مسلسل القتل الجماعي بلغ واحدة من ذراه غير المسبوقة في الأيام القليلة الفائتة … مئات الجرحى والقتلى في مجمع تجاري في نيروبي، نفذته مجموعة إرهابية محسوبة على حركة الشباب الصومالية … مئات المسيحيين بين قتيل وجريح في بيشاور، نفذته مجموعة محسوبة على طالبان الباكستانية … مئات القتلى والجرحى في العراق، في سلسلة تفجيرات و”مفخخات”، وأخيراً عمليات انتحارية مزدوجة ومتتابعة في عديد من مدن العراق وبلداته، مستهدفة السنة والشيعة والمسيحيين والأكراد، ودائما القاعدة بمسمياتها المختلفة، هي المسؤولة … أما عن القتل المجاني واسع النطاق في سوريا، متعدد الأسباب والمسببات، فحدّث ولا حرج.
أية ثقافة وعقيدة، تلك التي تسوّغ لهؤلاء قتل كل الناس، بل وقتل أنفسهم … هل يعتقدون حقاً أنهم بذلك سيقيمون شرع الله على أرضه … هل نجحوا في ذلك مرة واحدة فقط، حتى يستوطن أنفسهم إيمان كهذا؟ … كيف يذهب هؤلاء إلى الموت المجاني الرخيص، وبهذه الخفة، كيف ينفرون خفافاً للضرب في كل مكان، وضد أيٍ كان … ما الذي يدفع أحدهم ليجعل من نفسه “سلاح دمار شامل” … لماذا غادروا شتى أرجاء الأرض إلى سوريا، وقبلها أفغانستان والشيشان، والآن نيروبي وغداً لا ندري أية وجهة سيسلكون؟ … ألم ينظروا خلفهم ليروا أن كل ما زرعوه من دماء وأشلاء وخرائب، لم يأت بنتيجة؟ … أين أصبحت الشيشان بعد حروبهم الجهادية، وأين هي كوسوفو والبوسنة والهرسك الآن؟ … بل أين هي أفغانستان والباكستان بعد عقود الجهاد الطويل والمرير؟ … أين سيأخذون مجتمعاتهم وشعوبهم وأوطانهم؟ … هم قوة تدمير هائلة بلا شك، لكنهم أعجز عن البناء والتعمير … هم قادرون على إسقاط بعض الأنظمة في بعض الأحيان، بيد أنهم أعجز من أن يقيموا نظاماً، أو أن يحتفظوا به بعد أن يقيموه، فلماذا هذه الحروب العبثية إذن، ولماذا كل هذا القتل المجاني للذات والآخرين؟
ما من دولة دخلوها إلا وأشاعوا فيها القتل والخراب والدمار … انظروا لليمن تحت وطأتهم، تأملوا ما يجري في ليبيا بفعل مليشياتهم … شاهدوا ما يحصل في العراق من خراب وتخريب للبشر والشجر والحجر … تفحصوا ما يجري في مناطق نفوذهم في سوريا … أي مشروع ذاك الذي يستحق كل هذه الدماء وكل هذه الخرائب والأنقاض؟
إن لم يجدوا أحداً يشتبكون معه، وهذا نادراً ما يحدث، اشتبكوا مع أنفسهم، ولكنهم في كثير من الأوقات والساحات، يشتبكون مع أنفسهم حتى وهم في ذروة القتال مع “الكفار والمشركين” … في سوريا يقاتلون المعارضة التي تقاتل النظام الذي يقاتلونه، أليست هذه أحجية عصية على الفهم والإدراك، خصوصاً حين يكون القاتل والقتيل من “داعش” أو “النصرة”؟ … وفي العراق، تحتدم حرب تصفيات بين “أنصار الإسلام” ودولة “أبو بكر البغدادي”، وقبل ذلك في أفغانستان حين نجحت طالبان في تصفية بقية تيارات المجاهدين وفصائلهم، والحبل على الغارب.
لقد دفعوا مئات القتلى في سوريا، وتسببوا بقتل الألوف، وربما عشرات الألوف من المدنيين والعسكريين في المقابل، وزرعوا الخراب والدمار في محافظات بأكملها، وها هم اليوم يشتبكون مع الجيش الحر و”النصرة” و”الأكراد” … لكننا نعرف تمام المعرفة، والمؤكد أنهم يعرفون ذلك، تمام المعرفة أيضاً، بأن حظوظهم في حكم سوريا أو حكم أي جزء منها، لا تزيد عن حظوظ إبليس في دخول الجنة … تلكم قضية وحدها كفيلة باستدراج كل جيوش العالم وأساطيله وطائراته الحربية، فهل ثمة من فرصة لإعادة التفكير والتدبير، هل ثمة من أمل في إعادة النظر في “جدول الأعمال” و”أدوات الجهاد وأشكاله” الممكنة والمستحيلة … أسئلة وتساؤلات برسم هذا الموت المجاني العابث.