خيارات الشعب السوري الصعبة

جوان يوسف

هدنة غاليلو مع الكنسية الأرثوذكسية وقبوله بالنظرة الكنسية لمركزية الأرض, لم تغير في واقع حال مركزية الشمس,
 فجبروت وقوة الكنيسة آنذاك والظرف السياسي المحيط وتدني الوعي هم الذين أجبروا غاليلو على الهدنة مع الكنيسة وفضل الهدنة على الموت.

بعد أكثر من قرن على هذه الهدنة عادت الكنيسة واعترفت بصواب نظرية غاليلو ونقلت رفاته في تشييع مهيب إلى مقبرة العظماء, ولا ندري كم من الضحايا سقطوا على يد الكنيسة قبل أن تقتنع بالحقيقة العلمية أو قبل أن تجبر على قبولها.
ليس من السهل في الصراعات الدموية التراجع والتفاوض على تأجيل المهمة إلى مرحلة قادمة, وليس من السهل إقناع ذوي الضحايا أو المتضررين من أن عدالة القضية غير كاف لانتصارها, وليس من السهل أيضا القبول بالفشل وموازنة الحق بالباطل, لكن عندما تنعدم الخيارات يضطر المرء لقبول المر.
بعد ثمانية وعشرين شهراً من الصراع الدموي في سوريا, راح ضحيته أكثر من مائة ألف قتيل, يقف الشعب السوري محتاراً أمام مصيره, يتساءل عن عدالة قضيته, هل فعلاً أخطأ بثورته؟ وهل يعني استمرار النظام في السلطة, بل وإعادة بسط سيطرته على المناطق التي تحررت منه في بداية الثورة, أن من حقه الاستمرار في السلطة؟ وهل بات على الجميع قبول الأمر الواقع, والاكتفاء بالنحيب على قتلاهم وانتظار رحمة المجرم كي يفرج عن معتقليهم ويرأف بمشرديهم؟
بين انتفاضة 1991وسقوط نظام صدام حسين 2003أكثر من عشر سنوات دفع فيها الشعب العراقي 300 الف قتيل وفق بعض المصادر , ووصل الأمر بالبعض إلى تقديم الاعتذار لصدام حسين واستعان البعض الآخر به للقضاء على رفاق الأمس لتعزيز مواقعهم, وفي شهر آذار 2003 سقط نظام صدام بقوة المجتمع الدولي وألقي القبض عليه فيما بعد في حفرة, وجدها البعض تعبيراً عن مدى انحطاط نظام صدام حسين وفقدانه لمشروعيته الاخلاقية والسياسية حتى قبل أن يسقط.
بعد عامين ونصف من انطلاق الثورة في سوريا, يجمع المراقبون أن بشار نجح في إدخال الثورة في متاهات واختناقات يصعب الخروج منها, عسكرياً على الأقل, وهو ما كان يراهن عليه النظام نفسه  فقد تفتت الكتائب وتشرذمت, وبعضها خانت الخيار الوطني وصوت المتظاهرين وبات ارتهانها لقوى اقليمية ودولية غير خاف على أحد, وازداد مستوى العنف ما أدى لتراجع الحاضنة الاجتماعية للعمل العسكري وخصوصاً للكتائب الاسلامية المتطرفة, وتمكن النظام من استقطاب الطائفة العلوية بشكل شبه كامل, واستطاع تحييد المكونات الأخرى من الكرد والدروز والمسيحيين عن الصراع, واستفرد بالمكون السني الذي وجد نفسه وجهاً لوجه مع نظام لن يتوانى عن حرق سوريا كلها اذا لزم الأمر, بل إن الصراع الدائر الآن في شمال شرق سوريا, ذات الأغلبية الكردية, بين قوات حماية الشعب الذراع العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي وبين الكتائب الاسلامية وبعض كتائب الجيش الحر أدخلت المنطقة في استقطاب جديد يحبو باتجاه صراع كردي-عربي, سيضع مستقبل بشار ونظامه في ثلاجة إلى فترة طويلة.
كتب حسام قطلبه: “حيث لا أدوات سياسية ولا تشكيلات تمارس السياسة الحقيقية، فإن شيئاً من قبيل (الحل السياسي) لا يتشكل إلا بنتيجة مستويات عنف مرتفعة واستثنائية ونوعية”، إذن، أمام هذا الكلام تبقى جولات رئيس المجلس الوطني السوري جورج صبرة في مخيمات اللاجئين واستشارتهم بجنيف2, ذراً للرماد في عيون أصحاب القضية الأساسية, ونوعاً من الطفولة السياسية, بالتوازي مع تصريحات الجربا الذي سيذهب إلى جنيف2 ويلتقي بممثلي النظام دون شروط.
فشلت الأدوات السياسية للمعارضة وتشكيلاتها بممارسة السياسة حتى الآن, فهل نحتاج إلى أسلحة نوعية ترفع من سوية العنف مع النظام إلى درجات تسمح بنجاح جنيف2؟ وهل يعني ذلك أن النظام يرفع من سوية العنف إلى حدود الإفراط كي ُينجح جنيف2 باتساق مع شروطه ؟ وهل أرواح مائة ألف قتيل غير كافية لإنجاح العملية السياسية؟
مهما يكن من أمر فإن جنيف2، هو الخيار المر أمام الشعب السوري, وهو يشبه إلى حد بعيد خيار غاليلو، فإما الموت النهائي وإما القبول باختصار الثورة إلى المحافظة على ما تبقى من البشر والحجر داخل سوريا, وهذا لن يغير من ماهيتها بانتظار جولة أخرى.

كاتب واعلامي كردي

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…