على غفلة من الزمن والتاريخ بات الوطن رماداً

  عبدالباقي جتو

  منذ أكثر من أربعين عاماً والشعب السوري بكل فئاته ومكوناته يستغيث ضمائر العالم أجمع, بسبب معاناته وآلامه ومآساته وعذابات صراعه مع نظام أمني بوليسي مستبد الذي أساء إساءة بالغة بكرامة شعبه, الشعب اللذي كان من بين قدوة شعوب المنطقة من حيث الكرامة الإنسانية الوطنية والأخلاقية, مهذباً مثقفاً صاحب تاريخ طويل في مجالات عدة, وعلى غفلة من الزمن والتاريخ ظهر ذلك الدكتاتور الطاغية المستنسخ من نظام شمولي موروث, تدرب وتعلم دروساً في علوم الإستبداد والإستعباد والإضطهاد والخيانة الوطنية العظمى وإهانة الأخلاق العامة وكيفية إذلال الشعب بأساليب وطرق عديدة, ليدمّره في نهاية المطاف ويدمّر تاريخه العريق.
  لقد إبتلى الشعب السوري بهذا النظام على مدى عقود طويلة, سببت له أكبر وأخطر أزمة في تاريخه الحديث, جعلته أن يدفع الثمن من خلال قتل وتشريد عشرات الآلاف منه ودمار بنية دولته التحتية, بحيث وصلت الأمور إلى إستخدامه الأسلحة الكيميائية ضده, ليجعله ذليلاً مهيناً مشتتاً في معظم دول العالم, مغلوب على أمره بما فيه الكفاية لاحول ولاقوة له, لم ولن يعود الى عافيته إلا بعد أجيال وأجيال, في حين كانت سورية  على مرّ الزمان والتاريخ, من أقدم وأهم الحضارات العريقة في منطقة الشرق الأوسط  تزيد عن ثمانية آلاف عام قبل الميلاد, إذ لا تكاد تخلو منطقة من مناطق سورية إلا وفيها بعض المواقع الأثرية التي تعود إلى فترات زمنية مختلفة.
لقد بات مشهد الأزمة السورية  أكثر تعقيداً عندما يُنظر إلى عمقها وشمولها وما بلغته أوضاع البلاد بسببها, لقد أيقن الشعب السوري منذ زمن طويل بأن الدول الكبرى قد تآمروا عليه, فهل هناك أكثر من كلّ هذا الوضوح الجلي الصارخ، لكي يقتنع الشعب السوري بوقوع مؤامرة العصر بحقه ؟

الآن وبعد أن قضى النظام على آمال الشعب الذي كان يتوهّم وهو يحلم  بنسمات الحرّية القادمة من خلال ثورات الربيع العربي, إستفاق من غيبوبته الطويلة , ليكتشف بأنه مصاب بجراح عميقة مستدامة جرّاء إصطدامه بما كان لم يكن بالحسبان حين خذلته دول وعالم حقوق الإنسان والديمقراطية, ليتفاجأ بأن الدولة السورية من خلال النظام الذي كان يستقوى بسلاحه الإستراتيجي دفعه الشعب خلال أربعين عاماً ( لتأمين شعبه ) بعضاً من معادلة موازين القوة في المنطقة, أصبح بعد تهديد عرش نظامه بساعة واحدة  في مهب الريح, يستسلم ويسّلّم سلاحه الإستراتيجي المزعوم  ليقضي في نهاية المطاف على بقية آمال وأحلام شعبه من خلال صفقة مصالح متبادلة يستفيد منها النظام وجميع العالم إلا الشعب السوري فقط.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف يبدو التدوين، في زمن باتت الضوضاء تتكاثر فيه، وتتراكم الأقنعة فوق الوجوه- لا كحرفة أو هواية- بل كحالة أخلاقية، كصرخة كائن حرّ قرّر أن يكون شاهداً لا شريكاً في المذبحة. التدوين هنا ليس مجرد حبرٍ يسيل، بل ضمير يوجّه نفسه ضد القبح، حتى وإن كان القبح قريباً، حميماً، أو نابعاً من ذات يُفترض أنها شقيقة. لقد كنتُ- وما…

عبد الجابر حبيب ـ ذاكرة التهميش ومسار التغيير بعد عقدين من اندلاع الأزمة السورية، وتحوّلها من انتفاضة مطلبية إلى صراع إقليمي ودولي، ما زال السوريون يتأرجحون بين الحلم بوطن حر تعددي عادل، وبين واقع تمزقه الانقسامات، وتثقله التدخلات الأجنبية والمصالح المتضاربة. سوريا اليوم لم تعد كما كانت، لكن السؤال يبقى: إلى أين تسير؟ وهل ثمة أمل في التحول نحو…

حوران حم في زوايا الحديث السوري اليومي، في المنشورات السريعة على مواقع التواصل، في تصريحات بعض “القيادات” ومواقف فصائل تدّعي تمثيل الثورة أو الدولة، يتسلل الخطاب الطائفي كسمّ بطيء، يتغلغل في الروح قبل أن يظهر في العلن. لم تعد العبارات الجارحة التي تطال الطوائف والأقليات، والمناطق، والمذاهب، تُقال همساً أو تُلقى في لحظة غضب، بل باتت تُصرّح جهاراً، وتُرفع على…

إبراهيم اليوسف لم يكن، في لحظة وطنية بلغت ذروة الانسداد، وتحت وطأة أفق سياسي وأخلاقي مغلق، أمام الشيخ حكمت الهجري، شيخ عقل الطائفة الدرزية في السويداء، كما يبدو الأمر، سوى أن يطلق مكرهاً صرخة تهديد أو يدق طبول حرب، حين ألمح- بمسؤوليته التاريخية والدينية- إلى احتمال طلب الحماية الدولية. بل كان يعبّر عن واحدة من أكثر المعضلات إلحاحاً في واقعنا…