النقد المتهاون لا يزكي ثقافة الكرد (الجزء الأول)

د. محمود عباس

  كتاب أو مثقفون، يملكون الكلمة، ويسخرون القلم لخدمة أفكار هنا وهناك، ولكنها شلليه، ينقبون في المناطق الأكثر أمانا للذات، ويتحركون بحرص في الأجواء الأفضل راحة، وهم أسرع أقلام القضية هجرة إلى الأماكن الآمنة والمطمئنة، حتى لو كتبوا عن فتات القضايا الجزئية المتناثرة يومياً. يهجرون الوطن والقضية الرئيسة فكراً وقلماً، وهجرتهم أسوأ من الهجرة المادية، ومضارها اشمل. يتركون الأساسيات من القضايا المفروض شرحها وتوضيحها أمام الجماهير بكل أبعادها. وعليه يجب ألا تأخذهم رهبة السلطة فيما إذا كانوا يعدون ذاتهم أصحاب رؤية، لكنهم، في الواقع، يتناسون عن دراية الدريئة الصائبة، ويوجهون أنظار الناس إلى قضايا ثانوية، ويتسترون عليها بحجة معاناة الأمة، التي تشمل الكل دون استثناء.

لنكن واقعيين، إن بيع الوطنيات على أنقاض المآسي وآلام الشعب لا يخلق من الكاتب بيشمركة الحركة الثقافية، ولا يخفي أخطاءه، وتهاونه مع الآخرين. ما يعانيه الشعب في الوطن يمس الجميع، ويلدغ كل الأحاسيس. نعيشها، نحن قطاع الخارج، ليس بالحالة المادية؛ لكن روحا وشعوراً، ربما لا يجوع المهجر، ولا يعاني من نقص في المواد؛ لكنه يعاني نفس المأساة في تأنيب الضمير وضياع الروح، وغياب الوطن. لذا ليس من الإنصاف احتكار بعض مثقفي الداخل رداء الوطنية لنفسه حارما الخارج منه؛ لكونه يعيش المعاناة بلحظاتها، وهذا قد لا يختلف عن حجة السلطة بتدمير الوطن بذريعة محاربة التكفيريين. فمن العدل للمثقف الذي لا يملك القدرة على مواجهة القوة الشريرة والفاسدة، قوة السلطة السورية، ببشارها وبعثها، ألا يفرض على الذات أن يكون كحارس ليلي يكتفي بالتصفير وإرباك مفاهيم الجماهير، ملقيا بالعتب على المهجرين من الكرد. فالمسؤول الأول والأخير عن الدمار الخلقي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي للوطن قبل الثورة، ناهيكم عن مرحلة الثورة، هو النظام. والذي أغرق المنطقة والشعب الكردي بكل أنواع المآسي، هو الأسد وسلطته في سوريا. وليس من الحكمة طعن مثقفين، يكتبون قدر المستطاع أو حراك سياسي يعمل حسب الإمكانيات المتوفرة لديه، في وطنيتهم. وكذلك من غير اللائق تضخيم أخطائهم البسيطة بدقائقها، في الوقت الذي تحيط بشائع السلطة بالكل، وتفرض على الجميع إرادتها وقوانينها. وبديهي ألا يتجرأ أحد الانتباه إليها. فما يحيط بالأمة رغم الأخطاء الذاتية، والتي لا ينفيها أحد، لكنها تبقى ثانوية مقارنة بالمخططات العنصرية الخبيثة للسلطة. هذه السلطة التي ترسل بالتيارات الإسلامية التكفيرية كـ (داعش والنصرة وغيرهما) إلى المنطقة لتقسمها إلى ديمغرافيات منعزلة عن بعضها، ومن قبلها أفرغت المناطق من الكرد، ويكاد يكون هذا كليا، بهجرات قسرية أو طوعية، جراء القحط والرهبة. وهنا، من الأولى توجيه معظم الأقلام سهامها نحو السلطة لتدميرها. ويكون هذا تدشين بداية تغيير النظام الفاسد الطاغي حاليا، ولا بد، وقتها، من جلاء الأمور لحل معظم الأخطاء الذاتية المتراكمة أو المفروضة على الكرد، ومن ضمنها الحراكين السياسي والثقافي، حينها لا بد للحلول أن تأخذ مكانها السليم في إنهاء معاناة المنطقة.
إرغام الذات على نقد قضايا هامشية وطرح مواضيع ثانوية من أجل الإبراز لا ينتج الضد النقي، ولا يبشر بجمالية ثقافية، فأجمل الكتابات هي التي تخرج بفعل المنطق وبعد تمعن في نوعية المصائب المحاطة بالأمة، فالنقد على علاته، وخاصة لأقرب الناس مفهوما ونوعية ثقافية، لا يبرئ الناقد قبل غيره من الانتقائية، ولا يسفر عن ثقافة نوعية، فالعموميات من أسهل الأمور الممكن الكتابة فيها. الجدير بمعظم الأقلام الحاملة للنقد الانتقائي، وتعميمها على كل الأطراف، خاصة تلك التي لا خوف منها، عليها الصوم عن الكتابة لبعض الوقت، ومراجعة ذاتها، والتمعن في منابع الآفات الناخرة لجسد الأمة: الثقافية والسياسية؛ وكتابة عدة مقالات ونشرها، وملئها بالنقد والتهجم، مع استخدام رطانة مقصودة، قد يكسب رأي القراء، لكنها ستخلق نوعا من الثقافة المشوهة، والتي لن تكون أفضل من ثقافة السلطة الحاضرة. فالمثقف الناقد عن صواب هو الذي يتوقف بين فينة وأخرى لمراجعة الذات والكتابات التي يصدرها؛ والمواضيع التي يتلقفها بنقده؛ والشرائح التي يتعرض لها ليستخلص إلى مواضع الضعف والقوة، والخطأ والصواب، والسهو عن المهم.
  يحتضن المجتمع الكردي كتابا ومثقفين، قدراتهم وملكاتهم الفكرية تتجاوز جغرافية كردستاننا، لكن الظروف المحاطة أو التي أحاطهم بها السلطة الشمولية أغلقت على طاقاتهم وقدراتهم الثقافية والفكرية كل بدٍ، وجمدت فيهم أبعادا واسعة من المدارك، وبطرق متنوعة، أولها الاقتصادية، حيث ركزت عليها السلطة بخبث ودهاء، فخنقت المنطقة في حصار اقتصادي مميت، وضيقت الخناق على الأقلام النيرة بتخطيط دقيق. ومعظمنا يعلم الأساليب التي استخدمتها السلطة الشمولية للإبقاء على المثقفين الكرد في عوز دائم، والمعاناة المادية إنْ كانت كثيرا ما تدمر الملكات الفكرية، ولكنها تفرز نخبة ترشد الأمة إلى طريق النجاة، ولم ينجُ من هذا الحراك الكردي السياسي أيضا، على مدى عقود من الزمن. وكان من المأمول تبلور مجموعة قادرة على إيجاد المخرج الأكيد. وما يؤسف له، أننا لم ننتج حتى اللحظة ما كان مأمولا.
 لا شك، نقد الحراكين في حالة الاستوجاب صحية، لكنه يصبح علة ومرضا مزمنا إذا …
يتبع….
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
Mamokurda@gmail.com

 نشرت كافتتاحية لجريدة بينوسا نو العدد(25)، الناطقة باسم رابطة الكتاب والصحفيين الكرد في سوريا.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…