وللوجه الثاني فينا متاعب وتراكمات ، رواسب ، تناقضات وإشكاليات ..
وتصارع .
تصارع بين الأول والثاني ، بين الوجه الظاهر ودبلوماسيته ، وما نكنه في داخلنا من أحقاد وضغائن ، بين حقيقتنا وحقيقة ما نبتغيه
بين ما نقول وما نفعل ، بين الأنا – الذات – المتجلية ، والوهم القابع في داخلنا ، والحلم الخارج عن طوعنا … وبين هذا وذاك فواصلٌ من الكلمات ..
!!! .
نحن مجتمعٌ نطمح في التغيير وندعيّه – بتلاوينه وشرائحه – وعلى أساسه نقف على تراكمات رواسبنا ، أخطائنا ، عيوبنا ..
وندّعي التقويم والإصلاح ، التغّيير والتجديد ..
ندّعي ركوب سكة الديمقراطية ، والدخول في عالم المكاشفة والشفافية ، ونتزنر بحزام النقد والنقد الذاتي ، وحرية الرأي والرأي الآخر ، ونخربش على سلالم المنطق ، ولكن؛ وفي كل هذا لنا شروطنا النفسية ، ومحاكماتنا الارتجالية ..
شرطنا أن لا ينبش أحد في ما نحن نراه من سلبياتنا ، تلك هي من خصوصياتنا ، بل مقدساتنا التي لا يحق المساس بها ، ويحق لنا وحدنا أن نأتي عليها ، وإن حدث ، وإن تجرأ أحد بالمساس بها فللمحكمة كلمتها ، سيفها ..
وهنا ننسى ما ندعيه بأن العالم قد تغير ، وأن البعيد أضحى قريباً ، والخصوصيات أضحت عموميات ، وأن ما نعتبره من الداخل أصبح في الخارج ، وما في الخارج هو ملكٌ للكل ..
ننسى أنه أصبح بإمكان الكل ومن خلال كبسة زر أن يجد العلم كله أمام ناظريه ، أن يجد ما يقال عنا وعن غيرنا وحتى عن نفسه ، أن يجد تفاصلينا التي لم نرها ، لأن العادة درجت على أن لا يجد القريب وضعه كما يراه البعيد ، فهو يحسه من خلال ما يتقَول عنه ..
فالصورة الحقيقية ، ودائماً ، تتجلى في الخارج ..
! .
! والآن ، وبمجرد أن تتغير الموازين والمواقع ، تطلق العنان لنفسك وتشهر سيفك ملوحاً يميناً وشمالاً وفي نفسك أن تحد مما يقال ، أو الذي قال ، من الذي تقوله ولكنك تحسبه من الخصوصيات المقدسات ..
! ويوماً ما ، وبقدرة قادر تجد نفسك في ذاك الموقع تماماً ، وأمام هذه اللوحة .
وحينها ، وعندها، يأتي دور الآخر ليقوم بأداء واجباتك ، ولعب أدوارك ..
وعلى هذا القياس الكل يقيس ..
بدءاً من الفرد – الذات ، مروراً بالأطر – الانتماءات ، وانتهاءً بالمؤسسة – الكيان ..
فبالأمس القريب خرج علينا أحد مسؤولي هذا البلد ببشارة خير وبادرة تفاؤل ، خرج ليقول : لا حياة مع الفقر بعد اليوم ، وأنه أصبح بإمكان الكل أن يجد ما يبتغيه ، واعتماداً على هذه البشارة.
ولكن ما أن استقبلنا الصباح التالي ، حتى وجدنا أن الذي دخل أحد الجيوب خرج من الثاني ..
! وتيقنا أن جملة ما قيل لم تكن إلا عبارة عن ترتيب ومقدمة للذي ترسخ في اليوم التالي ، أي أن زيادة الرواتب لم تكن سوى زيادةً في الأسعار ..
أو أن كل هذا كان عبارة عن شكل احتفالي بمناسبة الأول من أيار وتكريم للطبقة العاملة .
فماذا عساك أن تقول لكلماتك ..
فقد تكون نسيت أنت الآخر مستلزمات هذا العالم الجديد ، وعلى أن كلام الليل في عالمنا يمحوه النهار ، ولا تجد هناك من يحترم ما صدر عنه وعنك ..
تكون قد نسيت أننا في عالم ما زلنا ندفع ضريبة تراكماتنا، عقلية المؤامرة ، والتربية التي بنيت على الدجل والنفاق ، تلميع المشهد وتهذيب الحركة ، وتطويع الكلمات ..
في عالم ما زال مقصه يعمل في الصفحات وأسواره تضيّق على الكلمات وأقبية زنازينه تخنق التطلعات، ولكن والكل – ونحن منهم – ينسى على أن شطب المقالات وقص الصفحات لن تمنعها من الوصول ، وتهذيب الكلمات لن تمنع من كشف حقيقتها ، والتقمص لن يجدي سبيلاً أمام قوة الحقيقة .