صالح بوزان
بعد أكثر من سنتين من عمر الثورة يقف الشعب السوري أمام نفق مظلم.
وما يجري الآن على أرض الواقع ليس سوى استنزاف للإنسان السوري ودمار للبلد عن بكرة أبيها.
فالحل الداخلي أصبح مسدوداً.
أقصد أن النظام لم ينتصر، والثوار بدورهم ما عادوا قادرين على الانتصار وإجبار النظام على التنحي بعد أن انحصر الصراع في شكله العسكري نهائياً.
أما العامل الخارجي فهو مشلول بإرادة القوى الفاعلة.
فلم يعد خافياً على أحد أن الأنظمة العربية ليست على مستوى اتخاذ قرار مستقل بحل الأزمة، لأن هذه الأنظمة مرتبطة بالأقطاب الدولية.
وروسيا لن تتخلى عن النظام انطلاقاً من قناعتها بأن زوال النظام يعني زوال موقع قدم لها في الشرق الأوسط.
هذا الشرق الأوسط الذي لم يغادر الحلم الروسي منذ العهد القيصري.
وما يجري الآن على أرض الواقع ليس سوى استنزاف للإنسان السوري ودمار للبلد عن بكرة أبيها.
فالحل الداخلي أصبح مسدوداً.
أقصد أن النظام لم ينتصر، والثوار بدورهم ما عادوا قادرين على الانتصار وإجبار النظام على التنحي بعد أن انحصر الصراع في شكله العسكري نهائياً.
أما العامل الخارجي فهو مشلول بإرادة القوى الفاعلة.
فلم يعد خافياً على أحد أن الأنظمة العربية ليست على مستوى اتخاذ قرار مستقل بحل الأزمة، لأن هذه الأنظمة مرتبطة بالأقطاب الدولية.
وروسيا لن تتخلى عن النظام انطلاقاً من قناعتها بأن زوال النظام يعني زوال موقع قدم لها في الشرق الأوسط.
هذا الشرق الأوسط الذي لم يغادر الحلم الروسي منذ العهد القيصري.
لا يقف الأمر عند هذه المعطيات فقط.
فالغرب بقطبيه الأمريكي والأوروبي لا ينوي إيجاد حل لهذه الأزمة.
أقصد أنها لا تستخدم تلك الإمكانيات التي تستطيع حسم الصراع لصالح الثوار.
لقد ترك الغرب السوريين لمصيرهم الداخلي.
لا سيما بعد سيطرة القاعدة والتنظيمات التكفيرية على مصير الثورة في مناطق واسعة من البلد.
لا شك أن النظام السوري هو الذي خطط لاستجلاب هذه القوى التكفيرية لسوريا بهدف حرف الثورة عن مسارها الديمقراطي والسلمي.
خصوصاً أن هذا النظام يملك خبرة وعلاقات عميقة مع هذه التنظيمات.
فهو الذي كان يصدّر القاعدة إلى العراق كما أعلنها مسؤولون عراقيون عدة مرات.
كما أن الغرب مسؤول أيضاً عن مجيء القاعدة لسوريا من خلال التلكؤ في إيجاد حل سريع للثورة السورية على طريقة تونس أو مصر أو ليبيا..
ويبدو أن المعارضة السياسية السورية قد وقعت في هذا الفخ، عندما اعتبرت هذه التنظيمات التكفيرية جزء من الجيش الحر، ورحبت بها.
كان واضحاً منذ الأيام الأولى للثورة أن النظام الحاكم في سوريا خطط لأن يدفع الثورة نحو الطابع المسلح والسلفي الطائفي.
كان يريد من وراء هذا التخطيط أن يحقق هدفين.
الأول للتغطية على طائفية النظام نفسه، وتبرير استخدام السلاح ضد الثائرين على أنه يحارب القاعدة والإرهابيين.
والهدف الثاني لتخويف الشعب في الداخل من الثورة والدول الغربية في الخارج.
يبدو أن ما حدث في العراق عام 1992 يحدث الآن في سوريا.
حين قامت أمريكا بعد تحرير الكويت من نظام صدام حسين بتشجيع المعارضة العراقية للانتفاضة.
فانتفض الشعب العراقي في الجنوب والشمال.
لكن سرعان ما تخلت أمريكا عن هذه الانتفاضة، وغيرت قناعتها في إسقاط نظام صدام حسين.
فقمع صدام الانتفاضة وارتكب الجرائم الفظيعة أمام عيون العالم.
هناك دولة في الشرق الأوسط تتحكم إلى حد ما بمصير الوضع في سوريا اليوم، وهي إسرائيل.
فإسرائيل لا ترغب في تغيير النظام السوري.
وقد نقلت الصحافة الإسرائيلية أقوال بعض المسؤولين الإسرائيليين بأن الشيطان الذي يعرفونه أفضل من الشيطان الذي لا يعرفونه.
وكانوا يقصدون بهذا الكلام النظام السوري الذي تعرفه إسرائيل واختبرته منذ احتلالها للجولان عام 1967.
والنظام السوري بدوره يدرك هذه الحقيقة.
فسرعان ما أرسل منذ بدايات الثورة رسائل إلى إسرائيل بأنه الضامن الوحيد لحدودها الشمالية، وأن القوى القادمة على أكتاف الثورة ستهدد هذه الحدود.
على ضوء هذه المعطيات، ينبثق سؤال مهم: إلى أين تسير الأزمة السورية؟ وما هو مصير القوى المتصارعة فيها؟
سأسعى لبحث هذا الموضوع بحيادية.
أقصد من منظار مراقب يتابع الثورة السورية وليس كمواطن سوري مؤيد للثورة منذ البداية.
قبل كل شيء يتبادر إلى ذهن الكثيرين هل الثورة السورية بقيت على أهدافها؟
ربما يكون هذا السؤال غريباً، لكنه في الوقت نفسه واقعي.
فالثورة السلمية التي كانت تهدف إلى إزاحة النظام الديكتاتوري وإقامة بديل ديمقراطي تعددي، يضمن حق المواطنة للجميع، وتحصل فيه كل المكونات القومية والدينية والطائفية في سوريا على حقوقها في إطار دستور عصري غير منحاز لقومية أو دين أو طائفة ما.
هذا البديل بدأ يبتعد عن المنظور بعد تحول الثورة بالكامل إلى صراع عسكري دموي، وسيطرة القاعدة وجبهة النصرة وما شابههما من التنظيمات التكفيرية على قسم كبير من مساحات الوطن.
لقد تحولت شعارات الثورة إلى شعارات دينية متزمتة.
كما تشكلت كتائب تابعة للقاعدة تحت تسميات دينية.
واختفى علم الاستقلال فوق الحواجز داخل المدن وفي الطرقات العامة.
وظهرت أعلام القاعدة.وبات المواطن السوري يشعر وكأنه يعيش في عهد الخلفاء والسلاطين.
هذا التحول أحدث صدمة في عقل وشعور الإنسان السوري.
فبالرغم من أن القسم الأعظم من الشعب السوري مسلم، إلا أنه لم يكن في يوم من الأيام متزمتاً دينياً.
وهذا لا يعود “لعلمانية” النظام المزعومة، بل هو من خصوصيات الشعب السوري.
لقد وضعت هذه الظاهرة الشعب السوري أمام ثلاث خيارات صعبة:
الخيار الأول: هو العودة إلى أحضان النظام خوفاً من المستقبل المجهول الذي تعمل من أجله القاعدة.
ويعني ذلك العودة إلى نقطة الصفر.
الخيار الثاني: الوقوف مع الكتائب المسلحة ذات اللون التكفيري في سبيل الانتصار على النظام.
وهذا بدوره يعني السير نحو حكم طالباني في سوريا.
الخيار الثالث: السير على شعارات الثورة ورفض النظام والقاعدة معاً.
لكن الشعب السوري في هذه الحالة لا يحصل على المساندة لتحقيق النصر على كليهما، لا من الدول العربية ولا من أمريكا وأوروبا.
هذه الخيارات الثلاث تضعنا بدورها، إن شئنا أم أبينا، أمام ثلاث احتمالات في الأفق المنظور:
الاحتمال الأول: هو انتصار النظام في النهاية.
وهذا ليس مستحيلاً، لأن الغرب ضد تسليح المعارضة، خصوصاً أمريكا، بينما النظام يحصل على السلاح الروسي الفتاك بكل سهولة.
كذلك يحصل على المال والرجال من إيران والعراق ومن حزب الله.
إن انتصار النظام سيجعله يحكم هذه المرة بالحديد والنار.
لأنه بات يدرك مدى كراهية الشعب له وإمكانية استمالته بالشعارات السابقة من الفكر القومي العربي المتشدد، ومن خلال شعار الممانعة والمقاومة الذين طليا على الكثير من السوريين خلال نصف قرن.
وبالتالي سيظهر طابعه الطائفي أكثر من السابق في شتى المجالات.وسيزداد الفساد أضعاف السابق، وسيعيش الشعب في فقر مدقع, لأن إعمار سوريا ستحتاج إلى مبالغ طائلة لن تقدمها الدول الخليجية والغربية وأمريكا حتماً، كما أن روسيا والصين وإيران لوحدها غير قادرة على تقديم هذه المبالغ.
الاحتمال الثاني: هو استمرار الحرب الأهلية عدة سنوات دون انتصار طرف على الآخر.
وسيؤدي هذا الصراع الطويل إلى استنزاف الكثير من القوى البشرية وموارد البلاد.
وفي النهاية ستضطر الأطراف المتصارعة التي أنهكتها الحرب للتفاوض من أجل إيجاد حل مشترك على قاعدة لا غالب ولا مغلوب.
وستكون سوريا في هذه الحالة دولة فقيرة دمرتها الحرب.
الاحتمال الثالث: هو انتصار القاعدة والتنظيمات التكفيرية في غالبية المحافظات، خصوصاً في حلب ودمشق.
وتشكيل دولة على نموج دولة الطالبان في أفغانستان.
هذا الاحتمال هو الآخر وارد.
لأن هذه التنظيمات التكفيرية ذات خبرة في القتال، ولديها إيمان عميق بأهدافها.
وتحصل على المال والسلاح من الخارج.
كما أن تنظيم القاعدة في العالم يمدها بالمقاتلين الأجانب من شتى بقاع العالم.
صحيح أن الشعب السوري عاش نصف قرن في ظل نظام بعثي دكتاتوري، لكنه كان ديكتاتورياً من الناحية الأمنية والسياسية.
أما ما يخص الفساد على صعيد الاقتصاد فكان يلحق الضرر بالمواطنين الفقراء والفئات المتوسطة في الأغلب.
أما الأغنياء والتجار والصناعيون كانوا يستفيدون من هذا الفساد، سواء بالتهرب من الضرائب أو شراء قوانين ومراسيم لصالحهم.
نحن ندرك أن نظام البعث قد قضى على البرجوازية السورية الكلاسيكية، وأغنياء سوريا الحديثة هم الذين اغتنوا من وراء الفساد والسلطة.
من ناحية أخرى لا بد القول أن النظام البعثي هو شبه علماني من الناحية الاجتماعية.
فلم يكن هناك تدخل كبير في الحياة الخاصة.
وربما كانت هذه العوامل مجتمعة تقف وراء استمرار النظام نصف قرن.
أما دولة تقيمها القاعدة فلن يقبلها القسم الأكبر من الشعب السوري.
خصوصاً أن هذه التنظيمات التكفيرية لا تؤمن بالديمقراطية ولا بالانتخابات ولا بالتعددية.
إنهم لا يؤمون لا بالوطن ولا بالشعب.
فكل البلدان ملك للرب الأعلى، وبما أنهم أولياء الرب، فلهم الحق في التدخل بشؤون كل البلدان، بغض النظر عن الحدود والقوميات.
هم يعتبرون الشعوب مجرد عبيد للرب.
والرب هو الذي وكل هؤلاء المجاهدين لتطبيق شريعة الله على الأرض وعلى هؤلاء العبيد.
في حال نجاح الخيار الثالث سيصبح تقسيم سوريا لا مفر منه.
ويبدو أن أمريكا والدول الغربية لن تعارض حينئذ التقسيم.
صحيح أنها لن تقوم هي بهذا التقسيم على طريقة سايكس بيكو.
وإنما ستساعد عن بعد لأن يقوم أبناء البلد أنفسهم بتحقيق هذا المشروع.
ولن تعترض روسيا أيضاً على هذا التقسيم، مادام ستبقى لها بقعة من سوريا تقيم عليها قاعدتها العسكرية.
لا شك أن أكثر المشجعين لهذا التقسيم ستكون إسرائيل، وهي في المحصلة المستفيدة الأكبر من التقسيم.
يبدو لي أن السيناريو الأقرب لهذا التقسيم المحتمل سيكون على الشكل التالي:
1- ستتشكل دولة علوية في الساحل السوري.
وقد ظهرت خريطتها في مواقع التواصل الاجتماعي.
يبدو أن لا خيار للعلويين حينئذ سوى تشكيل دولتهم.
فمن ناحية ارتكب الكثير منهم خلال مسيرة الثورة جرائم لا يمكن أن يفلتوا من عقوبتها.
نعرف أن أغلب كوادر الدولة من العلويين.
وهو رقم ضخم بكل تأكيد, خصوصاً في قيادات الجيش وفروع الأمن.
من ناحية ثانية لن يقبل العلوييون العيش في ظل حكم سني طائفي يجسد فكر القاعدة.
هناك على الأقل سببان لهذا الرفض.
السبب الأول أن العلويين عاشوا أربعين سنة وهم الطائفة الحاكمة في السورية.
وبالتالي لن يقبلوا العودة إلى سابق عهدهم عندما كانوا طائفة محكومة.
وللحقيقة فالطائفة العلوية كانت مضطهدة اجتماعياً واقتصادياً قبل أن يستولي حافظ الأسد على الدولة السورية.
والسبب الثاني يكمن في أن المجتمع العلوي غير متزمت ديناً.هو منفتح، والمذهب العلوي يختلف حتى عن المذهب الشيعي.
العلوييون يكتفون بذاتهم ولا يقومون بالتبشير بين أطياف وديانات أخرى.
أعتقد من المستحيل أن يقبل عامة العلويين الرضوخ للشريعة الإسلامية السنية على نمط فكر القاعدة والتكفيريين السنة.
يبدو لي أن الإمكانيات لقيام هذه الدولة موجودة.
فهي تملك كمية كبيرة من جميع أنواع الأسلحة، بحيث تستطيع أن تدافع عن نفسها ضد أية قوة سورية تسعى للقضاء عليها.
خصوصاً أن هذه الدولة ستقوم بالتفاهم مع إسرائيل وروسيا.
وبالتالي ستدعم هاتان الدولتان هذه الدويلة وستحميانها.
وربما ستحقق إسرائيل من وراء قيام هذه الدولة حلمها في إمكانية الاحتفاظ بجولان.
أما بالنسبة لروسيا فستعتبر هذه الدويلة كافية لقاعدتها العسكرية في طرطوس.
وهي ستؤمن لها استقرار وجودها في الشرق الأوسط.
2- بدورهم سيقوم الدروز بإنشاء دويلتهم أيضا.
فهم كطائفة لا يستطيعون العيش مع دولة إسلامية على غرار طالبان.
ولن يقبلوا شريعتها الإسلامية المتزمتة.
فالذاكرة الدرزية مليئة بمظالم السنة ضدها.
وإذا كان المسلمون يدرجون هذه الطائفة في إطار الإسلام، إلا أن واقع الأمر يشير أنها بعيدة عن الإسلام.
من ناحية أخرى فقيام دويلة درزية لا يمكن أن يتحقق إلا في تحالف مع الأردن أو مع إسرائيل.
وربما الاحتمال الأخير هو المرجح لوجود قسم من الدروز في جولان وفي إسرائيل أيضاً.
3- الإشكالية الأكبر هي في الوضع الكردي.
فبالرغم من أن تعداد الكرد في سوريا يأتي في المرتبة الثانية بعد العرب، إلا أنهم قد يكونوا أكبر الخاسرين من تقسيم سوريا.
لأن إمكانية تشكيل دويلة لهم غير متوفرة لأسباب داخلية وخارجية.
من الناحية الداخلية فالجغرافية الكردية السورية غير مساعدة لإقامة دولة مستقلة لوجود نسبة غير قليلة من العرب ضمن هذه الجغرافيا.
وقد يعترض هؤلاء العرب على قيام هكذا دويلة.
مع العلم أن هذه المعارضة ليست قطعية.
فالعديد من العشائر العربية في الجزيرة السورية وافقت على حكم ذاتي للجزيرة في العهد الفرنسي في الثلاثينيات.
ومع ذلك فأمام الكرد خيارات أخرى:
1- البقاء في إطار سوريا التي ستحكمها القاعدة على أساس حكم فدرالي يتمتع فيه الكرد بدستور خاص بهم على نموذج إقليم كردستان العراق.
يبدو أن هذا الاحتمال ضعيف جداً، نتيجة عدم وجود الثقة بين الكرد وهذه التنظيمات التكفيرية.
خصوصاً أن الحزب الذي يقود الشارع الكردي السوري الآن هو حزب الاتحاد الديمقراطي.
وهذا الحزب علماني بالأساس.
زد على ذلك أن النهضة القومية الكردية الحديثة تعتبر الأيديولوجيا الإسلامية والقومية لدى العرب والفرس والترك هما أيديولوجيتان تنكرت وتتنكر لحقوق الشعب الكردي، وفي ظل هاتين الأيديولوجيتين جرت جميع أشكال تذويب الشعب الكردي في هذه القوميات وممارسة الحروب والمجازر.
2- الخيار الثاني مرتبط بالمفاوضات الجارية بين الحزب العمال الكردستاني وحزب العدالة والتنمية في تركيا.
فإذا نجحت هذه المفاوضات، وحصل الكرد بموجبها على إدارة ذاتية خاصة بهم في كردستان تركيا سيفضل الكرد السوريون الانضمام لهذه الإدارة بدل البقاء في ظل حكم القاعدة.
وفي هذه الحالة ستعمل تركيا لتحقيق هذا التوجه الكردي بكل قوة محلياً وإقليمياً ودولياً.
3- وأخيراً هناك احتمال ثالث، في حال فشل المفاوضات بين الحزب العمال الكردستاني والحكومة التركية.
وهو انضمام كرد سوريا لإقليم كردستان العراق.
وربما هذا الخيار هو الراجح.
أعتقد على كل الثوار السوريين وجميع فئات المعارضة أن يعملوا من أجل سوريا دولة علمانية، فدرالية، وديمقراطية.
في هذه الحالة فقط ممكن الحفاظ على وحدة سوريا أرضاً وشعباً.
فالغرب بقطبيه الأمريكي والأوروبي لا ينوي إيجاد حل لهذه الأزمة.
أقصد أنها لا تستخدم تلك الإمكانيات التي تستطيع حسم الصراع لصالح الثوار.
لقد ترك الغرب السوريين لمصيرهم الداخلي.
لا سيما بعد سيطرة القاعدة والتنظيمات التكفيرية على مصير الثورة في مناطق واسعة من البلد.
لا شك أن النظام السوري هو الذي خطط لاستجلاب هذه القوى التكفيرية لسوريا بهدف حرف الثورة عن مسارها الديمقراطي والسلمي.
خصوصاً أن هذا النظام يملك خبرة وعلاقات عميقة مع هذه التنظيمات.
فهو الذي كان يصدّر القاعدة إلى العراق كما أعلنها مسؤولون عراقيون عدة مرات.
كما أن الغرب مسؤول أيضاً عن مجيء القاعدة لسوريا من خلال التلكؤ في إيجاد حل سريع للثورة السورية على طريقة تونس أو مصر أو ليبيا..
ويبدو أن المعارضة السياسية السورية قد وقعت في هذا الفخ، عندما اعتبرت هذه التنظيمات التكفيرية جزء من الجيش الحر، ورحبت بها.
كان واضحاً منذ الأيام الأولى للثورة أن النظام الحاكم في سوريا خطط لأن يدفع الثورة نحو الطابع المسلح والسلفي الطائفي.
كان يريد من وراء هذا التخطيط أن يحقق هدفين.
الأول للتغطية على طائفية النظام نفسه، وتبرير استخدام السلاح ضد الثائرين على أنه يحارب القاعدة والإرهابيين.
والهدف الثاني لتخويف الشعب في الداخل من الثورة والدول الغربية في الخارج.
يبدو أن ما حدث في العراق عام 1992 يحدث الآن في سوريا.
حين قامت أمريكا بعد تحرير الكويت من نظام صدام حسين بتشجيع المعارضة العراقية للانتفاضة.
فانتفض الشعب العراقي في الجنوب والشمال.
لكن سرعان ما تخلت أمريكا عن هذه الانتفاضة، وغيرت قناعتها في إسقاط نظام صدام حسين.
فقمع صدام الانتفاضة وارتكب الجرائم الفظيعة أمام عيون العالم.
هناك دولة في الشرق الأوسط تتحكم إلى حد ما بمصير الوضع في سوريا اليوم، وهي إسرائيل.
فإسرائيل لا ترغب في تغيير النظام السوري.
وقد نقلت الصحافة الإسرائيلية أقوال بعض المسؤولين الإسرائيليين بأن الشيطان الذي يعرفونه أفضل من الشيطان الذي لا يعرفونه.
وكانوا يقصدون بهذا الكلام النظام السوري الذي تعرفه إسرائيل واختبرته منذ احتلالها للجولان عام 1967.
والنظام السوري بدوره يدرك هذه الحقيقة.
فسرعان ما أرسل منذ بدايات الثورة رسائل إلى إسرائيل بأنه الضامن الوحيد لحدودها الشمالية، وأن القوى القادمة على أكتاف الثورة ستهدد هذه الحدود.
على ضوء هذه المعطيات، ينبثق سؤال مهم: إلى أين تسير الأزمة السورية؟ وما هو مصير القوى المتصارعة فيها؟
سأسعى لبحث هذا الموضوع بحيادية.
أقصد من منظار مراقب يتابع الثورة السورية وليس كمواطن سوري مؤيد للثورة منذ البداية.
قبل كل شيء يتبادر إلى ذهن الكثيرين هل الثورة السورية بقيت على أهدافها؟
ربما يكون هذا السؤال غريباً، لكنه في الوقت نفسه واقعي.
فالثورة السلمية التي كانت تهدف إلى إزاحة النظام الديكتاتوري وإقامة بديل ديمقراطي تعددي، يضمن حق المواطنة للجميع، وتحصل فيه كل المكونات القومية والدينية والطائفية في سوريا على حقوقها في إطار دستور عصري غير منحاز لقومية أو دين أو طائفة ما.
هذا البديل بدأ يبتعد عن المنظور بعد تحول الثورة بالكامل إلى صراع عسكري دموي، وسيطرة القاعدة وجبهة النصرة وما شابههما من التنظيمات التكفيرية على قسم كبير من مساحات الوطن.
لقد تحولت شعارات الثورة إلى شعارات دينية متزمتة.
كما تشكلت كتائب تابعة للقاعدة تحت تسميات دينية.
واختفى علم الاستقلال فوق الحواجز داخل المدن وفي الطرقات العامة.
وظهرت أعلام القاعدة.وبات المواطن السوري يشعر وكأنه يعيش في عهد الخلفاء والسلاطين.
هذا التحول أحدث صدمة في عقل وشعور الإنسان السوري.
فبالرغم من أن القسم الأعظم من الشعب السوري مسلم، إلا أنه لم يكن في يوم من الأيام متزمتاً دينياً.
وهذا لا يعود “لعلمانية” النظام المزعومة، بل هو من خصوصيات الشعب السوري.
لقد وضعت هذه الظاهرة الشعب السوري أمام ثلاث خيارات صعبة:
الخيار الأول: هو العودة إلى أحضان النظام خوفاً من المستقبل المجهول الذي تعمل من أجله القاعدة.
ويعني ذلك العودة إلى نقطة الصفر.
الخيار الثاني: الوقوف مع الكتائب المسلحة ذات اللون التكفيري في سبيل الانتصار على النظام.
وهذا بدوره يعني السير نحو حكم طالباني في سوريا.
الخيار الثالث: السير على شعارات الثورة ورفض النظام والقاعدة معاً.
لكن الشعب السوري في هذه الحالة لا يحصل على المساندة لتحقيق النصر على كليهما، لا من الدول العربية ولا من أمريكا وأوروبا.
هذه الخيارات الثلاث تضعنا بدورها، إن شئنا أم أبينا، أمام ثلاث احتمالات في الأفق المنظور:
الاحتمال الأول: هو انتصار النظام في النهاية.
وهذا ليس مستحيلاً، لأن الغرب ضد تسليح المعارضة، خصوصاً أمريكا، بينما النظام يحصل على السلاح الروسي الفتاك بكل سهولة.
كذلك يحصل على المال والرجال من إيران والعراق ومن حزب الله.
إن انتصار النظام سيجعله يحكم هذه المرة بالحديد والنار.
لأنه بات يدرك مدى كراهية الشعب له وإمكانية استمالته بالشعارات السابقة من الفكر القومي العربي المتشدد، ومن خلال شعار الممانعة والمقاومة الذين طليا على الكثير من السوريين خلال نصف قرن.
وبالتالي سيظهر طابعه الطائفي أكثر من السابق في شتى المجالات.وسيزداد الفساد أضعاف السابق، وسيعيش الشعب في فقر مدقع, لأن إعمار سوريا ستحتاج إلى مبالغ طائلة لن تقدمها الدول الخليجية والغربية وأمريكا حتماً، كما أن روسيا والصين وإيران لوحدها غير قادرة على تقديم هذه المبالغ.
الاحتمال الثاني: هو استمرار الحرب الأهلية عدة سنوات دون انتصار طرف على الآخر.
وسيؤدي هذا الصراع الطويل إلى استنزاف الكثير من القوى البشرية وموارد البلاد.
وفي النهاية ستضطر الأطراف المتصارعة التي أنهكتها الحرب للتفاوض من أجل إيجاد حل مشترك على قاعدة لا غالب ولا مغلوب.
وستكون سوريا في هذه الحالة دولة فقيرة دمرتها الحرب.
الاحتمال الثالث: هو انتصار القاعدة والتنظيمات التكفيرية في غالبية المحافظات، خصوصاً في حلب ودمشق.
وتشكيل دولة على نموج دولة الطالبان في أفغانستان.
هذا الاحتمال هو الآخر وارد.
لأن هذه التنظيمات التكفيرية ذات خبرة في القتال، ولديها إيمان عميق بأهدافها.
وتحصل على المال والسلاح من الخارج.
كما أن تنظيم القاعدة في العالم يمدها بالمقاتلين الأجانب من شتى بقاع العالم.
صحيح أن الشعب السوري عاش نصف قرن في ظل نظام بعثي دكتاتوري، لكنه كان ديكتاتورياً من الناحية الأمنية والسياسية.
أما ما يخص الفساد على صعيد الاقتصاد فكان يلحق الضرر بالمواطنين الفقراء والفئات المتوسطة في الأغلب.
أما الأغنياء والتجار والصناعيون كانوا يستفيدون من هذا الفساد، سواء بالتهرب من الضرائب أو شراء قوانين ومراسيم لصالحهم.
نحن ندرك أن نظام البعث قد قضى على البرجوازية السورية الكلاسيكية، وأغنياء سوريا الحديثة هم الذين اغتنوا من وراء الفساد والسلطة.
من ناحية أخرى لا بد القول أن النظام البعثي هو شبه علماني من الناحية الاجتماعية.
فلم يكن هناك تدخل كبير في الحياة الخاصة.
وربما كانت هذه العوامل مجتمعة تقف وراء استمرار النظام نصف قرن.
أما دولة تقيمها القاعدة فلن يقبلها القسم الأكبر من الشعب السوري.
خصوصاً أن هذه التنظيمات التكفيرية لا تؤمن بالديمقراطية ولا بالانتخابات ولا بالتعددية.
إنهم لا يؤمون لا بالوطن ولا بالشعب.
فكل البلدان ملك للرب الأعلى، وبما أنهم أولياء الرب، فلهم الحق في التدخل بشؤون كل البلدان، بغض النظر عن الحدود والقوميات.
هم يعتبرون الشعوب مجرد عبيد للرب.
والرب هو الذي وكل هؤلاء المجاهدين لتطبيق شريعة الله على الأرض وعلى هؤلاء العبيد.
في حال نجاح الخيار الثالث سيصبح تقسيم سوريا لا مفر منه.
ويبدو أن أمريكا والدول الغربية لن تعارض حينئذ التقسيم.
صحيح أنها لن تقوم هي بهذا التقسيم على طريقة سايكس بيكو.
وإنما ستساعد عن بعد لأن يقوم أبناء البلد أنفسهم بتحقيق هذا المشروع.
ولن تعترض روسيا أيضاً على هذا التقسيم، مادام ستبقى لها بقعة من سوريا تقيم عليها قاعدتها العسكرية.
لا شك أن أكثر المشجعين لهذا التقسيم ستكون إسرائيل، وهي في المحصلة المستفيدة الأكبر من التقسيم.
يبدو لي أن السيناريو الأقرب لهذا التقسيم المحتمل سيكون على الشكل التالي:
1- ستتشكل دولة علوية في الساحل السوري.
وقد ظهرت خريطتها في مواقع التواصل الاجتماعي.
يبدو أن لا خيار للعلويين حينئذ سوى تشكيل دولتهم.
فمن ناحية ارتكب الكثير منهم خلال مسيرة الثورة جرائم لا يمكن أن يفلتوا من عقوبتها.
نعرف أن أغلب كوادر الدولة من العلويين.
وهو رقم ضخم بكل تأكيد, خصوصاً في قيادات الجيش وفروع الأمن.
من ناحية ثانية لن يقبل العلوييون العيش في ظل حكم سني طائفي يجسد فكر القاعدة.
هناك على الأقل سببان لهذا الرفض.
السبب الأول أن العلويين عاشوا أربعين سنة وهم الطائفة الحاكمة في السورية.
وبالتالي لن يقبلوا العودة إلى سابق عهدهم عندما كانوا طائفة محكومة.
وللحقيقة فالطائفة العلوية كانت مضطهدة اجتماعياً واقتصادياً قبل أن يستولي حافظ الأسد على الدولة السورية.
والسبب الثاني يكمن في أن المجتمع العلوي غير متزمت ديناً.هو منفتح، والمذهب العلوي يختلف حتى عن المذهب الشيعي.
العلوييون يكتفون بذاتهم ولا يقومون بالتبشير بين أطياف وديانات أخرى.
أعتقد من المستحيل أن يقبل عامة العلويين الرضوخ للشريعة الإسلامية السنية على نمط فكر القاعدة والتكفيريين السنة.
يبدو لي أن الإمكانيات لقيام هذه الدولة موجودة.
فهي تملك كمية كبيرة من جميع أنواع الأسلحة، بحيث تستطيع أن تدافع عن نفسها ضد أية قوة سورية تسعى للقضاء عليها.
خصوصاً أن هذه الدولة ستقوم بالتفاهم مع إسرائيل وروسيا.
وبالتالي ستدعم هاتان الدولتان هذه الدويلة وستحميانها.
وربما ستحقق إسرائيل من وراء قيام هذه الدولة حلمها في إمكانية الاحتفاظ بجولان.
أما بالنسبة لروسيا فستعتبر هذه الدويلة كافية لقاعدتها العسكرية في طرطوس.
وهي ستؤمن لها استقرار وجودها في الشرق الأوسط.
2- بدورهم سيقوم الدروز بإنشاء دويلتهم أيضا.
فهم كطائفة لا يستطيعون العيش مع دولة إسلامية على غرار طالبان.
ولن يقبلوا شريعتها الإسلامية المتزمتة.
فالذاكرة الدرزية مليئة بمظالم السنة ضدها.
وإذا كان المسلمون يدرجون هذه الطائفة في إطار الإسلام، إلا أن واقع الأمر يشير أنها بعيدة عن الإسلام.
من ناحية أخرى فقيام دويلة درزية لا يمكن أن يتحقق إلا في تحالف مع الأردن أو مع إسرائيل.
وربما الاحتمال الأخير هو المرجح لوجود قسم من الدروز في جولان وفي إسرائيل أيضاً.
3- الإشكالية الأكبر هي في الوضع الكردي.
فبالرغم من أن تعداد الكرد في سوريا يأتي في المرتبة الثانية بعد العرب، إلا أنهم قد يكونوا أكبر الخاسرين من تقسيم سوريا.
لأن إمكانية تشكيل دويلة لهم غير متوفرة لأسباب داخلية وخارجية.
من الناحية الداخلية فالجغرافية الكردية السورية غير مساعدة لإقامة دولة مستقلة لوجود نسبة غير قليلة من العرب ضمن هذه الجغرافيا.
وقد يعترض هؤلاء العرب على قيام هكذا دويلة.
مع العلم أن هذه المعارضة ليست قطعية.
فالعديد من العشائر العربية في الجزيرة السورية وافقت على حكم ذاتي للجزيرة في العهد الفرنسي في الثلاثينيات.
ومع ذلك فأمام الكرد خيارات أخرى:
1- البقاء في إطار سوريا التي ستحكمها القاعدة على أساس حكم فدرالي يتمتع فيه الكرد بدستور خاص بهم على نموذج إقليم كردستان العراق.
يبدو أن هذا الاحتمال ضعيف جداً، نتيجة عدم وجود الثقة بين الكرد وهذه التنظيمات التكفيرية.
خصوصاً أن الحزب الذي يقود الشارع الكردي السوري الآن هو حزب الاتحاد الديمقراطي.
وهذا الحزب علماني بالأساس.
زد على ذلك أن النهضة القومية الكردية الحديثة تعتبر الأيديولوجيا الإسلامية والقومية لدى العرب والفرس والترك هما أيديولوجيتان تنكرت وتتنكر لحقوق الشعب الكردي، وفي ظل هاتين الأيديولوجيتين جرت جميع أشكال تذويب الشعب الكردي في هذه القوميات وممارسة الحروب والمجازر.
2- الخيار الثاني مرتبط بالمفاوضات الجارية بين الحزب العمال الكردستاني وحزب العدالة والتنمية في تركيا.
فإذا نجحت هذه المفاوضات، وحصل الكرد بموجبها على إدارة ذاتية خاصة بهم في كردستان تركيا سيفضل الكرد السوريون الانضمام لهذه الإدارة بدل البقاء في ظل حكم القاعدة.
وفي هذه الحالة ستعمل تركيا لتحقيق هذا التوجه الكردي بكل قوة محلياً وإقليمياً ودولياً.
3- وأخيراً هناك احتمال ثالث، في حال فشل المفاوضات بين الحزب العمال الكردستاني والحكومة التركية.
وهو انضمام كرد سوريا لإقليم كردستان العراق.
وربما هذا الخيار هو الراجح.
أعتقد على كل الثوار السوريين وجميع فئات المعارضة أن يعملوا من أجل سوريا دولة علمانية، فدرالية، وديمقراطية.
في هذه الحالة فقط ممكن الحفاظ على وحدة سوريا أرضاً وشعباً.