من قامشلو السياسة إلى تل معروف الكياسة

إبراهيم محمود

لا أظن أن أحداً بقادر على الادعاء أنه يستطيع الإحاطة بكل ما يجري سورياً وفي منطقة الجزيرة، بسهولة، فثمة أكثر من خلط الحابل بالنابل، ولكل منطقة تشملها سوريا راهناً، فولكلورها في الضرب والحرب، والسلب والنهب، والمقاومة والمساومة، والكر والفر، والقال والقيل، ولعلّي فيما جرى من أحداث مروّعة حقاً في قرية ” تل معروف “، ولي فيها أهل، وأحبة، ومقامات من أقدّر عن قرب، ومدافن وأضرحة ذوي أصدقاء شديد القرب أنا منهم، وجدتني طوع هذه السطور، وأنا في حيرة مما يمكن قوله، إزاء هذا المستفحل ونهاية هذا السيناريو الذي يفيض على حدود البلد والتصورات.
لعله بعض من الوجدانيات ليس إلا، لعله بعض الانفراج عن كرب وكبت لا فرويد ولا كل أتباعه وأشياعه بقادرين على مقاربة خفيّه، لعله بعض الكلام الموزون في غفلة، لعله بعض الاسترسال في قول هو نفسه مصاب بهول الجاري، لعله أكثر من ” الحرب والسلام ” وبالإذن من العظيم تولستوي، لعله بعض من العزاء مجدداً لأخوة وأحبّة وأصدقاء، حيث أشاركهم، على قدر ما ملكت روحي من معاضدة في المؤاساة، في مصابهم الجلل: الجغرافي والتاريخي والرمزي، حيث يبكون قهراً وفي صمت، على صراخ مقدر لمن رحلوا وهم في أجداثهم ذاهلون مذهولون إزاء نار تطالهم ليست هي نار جهنم بالتأكيد، إنما نار من يعرّفون بإسلام أوصياء على أوصياء في الدين، نار من يتحمسون لحرق البلد وما ولد، وبتنكريات شتى، نار من كانوا محرومين من النار الفعلية، وهم ينتشون بنار قوامها الإتيان على كل شيء، فلا الجامع، ولا المرقد، ولا ضريح الشيخ، أو جار الشيخ، أو الولي المعتبر في العُرف الشعبي والكراماتي، ولا القرآن الكريم في الحضرة الدينية بقادر على تقديم شفاعة، ولا الملائكة في الجوار باتوا بمبالين بما يجري، وكلي خشية من أن يكونوا هم أنفسهم في حيرة من أمرهم، مبلبلين إزاء ما يمكنهم كتابته، وكلي علم ما بمجريات التاريخ مذ وجد، وخلط الأوراق، سوى أني أجدني عائم بهذا القول أو ذاك، لكأن طوفاناً آخر، قياماتياً في الأفق: أين هي سفينة نوح، وجوديها؟ لعله كل ذلك، وأنا أدوّن الكلمات: اللكمات المرتدة كثيراً، وأنا أجدني سالكاً الطريق وملؤه المواجع بين قامشلو مسرح تحركاتي واستطالاتي الروحية ومواعيد للقاءات عابرة وموثقة ومثمرة كانت وغيرها، وتل معروف ذات الصيت، وها هي تستعيد واعيتها، أعني بها تبصر حقيقتها في أنها قابلة لأن تتعرض للحرق والخرق، حتى من قبل أقرب المدعين قرباً إلى المقيم في سدرة المنتهى، لعلها بعد الآن تستطيع التفريق بين ما يعنيها بشراً بلغتهم الفعلية، وما تؤخَذ به على هؤلاء، وألا تعود إلى الخلط والتمويه بأن الأخوة في الدين صون لكل مؤمن بيسر، ألا تقول: الدين لله والوطن للجميع، فأي دين يخص الله، وأين وطن يعني الجميع، أي جميع يكونون الوطن، وأي الله يُرسم دينياً، وقد تكاثرت وتناثرت أسماء كل فرقة ضد الأخرى؟!
قامشلو السياسة، وأي سياسة في قامشلو، وثمة الكثير الكثير الممكن نقله ورتقه وبثه حول الشارد والوارد حول حرف واحد يتغير، ليكون سواه في عائلة” أبجديته “: قامشلو، قامشلي، رغم أن الثانية من نوع الأولى،غريبة على الضاد، ولا قبَل للضاد بها، سوى أن الإمعان في التشفي القوموي والشعبوي، أضفي على حرب الصائتْين: الواو والياء، كل هذا المضي في المجابهة والمواجهة سراً وعلانية، وإقحام لغات وتواريخ؟ أي سياسة تطيح بقامشلو أو قامشلي، أو أي صيغة صرفية لم تعد حتى في الأفق المنظور بمجدية لتهدئة النفوس والأرضين السبع والسماوات السبع بالمقابل، حيث الفيروس المجنح والمسيّر عن قرب وعن بعد؟ أي سياسة تخص البلاد والعباد ولا تبقي لا على بلاد ولا على عباد بالجملة والمفرّق؟
تل معروف الكياسة، حيث البساطة ولم تعد لها من قائمة، حيث سرعة التقبل بأن البقعة المسماة بمحمية ومباركة، وها هي تتلقى ضربات مدمرة فلا الفيزياء ولا الكيمياء ولا الاجتماعياء ولا السياساء بحائلة دون ذلك. لا بد أن الآتي لن تبقي معروفاً بتل، ولا تلاً بمعروف، وإنما المعروف الذي كان، أو التل الذي انمحى وصار محله تل آخر من الضحايا مجدداً والحكايا والآلام في هذه الجهة أو تلك .
لم يبق عندي إلا أن أعزي البلد جملة وتفصيلاً، أن أعزي قامشلو، أو قامشلي، لا فرق عندي وأنا أتنفس كلاً منهما، شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً، وأن أعزي تل معروف في الطريق الذاهب إليها، والممتد نحوها من الجهات الأخرى، أعزيها، أعني أهلها الأحياء في ضحاياهم الجدد وهم طي أجداثهم: تربتهم، وضحاياهم الجدد وهم بدون كفن من تراب أرضي، وأشد على أيديهم على مصائب وخرائب لما تزل في الأفق، وأنا منهم وإليهم.
وليس لهم، ليس لنا إلا أن نكف عن إحصاء ضحايانا وقتلانا وموتانا جرحانا وخسائرنا، حيث الحساب مستقيل هنا، ولا علم لأحد من سيكون الشاهد الأخير على هذا الجنون الآخر الفالت من عقاله من حيث يقيم ساسة القتل والدم إلى حيث يصرخ الدم هنا وهناك ..

دهوك

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف يكتسب الخطاب الشعبوي سلطته وسطوته حين يتم استغلاله كأداة لإعادة تشكيل الواقع وفرض رؤية محددة، لتسيدها، بغض النظر عن صحتها أو توافقها مع منطق الواقع. هذا النوع من الخطاب لا يكتفي بتقديم المواقف الخاطئة بوصفها حقائق، بل يتجاوز ذلك إلى تشويه المواقف العقلانية، وتجريم كل من يتبنى رأياً صائباً، في محاولة لترسيخ الوهم وإضعاف كل محاولة للتصحيح. إن…

فرمز حسين ليس سهلاً البقاء في القمة، مقولة سويدية و تعني أن الحفاظ على البقاء في القمة أصعب بكثير من الوصول اليها. هذا المثل ينطبق حرفياً على هيئة تحرير الشام و الفصائل الاسلامية المسلحة الأخرى التي دخلت دمشق منتصرة. الأسد سقط و زمرته بعد ثورة شعبية دامت أكثر من ثلاثة عشر عاماً شارك فيها الأغلبية الساحقة من السوريين مضحّين في…

نظام مير محمدي* لقد أشعل تحرير سوريا الجدل من جديد حول الفرص الضائعة التي أطالت أمد نظام بشار الأسد الوحشي. فقد كشف الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند في مقابلة أجريت معه مؤخرا أنه في عام 2013، خطط هو والرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما ورئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون لشن ضربة لزعزعة استقرار الأسد بعد استخدامه للأسلحة الكيميائية. ومع…

صلاح بدرالدين مؤتمر جامع في قامشلو على انقاض اتفاقيات أربيل ودهوك الثنائية لسنا وسطاء بين الطرفين ( الاتحاد الديموقراطي و المجلس الوطني الكردي ) وليس من شاننا اتفقوا او اختلفوا او تحاصصوا لانهم ببساطة لن يتخلوا عن مصالحهم الحزبية الضيقة ، بل نحن دعاة اجماع قومي ووطني كردي سوري عام حول قضايانا المصيرية ، والتوافق على المهام العاجلة التي…