مفهوم المجتمع المدني المعاصر

  هوزان المرعي

إن مدى تطور أي مجتمع يرتبط بمدى تطور سياسات وتشريعات الدولة في مواجهة المجتمع المدني ومدى توافر مرجعية قانونية مقبولة ودور الدولة في تسهيل أو إعاقة التربية المدنية .
لذا يسعى المجتمع المدني يوميا في تعزيز وحماية وتحسين حقوق الإنسان في كل أنحاء العالم.

ومهما اختلفت تسميتهم –المدافعون عن حقوق الإنسان، المنظمات غير الحكومية لحقوق الإنسان، نقابات المحامين، النوادي الطلابية، نقابات العمال، المعاهد الجامعية، المدونين أو الجمعيات الخيرية التي تعمل مع فئات عرضة للتمييز
– فإن العناصر الفاعلة في المجتمع المدني تعمل لأجل مستقبل أفضل وتتشارك في أهداف عامة لتحقيق العدالة والمساواة واحترام الكرامة الإنسانية.
إن مفهوم المجتمع المدني يعود إلى القرن السابع عشر على يد الأنكليز (هوبس) لكن اكتملت فكرة هذا المفهوم في فرنسا على يد المفكر جان جاك روسو من خلال كتاب العقد الإجتماعي (1762) فقد تحدث عن المجتمع المدني من خلال انتقال الفرد من حالة الفطرة إلى حالة اجتماعية مدنية بموجب عقد مبرم بين أفراد المجتمع شكًل الأساس القانوني والشرعي لقيام الدولة .

فقد تنازل الأفراد عن جميع حقوقهم كأفراد لصالح الدولة لتؤمن لهم السلام والأمن
 كما ميز الفيلسوف الألماني هيغل بين مجتمع الدولة والمجتمع المدني وجعل من الدولة شرطاً لإمكانية قيام المجتمع المدني أي أن دولة القانون هي التي تتيح وجود المجتمع المدني وإلا انهار هذا المجتمع وعاد إلى حالة الفطرة .
أما ماركس فقد أعطى الأولوية للمجتمع المدني بحيث تحدث ثورة المجتمع المدني على الدولة التي لا بد أن تتلاشى .

ليحل محلها بنية تحتية وبنية فوقية .
بينما الأمريكي “أليكس دي كوكفيل” فقد اعتبر أن مؤسسات المجتمع المدني تقوم بكبح جماح التصرفات التعسفية للحكام وتساهم أيضاً في تكوين مواطنين افضل يضعون في إعتبارهم مصالح الآخرين , ولعل أفضل ما يميز المجتمع المدني أنه يتيح الفرصة لوجود جماعة أو طبقة وسيطة بين الفرد والدولة وهذه الجماعة أو الطبقة تكون قادرة على إدارة الصراعات والتحكم في سلوك الأفراد دون قسر السلطات العامة وبدلاً من زيادة أعباء صانعي القرار بمزيد من الطلبات وجعل النظام خارج عن السيطرة ,وأن يحد المجتمع المدني من الصراعات ويحسًن من نوعية المواطنة .
مع بداية القرن التاسع عشر تلاشت فكرة المجتمع المدني بسبب الأزمة الاقتصادية الكبرى والحربين العالميتين , ففرض هذا الوضع مزيداً من تدخل الدولة في جميع المجالات وخصوصاً الإقتصادية والاجتماعية منها .
ثم في السبعينات من القرن نفسه عادت الفكرة لتطفو على السطح من خلال الإنتقادات التي وجهت من قبل المعارضين في بعض الأنظمة الشموليه (الشيوعية ) التي دمجت بين مفهوم الدولة ومفهوم المجتمع المدني , وظهرت بعض الاصوات في الغرب محاولة لتحديد المجتمع المدني .
في بداية التسعينات من القرن العشرين , كثر الكلام في الأوساط السياسية والاجتماعية عن فكرة المجتمع المدني حيث استعمل هذا المفهوم من قبل المعارضة وقوى التغير لتأمين قدراً من المشاركة السياسية .

تعريف المجتمع المدني : 

هو مجتمع المؤسسات السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية الأهلية المرادفة للمؤسسات الرسمية والتي تعمل بشكل طوعي وحر وبإستقلال نسبي عن سلطة الدولة وذلك لتحقيق مصالح أفرادها ملتزمة في ذلك بقيم ومعايير الإحترام والتسامح والإدارة السليمة .
لذا تسعى مؤسسات المجتمع المدني لتحقيق أغراض متعددة منها أغراض سياسية , كالمشاركة في صنع القرار على المستوى الوطني (الأحزاب السياسية) ومنها غايات نقابية كالدفاع عن المصالح الإقتصادية لأعضاء النقابة ومنها أغراض ثقافية كما في الجمعيات النقابية التي تهدف إلى نشر الوعي .

ومنها أغراض اجتماعية للإسهام في العمل الإجتماعي لتحقيق التنمية .

لذا يمكن القول إن العناصر البارزة لمؤسسات المجتمع المدني هي الأحزاب السياسية والنقابات العمالية والإتحادات المهنية والجمعيات الثقافية والإجتماعية .

شروط تكوين مؤسسات المجتمع المدني :

هناك بعض الشروط التي تؤسس لمكونات المجتمع المدني ومن المفترض تواجدها في طبيعة مثل هذه المنظمات :
1 ـ أن يتضمن هيئات أو منظمات مدنية لها صفة الإستقلالية وغير خاضعة لأية جهة .
2 ـ أن تكون منظمات غير إرثية أي أن العضو فيها لا يتوارث عبر العائلة أو العشيرة أو الطائفة أو المذهب .
3 ـ أن يكون الإنتساب فيها طوعياً وفق اختيار واع وحر .
4 ـ أن تتميز عن المنظمات التقليدية أي أن تكون لها صفة الحداثة 5 ـ أن لا يكون هدفها الربحية وبهذا تتميز عن مؤسسات القطاع الخاص .
6 ـ أن تمارس الديمقراطية في جميع أعمالها وعلاقاتها سواء على المستوى الداخلي أو في محيطها الخارجي .
7 ـ أن تقبل بالأختلاف والتعدد .

أهـــداف منظمات المجتمع المدني :

بطبيعة الحال , لمنظمات المجتمع المدني أهداف وغايات ترغب في تحقيقها عن طريق الوسائل التالية :
آ ـ رصد الإنتهاكات والخروقات لدى مؤسسات الدولة من خلال قنوات رقابية .وذلك بتشكيل وايفاد لجان تقصي حقائق ، عند الضرورة ، الى الدول التي تقوم بانتهاكات خطيرة لحقوق الانسان ، وتصدر هذه اللجان مع انتهاء تحقيقاتها تقريرا حول حقيقة الوضع المعني ، دون ان يؤدي ذلك بالضرورة إلى احداث تغييرات على النظام القانوني للدولة المعنية ، لكنها تسهم على الأقل في فضح الانتهاكات والممارسات غير القانونية 
ب ـ اقتراح ما تراه مناسباً من القوانين وأنظمة ولوائح وتقديمها إلى الجهات التشريعية .
جـ ـ العمل من أجل أن يتساوى المواطنون جميعاً في الحقوق والواجبات .
د ـ خلق القدرة وتنمية المواهب لغرض بناء الوطن المزدهر
هـ ـ تشجيع التعاون بين الفعاليات الإجتماعية المختلفة .

أسس مؤسسات المجتمع المدني :

هناك أسس عامة من المفترض وجودها في مؤسسات المجتمع المدني .

يمكن تعدادها بشكل عام :
(1)ـ اساس قانوني : والمقصود به الدساتير والتشريعات وقوانين الجمعيات والإتحادات والنقابات التي تنظم علاقة هذه المؤسسات مع بعض .
(2)ـ اساس سياسي : والمقصود به هو إقرار النظام السياسي بالتعددية وحرية تشكيل الجمعيات والمنظمات والنقابات والتشكيلات المدنية الأخرى ومنحها هذا الحق .
(3)ـ اساس إقتصادي : والمقصود به تحقيق درجة من التطور الإقتصادي والإجتماعي لغاية إشباع حاجات الأفراد الأساسية بعيداً عن مؤسسات الدولة والدعم الرسمي للمشروع الخاص والمبادرات الفردية 
(4)ـ اساس تعاوني : ويقصد به مجموعة الأفكار والتصورات التي يؤمن بها الأفراد وتشكل محددات سلوكهم وعلاقاتهم وتعبر في مجموعها عن الإطار المعرفي والتعاوني .

المبادئ الأساسية للمجتمع المدني :

إن تيار المجتمع المدني يسعى إلى التطوير والتغيير على كل الصعد بنشر الثقافة وتعميم الوعي أصولا إلى تكوين المواطن الحر الديمقراطي العلماني وبناء مجتمع الإنسان .

إنطلاقاً من المبادئ التالية :
أولاً : العلمانية :
 وهي نظرة شاملة للمجتمع والإنسان والفكر هدفها تأكيد إستقلالية العالم المدني بكل مقوماته وأبعاده وقيمه وسلوكه تجاه جميع المذاهب الدينية والفلسفية .

وهي ذات مضمون حيادي بمعناه الإيجابي تجاه الأديان كافة .

لذلك فإن من أهم مميزاتها إستقلالية الدين عن الطائفية واستقلالية الطائفة عن الدولة وإعادة الأعتبار للمواطن كقيمة إنسانية , ترسيخاً لقيم الحق والخير والجمال ومدخلا إلى المواطنية الحقيقية .
ثانياً : الديمقراطية :
 وهي اساس أي نظام سياسي مجتمعي حر .

إنها الوسيلة التي تمكن الشعب من حكم نفسه بنفسه .

عبر إنتخاب ممثليه في الهيئات التي ينبغي أن تمارس السلطة بإسمه ولمصلحته وبمشاركته .

إن حق الإنتخاب والإختيار هو اساس الديمقراطية والديمقراطية لا تستقيم بدون قوانين ومؤسسات وأطر ومناخ وممارسة .
ثالثاً : التشارك :
 وهو تفاعل المجتمع بين أعضائه ومع الدولة في الأقتراح والتفكير وعملية صنع القرار وتنفيذ السياسات والقوانين .

إنه إقرار وتطبيق اللامركزية من أجل تمكين المجتمع الأهلي من المراقبة والمحاسبة ومن الإنخراط في الشأن العام عبر مجالس محلية مختارة على صعيد الحي والقرية والمدينة والقضاء والمحافظة .

وهو بكل بساطة إدارة الناس لشؤونهم وهو أرقى اشكال الديمقراطية 
رابعاً : السيادة :
 وتعني الوجود الحر المستقل الآمن الذي به تتحقق مصالح البلاد، بعيدًا عن التهديد،..

فلا سيادة ولا حرية في ظل نظام طائفي ومذهبي وعشائري .

وأن تملك الدولة سلطةً عليا حرةً في إدارة شئونها داخليًّا وخارجيًّا، وكلما زادت مساحة السيادة الوطنية كلما أمكن تحقيق الأمن والاستقرار.
أما مظاهر السيادة فهي:
الحرية والاستقلال وحق تقرير المصير
خامساً : العدالة :
تعتبر العدالة قاعدة إجتماعية أساسية لإستمرار حياة البشر مع بعضهم البعض، فالعدالة محور أساسي في الأخلاق وفي الحقوق وفي الفلسفة الإجتماعية وهي قاعدة تنطلق منها بحوث إيجاد المقاييس والمعايير الأخلاقية والقانونية.

سادساً : التنمية الشاملة المتكاملة :

وهي نوعٌ من صرف الاهتمام لكل مجال من مجالات الحياة المختلفة الروحية والمادية والثقافية، وهذا موجود في كل دول العالم، وهذه التنمية لا تقوم على فلسفة محددة، ولا تحكمها رؤية واحدة، وأن التنمية المتكاملة ترتكز على رؤية شاملة لطبائع الأشياء وعلاقاتها وتفاعلاتها وتأثيراتها عبر الماضي والحاضر والمستقبل، وهي تتطلب طاقة روحية هائلة وسلوكًا خاضعًا للمبدأ

سابعاً : الشفافية :
هي مبدأ التعامل والتفاعل في العلاقات البشرية.

وهي من ثم عنصر مكمّل للعملية الديمقراطية، بعد حق الانتخاب وحق الرقابة.

فالشفافية رديف ملازم للتشارك والتنمية باعتبارها أداة معرفة ورقابة وتقييم، وهي تجسيد لحق وواجب المواطن والسلطة في الإطلاع وكشف الحقائق وقول الحقيقة.

بدون شفافية لا حرية إلا حرية الاختيار بين السيئ والأسوأ.

فحيث لا معرفة لا حرية.

لا يمكن القول بأن المجتمع المدني هو الحل الجاهز لكل قضايا ومشكلات المجتمعات المعاصرة وهو ليس بتلك الوصفة السحرية التي تخرجنا من أزماتنا الراهنة إلى مستقبل وردي .

فهو حقل للتنافس ومجال للصراع وميدان لعمل القوى الاجتماعية ذات المصالح والمواقف المختلفة وأحياناً المتناقضة .
وإن المضمون السياسي والإيديولوجي للمجتمع المدني ليس عملا متجانسا سلفا بل يتشكل ويعاد بناؤه في كل مرحلة إنطلاقا من موازين القوى الإجتماعية المكونة له .

المراجع :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــ د.

سام دلة .

محاضرة بعنوان (مفهوم المجتمع المدني) ألقيت في 7/4/2000 على مدرج كلية الحقوق بجامعة حلب
ــ د .

محمود مرشحة.

الوجيز في القانون الدولي العام .

منشورات جامعة حلب 1994م
ــ د .

محمد مهملات .

التربية المدنية .

منشورات جامعة حلب 2004
ـ د .

علي الدين هلال: “مفاهيم الديمقراطية في الفكر السياسي الحديث ” .

بيروت 1984
ــ د.

سعيد نحيلي : “دور المنظمات غير الحكومية ” .


ــ ليث زيدان : المنظمات غير الحكومية وحقوق الإنسان

ـ ويكيبيديا .

الموسوعة الحرة .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…

خليل مصطفى مِنْ أقوال الشيخ الدكتور أحمد عبده عوض (أُستاذ جامعي وداعية إسلامي): ( الطَّلَبُ يحتاجُ إلى طَالِب ، والطَّالِبُ يحتاجُ إلى إرادة قادرة على تحقيق حاجات كثيرة ). مقدمة: 1 ــ لا يختلف عاقلان على أن شعوب الأُمَّة السُّورية قد لاقت من حكام دولتهم (طيلة 70 عاماً الماضية) من مرارات الظلم والجور والتَّعسف والحرمان، ما لم تتلقاه شعوب أية…

أحمد خليف الشباب السوري اليوم يحمل على عاتقه مسؤولية بناء المستقبل، بعد أن أصبح الوطن على أعتاب مرحلة جديدة من التغيير والإصلاح. جيل الثورة، الذي واجه تحديات الحرب وتحمل أعباءها، ليس مجرد شاهد على الأحداث، بل هو شريك أساسي في صنع هذا المستقبل، سواء في السياسة أو في الاقتصاد. الحكومة الجديدة، التي تسعى جاهدة لفتح أبواب التغيير وإعادة بناء الوطن…