أما من نهاية لمسلسل القتل المجاني؟

عريب الرنتاوي

مسلسل القتل الجماعي بلغ واحدة من ذراه غير المسبوقة في الأيام القليلة الفائتة … مئات الجرحى والقتلى في مجمع تجاري في نيروبي، نفذته مجموعة إرهابية محسوبة على حركة الشباب الصومالية … مئات المسيحيين بين قتيل وجريح في بيشاور، نفذته مجموعة محسوبة على طالبان الباكستانية … مئات القتلى والجرحى في العراق، في سلسلة تفجيرات و”مفخخات”، وأخيراً عمليات انتحارية مزدوجة ومتتابعة في عديد من مدن العراق وبلداته، مستهدفة السنة والشيعة والمسيحيين والأكراد، ودائما القاعدة بمسمياتها المختلفة، هي المسؤولة … أما عن القتل المجاني واسع النطاق في سوريا، متعدد الأسباب والمسببات، فحدّث ولا حرج.

غريب أمر هؤلاء، كيف يستسهلون قتل الناس وتحويل أجسادهم إلى مزق وشظايا وأشلاء، وفي لحظة بصر، بالجملة والمفرق، لا يميزون بين مدني وعسكري، رجل وامرأة، طفل ومسن، مسيحي أو مسلم، سنّي أو شيعي، عربي أو كردي … كل من يتحرك على قدمين، أو حتى يتحرك، هو هدف ما لم يثبت العكس.

أية ثقافة وعقيدة، تلك التي تسوّغ لهؤلاء قتل كل الناس، بل وقتل أنفسهم … هل يعتقدون حقاً أنهم بذلك سيقيمون شرع الله على أرضه … هل نجحوا في ذلك مرة واحدة فقط، حتى يستوطن أنفسهم إيمان كهذا؟ … كيف يذهب هؤلاء إلى الموت المجاني الرخيص، وبهذه الخفة، كيف ينفرون خفافاً للضرب في كل مكان، وضد أيٍ كان … ما الذي يدفع أحدهم ليجعل من نفسه “سلاح دمار شامل” … لماذا غادروا شتى أرجاء الأرض إلى سوريا، وقبلها أفغانستان والشيشان، والآن نيروبي وغداً لا ندري أية وجهة سيسلكون؟ … ألم ينظروا خلفهم ليروا أن كل ما زرعوه من دماء وأشلاء وخرائب، لم يأت بنتيجة؟ … أين أصبحت الشيشان بعد حروبهم الجهادية، وأين هي كوسوفو والبوسنة والهرسك الآن؟ … بل أين هي أفغانستان والباكستان بعد عقود الجهاد الطويل والمرير؟ … أين سيأخذون مجتمعاتهم وشعوبهم وأوطانهم؟ … هم قوة تدمير هائلة بلا شك، لكنهم أعجز عن البناء والتعمير … هم قادرون على إسقاط بعض الأنظمة في بعض الأحيان، بيد أنهم أعجز من أن يقيموا نظاماً، أو أن يحتفظوا به بعد أن يقيموه، فلماذا هذه الحروب العبثية إذن، ولماذا كل هذا القتل المجاني للذات والآخرين؟

ما من دولة دخلوها إلا وأشاعوا فيها القتل والخراب والدمار … انظروا لليمن تحت وطأتهم، تأملوا ما يجري في ليبيا بفعل مليشياتهم … شاهدوا ما يحصل في العراق من خراب وتخريب للبشر والشجر والحجر … تفحصوا ما يجري في مناطق نفوذهم في سوريا … أي مشروع ذاك الذي يستحق كل هذه الدماء وكل هذه الخرائب والأنقاض؟

إن لم يجدوا أحداً يشتبكون معه، وهذا نادراً ما يحدث، اشتبكوا مع أنفسهم، ولكنهم في كثير من الأوقات والساحات، يشتبكون مع أنفسهم حتى وهم في ذروة القتال مع “الكفار والمشركين” … في سوريا يقاتلون المعارضة التي تقاتل النظام الذي يقاتلونه، أليست هذه أحجية عصية على الفهم والإدراك، خصوصاً حين يكون القاتل والقتيل من “داعش” أو “النصرة”؟ … وفي العراق، تحتدم حرب تصفيات بين “أنصار الإسلام” ودولة “أبو بكر البغدادي”، وقبل ذلك في أفغانستان حين نجحت طالبان في تصفية بقية تيارات المجاهدين وفصائلهم، والحبل على الغارب.

لقد دفعوا مئات القتلى في سوريا، وتسببوا بقتل الألوف، وربما عشرات الألوف من المدنيين والعسكريين في المقابل، وزرعوا الخراب والدمار في محافظات بأكملها، وها هم اليوم يشتبكون مع الجيش الحر و”النصرة” و”الأكراد” … لكننا نعرف تمام المعرفة، والمؤكد أنهم يعرفون ذلك، تمام المعرفة أيضاً، بأن حظوظهم في حكم سوريا أو حكم أي جزء منها، لا تزيد عن حظوظ إبليس في دخول الجنة … تلكم قضية وحدها كفيلة باستدراج كل جيوش العالم وأساطيله وطائراته الحربية، فهل ثمة من فرصة لإعادة التفكير والتدبير، هل ثمة من أمل في إعادة النظر في “جدول الأعمال” و”أدوات الجهاد وأشكاله” الممكنة والمستحيلة … أسئلة وتساؤلات برسم هذا الموت المجاني العابث.

مركز القدس للدراسات السياسية

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين   في السنوات الأخيرة، يتصاعد خطاب في أوساط بعض المثقفين والنشطاء الكرد في سوريا يدعو إلى تجاوز الأحزاب الكردية التقليدية، بل والمطالبة بإنهاء دورها نهائياً، وفسح المجال لمنظمات المجتمع المدني لإدارة المجتمع وتمثيله. قد تبدو هذه الدعوات جذابة في ظاهرها، خاصة في ظل التراجع الواضح في أداء معظم الأحزاب، والانقسامات التي أنهكت الحركة الكردية، لكنها في عمقها…

عدنان بدرالدين   بينما تتجه الأنظار اليوم نحو أنطاليا لمتابعة مجريات المنتدى الدبلوماسي السنوي الذي تنظمه تركيا، حيث يجتمع قادة دول ووزراء خارجية وخبراء وأكاديميون تحت شعار ” التمسك بالدبلوماسية في عالم منقسم”، يتبادر إلى الذهن تساؤل أساسي: ما الذي تسعى إليه أنقرة من تنظيم هذا اللقاء، وهي ذاتها طرف فاعل في العديد من التوترات الإقليمية والصراعات الجيوسياسية، خصوصًا…

جليل إبراهيم المندلاوي   في عالمنا المليء بالتحديات الجيوسياسية والأزمات التي تتسارع كالأمواج، هناك قضية كبرى قد تكون أكثر إلهاما من مسرحية هزلية، وهي “ضياع السيادة”، حيث يمكن تلخيص الأخبار اليومية لهذا العالم بجملة واحدة “حدث ما لم نتوقعه، ولكنه تكرّر”، ليقف مفهوم السيادة كضحية مدهوشة في مسرح جريمة لا أحد يريد التحقيق فيه، فهل نحن أمام قضية سياسية؟ أم…

أمجد عثمان   التقيت بالعديد من أبناء الطائفة العلوية خلال عملي السياسي، فعرفتهم عن قرب، اتفقت معهم كما اختلفت، وكان ما يجمع بينهم قناعة راسخة بوحدة سوريا، وحدة لا تقبل الفدرلة، في خيالهم السياسي، فكانت الفدرالية تبدو لبعضهم فكرة دخيلة، واللامركزية خيانة خفية، كان إيمانهم العميق بمركزية الدولة وتماهيها مع السيادة، وفاءً لما نتصوره وطنًا متماسكًا، مكتمل السيادة، لا يقبل…