سوريا كمشهد سُريالي

 إبراهيم محمود

كان ظهور السُريالية قبل أقل من قرن طبعاً احتجاجاً على الواقع، ودعوة إلى الكشف عن المخبّأ والمستور مما هو موبوء ومخيف في الواقع الذي عنته: الكشف عن الجيفة التي أنتنها الواقع وزُعِم أنها جسد حي، وهي تعني” فوق الواقع”، أي قلْب الواقع وهو في الأصل مقلوب دون الاعتراف بفظائع مجريات أحداثه، وتعرية الإيديولوجيات واقعاً، وما يجري في سوريا، راهناً أكثر من أي وقت مضى، هو أن السريالية التي عرِفت بها حيث تتفكك أوصال الجسم، وتتبعثر أعضاؤه، وتتناثر أجزاء البناية الواحدة..الخ، ها هي تعيد دورتها، إنما على طريقة ماركس: في المرة الأولى مأساة، وفي الثانية مهزلة!
حيث لم تعد لوحة “غيرنيكا” الشهيرة لبيكاسو والمرسومة قبل ثلاثة أرباع القرن تكفينا تعريفاً بهول مشاهد الدمار المتنامية وفي كل الاتجاهات!
عُرِفت الحربان العالميتان بمظاهر مريعة من هذا النوع، وحروب أخرى بينية: بين دولتين أو أكثر، أو جماعات داخل الدولة الواحدة،  لكن تبقى الأحداث السورية منذ سنتين ونيّف راسمة خارطة عنف غير مسبوق، ولكنه مدرَك في ضوء المتغيرات العالمية، حيث سوريا المسرح الدموي، حتى بالنسبة للنظام المتباهي إلى حد الغطرسة” الكاملة الأوصاف” بجنوده وآلته الحربية المستعارة، هي ذاتها أكثر من مسرح، والمفاهيم تحاكم المفاهيم: الثورة :أية ثورة، الجيش الحر:أي جيش حر؟ الإسلام : أي إسلام؟ والاستئثار بالماضي، ماض ممزوج بمقتطعات دينية شعبوية، عبر مقدمات لِحْيوية، كما لو أن من لم يلتح يخرَج من حياض الدين الإسلامي، وفتاوى بالقتل والاستباحات السريعة، في مشاهد قياماتية، واقتسام مسبق لنساء الأرض والحور العين كذلك إزاء هذا التوليف المعصرن للجهاد..
في مشاهد الخراب المتحصل أفقياً وعامودياً، ليس في وسع أحد، أي أحد، أن يُنظَر في بنية الخراب هذا، سوى الاعتراف بأن سوريا الدولة انهارت منذ يومها الأول من الانفجار الرقعي: الدرعاوي، إن اُفترِض أنها دولة، سوى أن التكتلات تنامت وارتسمت حدودٌ متحركة لتشكيلات عسكرية ليست بعسكرية، وتكاثر منظّرون وراء الحدود الحدود، ووعود بالانتقام القريب، بينما الحاصل هو المزيد من التشظي والجنون المخطَّط له لعباد غابيين” من الغابة”، أو لم يعد لهم سوى أن يكونوا برسم الغابيين، دون أن يكون في مقدورهم أن يستمروا على هذا الوتيرة، لأن ثمة من يتتبع أمرهم ويغذّي فيه” عنْفات: عنَفات” أكثر من حداثية.
ينبري كوردنا في هول المطلع والمتحوَّل في موقع العصيين على هذه السريالية، وهم في نسبة معلومة منهم يسمّون ثورتهم، ويخططون لمواقع عملهم، ويضعون استراتيجيا لوطن، أو بعض وطن لطالما انتظروه ولما ظفروا به، ولا أعتقد أنهم سيظفرون به كما يتمنون حتى في القادم القريب من الأيام، ليس كراهية لما يذهبون إليه في تسرّعه، وإنما حباً في هذا الوعد المنتظَر وخشية أن يمثَّل فيه دونما تأن ٍّ وبعيداً عن لعبة القوى المتحاربة على المسرح السوري.
يتحرك الكورد المعنيون بثورتهم الخاصة، وهم ذوو أعلام وشعارات ومن جرى دمجهم باللعبة الإعلامية والدعائية عبر أقنية تتنامى وتتعامى كثيراً عن حروب الفضاء الإعلامية ومتعاميات الجاري على الأرض وبين البشر، يتحركون في نشوة الظافر بـ” الكأس” الخاصة بمباريات التصفيات النهائية للأحداث السورية باسم المعارضة أو الثورة السورية، وهم يتلمظون لرؤية نهاية اللعبة التي يبدو حتى الآن أنها تمدَّد وتمدَّد لتكون أكثر من زمن اللعبة بالذات، وأن ضربات الترجيح بمنظرها المأساوي أعيت الحكام والمراقبين أنفسهم، لأن ثمة حكاماً ومراقبين غير مرئيين بالدقة الواجبة، لنعيش تسلسل هذا الخراب، كما لو أن ميثولوجيا بدايات التكوين تحضر بكل مباذلها المرعبة: لا يمكن التوقف لأن الزمن المقدَّر للعبة الموت لم يحن بعد، لا يمكننا الاكتفاء بهذا التنويع من التمثيل في أجساد البشر، وهذا التخريج من طوائفيات القتل، إنما ينبغي الدفع بالمزيد إلى أتون المعركة: اللعبة، نريد قتلاً أكثر حداثياً، أكثر من التصوير الموبايلي الوامض لرؤوس تقطع في الهواء الطلق، وتُبث هنا وهناك مجاناً أو بمقابل معين، والعبرة؟ لا عبرة لأن الجميع معنيون بجنون الرعب.
عودة إلى الكورد الذين يستحثون الخطى في الجهات الأربع، بدعوى أن كوردستان على الباب، وثمة فرصة ذهبية لإملاء الاسم على واضعي الأسماء على المواقع أو الخرائط ذات العائد الجغرافي، يمكن تصور ما هو سريالي فيما يقومون به أكثر مما هو مكشوف في الطرف الآخر، وهم يضخون هذا الكم الهائل من أجندة الشعارات والهتافات تعبيراً عن عنف لا يمكن غض النظر عنه، ليكونوا همو وقوده لاحقاً أكثر، وهم على بيّنة هي محط تساؤل لا يطمئن الروح والنفس: هل حقاً أنهم مدركون لحقيقة ما هم مقبلون عليه، وهم في زاوية من المسرح، إذا تكاتف القاتل والمقتول معاً وحاصروه بغتة في الزاوية القاتلة؟ أم أنهم ضمِنوا المسرح، باعتبارهم موزعي البطاقات باعتبارهم بعيدين عن الدماء المراقة سورياً، كون الذي يشغلهم بالمعنى الحرفي: كوردستان، وهذه لا شأن لها، تقديراً، بما يجري..

يا لهول الجاري والآتي إذاً!

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

خالد بهلوي تحت شعار “وقف العنف والتهجير – العيش المشترك بسلام”، وبمبادرة من مجموعة نشطاء من الشابات والشباب الغيورين، شهدت مدينة إيسين الألمانية يوم 21 ديسمبر 2024 وقفة احتجاجية بارزة للتعبير عن رفض الاحتلال التركي والتهديدات والانتهاكات التي يتعرض لها الشعب الكردي المسالم. الحضور والمشاركة: حضر الفعالية أكثر من مائه شخصً من الأخوات والإخوة الكرد والألمان، إلى…

د. محمود عباس ستكثّف الولايات المتحدة وجودها العسكري في سوريا وستواصل دعمها لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) والإدارة الذاتية. تدرك تركيا هذه المعادلة جيدًا، وتعلم أن أي إدارة أمريكية قادمة، حتى وإن كانت بقيادة دونالد ترامب، لن تتخلى عن الكورد، لذلك، جاء تصريح أردوغان بعد عودته من مصر، ووزير خارجيته من دمشق اليوم كجزء من مناورة سياسية تهدف إلى تضليل الرأي…

شادي حاجي المرء لا يذهب إلى طاولة المفاوضات وهو خالي الوفاض وإنما يذهب وهو متمكن وقادر والمفاوض يكشف أوراقه تدريجياً تبعاً لسير العملية التفاوضية فعند كل منعطف صعب وشاق يقدم المفاوض بطريقة أو بأخرى معلومة ولو صغيرة حول قدراته على إيقاع الأذى بالطرف الآخر من أجل أن يكون مقنعاً فعليه أن يسأل عن مقومات الندية والتي تتركز على مسألة القوة…

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…