سوف لن تقوم بعمل تعارض مصالح الدولتين الصديقتين والمرتبطتين بها باستراتيجية متينة، والتي تمر من خلالهما معظم مصالحها في المنطقة بل وفي العالم الإسلامي. لا يمكن أن يكون هناك تعارض بين الأقطاب المعروفة بانها تنتهج استراتيجية متقاربة جدا في العالم أو في منطقة الشرق الأوسط، ومن المعروف أن التصريحات الاستراتيجية من أحد الأطراف، انعكاس على اتفاق ما في الأروقة المعتمة، ومن الطرف الأخر مصالح مشتركة متداخلة. والمصالح الدولية لم تتعرف يوما وعلى مدى التاريخ على الأخلاق والقيم الإنسانية، وتركيا بشكل خاص لا بد وأنها ترى مصالحها من خلال ظهور الجزء الجنوبي من كردستان الكل، وهذا المفهوم ينسحب على إسرائيل أيضا، حتى ولو كانت نوعية المصالح تختلف. علماً أن مخاوفا تطرح ذاتها حول مستقبل الإقليم، بخصوص الدول التي أعلنت عن ترحيبها باستقلاله، وهناك احتمالان، أولهما على أنها عملية تمهيد لإسقاط حكومة الإقليم في مطبة الصراع مع الكل، ببنائها بدعمهم، ومن ثم تهديمها بيد الأخرين، والاحتمال الأخر المشابه للرؤية يبين على أن الحلف المؤيد للاستقلال تفتقر إلى القدرة على تحقيق استقلاله، وأن العملية تكرار لما حدث في السبعينيات من القرن الماضي، ودليلهم على أن ميزان القوة تميل إلى جانب مجموعة البريكس ومن ضمنهم الهلال الشيعي، وأن الحلف الأمريكي الآن في الوضع الذي كان فيه السوفييت قبيل الإعلان عن انهياره. لكن هذين الاحتمالين تفندهما مصادر المجلس الوطني الكردستاني –سوريا عندما بحثوا الفكرة معهم، مع ذلك ورغم الثقة بالمصدر تبقى الحذر والحيطة من ضروريات المرحلة وخاصة في الخطوات التي يجب أن تقوم بها حكومة الإقليم، بالانتقال من الواقع الفيدرالي إلى استقلال جزئي.
المصادر هي نفسها التي أكدت للمجلس قبل سنتين أن الولايات المتحدة الأمريكية ليست جدية على تغيير النظام السوري، ولم تدرج في خططها إزالة بشار الأسد حتى الأن، وأن دعمها للمعارضة لا تتجاوز عملية التوازن، وهو ما ذكره المجلس للمعارضة الوطنية مرات، وأخبروا بعض الإخوة في الحركة الكردية والكردستانية، ولم يعيروها اهتماما، وهذا ما بدأ يصرح به روبرت فورد الأن بعد انتهاء مهمته كمسؤول رسمي عن تصريحاته، في الوقت الذي كان هو عراب هذه السياسة على مدى السنوات الماضية وكان يسكت عليها، ومطالب المجلس للحركة الكردية بخلق الذات وبناء النظام الفيدرالي الذاتي لم تلقي آذان صاغية، وكل ما عملوه هو الإعلان عن النظام الفيدرالي بشكل نظري، واندرجت المنطقة إلى ما هي عليه من تشتت وضعف في مواجهة التيارات التكفيرية كداعش ربيبة السلطة السورية الشمولية تحت استراتيجية الهلال الشيعي وسابقا النصرة بشكل انفرادي، وبمجملها لم تندرج لصالح القضية الكردية، بقدر ما ساعدت على تحقيق أجندات قوى أخرى.
ويبقى السؤال وارداً لماذا التصريح الرسمي المعارض للاستفتاء من وزارة الخارجية الأمريكية؟ لا شك هناك عدة عوامل، منها:
1- سياسة أوباما المعارضة على إدراج قواته في حروب خارجية، وتعويضها بقوى محلية للقيام بمهام القوات الأمريكية، وتحقيق أجنداتها في المنطقة، بينت لها أن القوات العراقية التي أصبحت ضعيفة وهي تابعة للمالكي بالشكل العملي، أو أنها قوات تستند إلى الطائفة الشيعية والتي لا يعتمد عليها في إرضاخ كلية العراق، أو امتلاك القدرة على الوقوف في وجه التيارات الراديكالية عند الضرورة، لهذا من الأهمية بمكان حصر القوات الكردية ضمن العراق الموحد حتى وبشكله الحالي شبه المستقل، فالبيشمركة ستؤمن مع القوات المركزية القوة اللازمة للمهمات القادمة.
2- كثيرا ما يورد العامل التاريخي، وهي الحساسية المستمدة من قيادة كردية اسماً وإسلامية فعلاً، فالتراكمات المستمرة للدراسات والبحوث التاريخية لتلك الحقبة بينت للشريحة المسيطرة على سياسة الدول الكبرى، أن الكرد أكثر شعوب المنطقة صدقا في دفاعهم عن منطقتهم، هذه الدراسات خلقت حذراً غير مباشر من سيادة الكرد على المنطقة والتي ستؤدي إلى بناء كيان ديمقراطي قد تجاري أكثر الدول ديمقراطية، حينها ستغلق العديد من الأبواب في وجه مصالح تلك الدول الراغبة بالبقاء مسيطرة على المنطقة. والمحادثات التي جرت في مؤتمر القاهرة بين وزير المستعمرات البريطاني ونستون تشرشل مع المعتمد السامي البريطاني السير بيرسي كوكس في عام 1922 والذي اعترض وبشكل قاطع على استقلال كردستان عن العراق ضد رغبة تشرشل، تبين هذه الحقيقة.
3- عند عرض المصالح على بساط البحث في الشرق الوسط، توضع كردستان الدولة التي لها أعداء كثر ولا تزال تبحث عن كيان، في كفة من الميزان، أمام عدة دول عربية وتركيا موحدة وإيران في الكفة الثانية، وهنا لا بد وأن الوضع في الواقع الجاري راهناً، ترجح كفة الذين يعارضون إقامة كردستان، وكل تأييد لها ستعرض تلك المصالح إلى زعزعة، وهنا لا توجد للقيم والأخلاق الإنسانية حضور.
4- الصراعات الجارية لم تنتهي ولم تصل إلى مرحلة بناء الكيانات التي تمزق جغرافية سايكس بيكو وبناء الشرق الوسط الجديد، بالنسبة للدول الكبرى، خاصة ولا تزال التيارات التكفيرية قوية ويلعبون الدور الأساسي في الحروب الجاري، فأية تقسيمات محددة ستؤدي إلى استقرار، ومن بينها استقرار لتلك التيارات مثل دولة داعش وانضمام النصرة وغيرهما إلى الدول الجديدة وستكون هذه الدول مصدر الإرهاب والتهديد المستمر للدول
الكبرى ولإسرائيل، فاستقلال كردستان ستكون هدماً لحاجب الممانعة أمام الأخرين لبناء دولهم.
ما قيل للمجلس أن إسرائيل تنظر إلى القضية الأخيرة بطريقة أخرى، فوجود دولة ديمقراطية في المنطقة (كردستان)، وظهور دولتين لطائفتين (الشيعية العربية والسنية العربية) ستخلق موازين مغايرة، فالعداوة بين الطائفتين أبعد من الانفراد بإسرائيل، ووجود دولة صديقة ديمقراطية ستفتح الباب لعلاقات متعددة لها ضمن منطقة الشرق الأوسط.
هذه العوامل تندرج لصالح الإعلان عن استقلال جنوب كردستان، ولا تعني عداوة للشعوب الذين شاركوهم الحياة عقود من الزمن، بخيرها وشرها، لكن وللأسف الثقافة المسيطرة على المنطقة تهيمن على مفاهيم شرائح عديدة من السياسيين والمثقفين العرب والفرس والطورانيين وغيرهم، بعدم تقبل بناء كيان كردي مستقل، فهم الذين تربوا على أن يكون الكردي تابعاً وموالي لحكوماتهم، ولا ينتبهون إلى قيم الحرية للإنسان الآخر وتأثيراتها الروحية على البشرية، وما سيخلق على عتبات استقلالها من المحبة، والتعامل مع الشعوب الأخرى باحترام وتقدير، لكن الثقافة السادية العنفية عند الشريحة المناهضة أعدمت فيهم الثقة بالأخر، فلا يقتنعون أن إقامة كردستان مستقلة سوف تقضي على جزء كبير من العداوة في المنطقة، ولا يؤمنون بأن كردستان ستكون عامل سلام واستقرار للمنطقة كلها.
الأصعب من الموقف الأمريكي المعلن رسميا، ومواقف الشرائح العنصرية من بعض الشعوبيين في المنطقة، هي تصريحات بعض قادة الحركة الكردية، ومعاداتهم لاستقلال كردستان، والتي قد تؤدي إلى مواقف عملية، دون إعطاء تبريرات منطقية، أو دراسة التاريخ والمستقبل بواقعية، ودون وضع مستقبل الأمة الكردستانية في ميزان الخطأ أو صواب الخطوة. يستندون إلى مفاهيم مؤدلجة في تصريحاتهم وبياناتهم، من منطق الاعتراض وليست النصيحة أو التحذير، علما أن خطوات الاستقلال لا تتعارض الإيديولوجية المتبعة للمنظومة التي ينتمون إليها، والمفاهيم الأممية، المتبلورة في السنوات الأخيرة كإيديولوجية والتي ألغت ماضي المنظومة، لكن البعض يسخرونها للقضاء على الأبعاد القومية بين الكرد دون الشعوب الأخرى المجاورة، والتي هي في حقيقتها تغطية لاستراتيجية الهلال الشيعي للمنطقة، الفارضة عليهم معارضة استقلال كردستان، رغم أنها كانت الغاية التي حاربت المنظومة من أجلها أكثر من ثلاثين سنة، وتطمس اليوم تحت الرؤية الأممية للمنطقة، النابعة من النظرية المشابهة للشيوعية والمثبتة عقمها في الماضي، خاصة بالنسبة لكردستان ومن مريدي تلك الإيديولوجية من الكرد ذاتهم، الذين كانوا يعارضون حرية شعبهم وبالمقابل يطالبون بتحرير شعوب في الطرف الأخر من الكرة الأرضية من تحت نير استعمار لم يكن له وجود! الإيديولوجية نفسها تنشر اليوم وتحت غطاء ذاتي مستحدث، وحتى ولو كانت الغاية إيديولوجية لكنها في النهاية تقضي على الحلم الكردي عندما يقترب إلى الواقع.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
Mamokurda@gmail.com