ما يجري في تل أبيض تحت المجهر

  ‏ جان كورد 
  ‏
(هل تتذكرون رفض حزب الاتحاد الديموقراطي لعودة آلاف البيشمرﮔة الكورد السوريين المدربين في جنوب كوردستان؟ وهل تتذكرون أنه رفض السماح لتشكيل أي تنظيم عسكري كوردي سوري إلا ضمن قوات الحماية العائدة له؟)

إن اشتباك قوات حزب الاتحاد الديموقراطي مع تنظيمات إسلامية عربية في تل أبيض (ﮔرى سبي) قد بدأ واستعرت ناره بعد الاتهامات المتبادلة بخرق الاتفاق المعقود بين هذا الحزب و”جبهة النصرة” المحسوبة على المنظمات الإرهابية في العالم الحر الديموقراطي،
 وإذا كانت هناك تنظيمات إسلامية أخرى منضمة للقتال إلى جانب جبهة النصرة فإن أي حزبٍ كوردي أو كوردستاني لم يعلن حتى الآن مساهمته في القتال إلى جانب حزب الاتحاد الديموقراطي، على الرغم من استمرار نشاط الهيئة الكوردية (العليا) التي تشارك فيها بعض الأحزاب الكوردية  مع هذا الحزب، ويتردد بأن “قوات الحماية الشعبية” العائدة له تابعة لهذه الهيئة وتأتمر بأمرها، كما ان أي حزبٍ كوردي آخر لم يوقع من قبل إتفاقاً مع جبهة النصرة وسواه من المنظمات المتطرفة التي لها ضلع كبير على ساحة القتال الدائر منذ زمنٍ طويل بين الشعب السوري ونظام العائلة الأسدية الباغي والدموي.

وعليه فإن المسؤولية الكبرى في الجانب الكوردي عن النتائج السلبية لما يجري في هذه البقعة التي اشتهرت تاريخياً بصونها الوحدة الوطنية والتعايش السلمي بين مكوناتها الاثنية والدينية، وفي مقدمتها الكورد والعرب في تل أبيض وقراها، تقع على عاتق حزب الاتحاد الديموقراطي وليس على كل الأحزاب الكوردية السياسية، التي نعلم عنها بالتأكيد رفضها الانزلاق إلى أي صراعٍ جانبي اليوم، والمعركة السياسية لها هي ضد نظام الأسد ومرتزقته وحلفائه وشبيحته فقط.

وبناءً على هذا فإن أي اتهام للشعب الكوردي من خلال ما جرى سابقاً من مآسٍ دموية بسبب صراعات مسلحة في مناطق الجزيرة ومن أهم فصولها ما حدث في رأس العين (سرى كانيى)، وكذلك بالقرب من مدينة عفرين في منطقة جبل الأكراد (كورداغ) سابقاً، عار من الصحة ومردود، لأن الشعب السوري يرفض انحيازه عن معركته الوطنية الأساسية التي هي معركة سائر مكونات المجتمع السوري إلى معارك جانبية تضر بالنسيج الاجتماعي – الديني لهذه المكونات وتعود على شعبنا الكوردي خاصةً بمزيد من الدموع والدماء والخسائر المادية وتساهم في تأخير وعرقلة نشاطه من أجل رفع الظلم والعدوان عن نفسه.
ويعلم كل العقلاء بأن خرق الاتفاق يقتضي وجود الاتفاق قبل ذلك، فإذا كانت جبهة النصرة ومن ورائها  إمارة (أو دويلة) العراق والشام الإسلامية كما تم تصنيفهما عالمياً من المنظمات الإرهابية  والمتطرفة فكيف يعقد حزب الاتحاد الديموقراطي معهما اتفاقاً؟ وعلى أي أساس تم صوغه والالتزام به؟  ثم يعود الحزب للقول بأنه يقاتل اليوم ضد الإرهاب السلفي، الأردوغاني، المتخلف، المعادي للكورد وكوردستان.

هذه الاشتباكات جرت وتجري بهدف الاستيلاء على مناطق حدودية مهمة للغاية، مع التأكيد على الأهمية الاستراتيجية، من النواحي العسكرية والسياسية والاقتصادية، لسائر المنطقة الكوردية على طرفي الحدود بين تركيا وسوريا والعراق، وهذا ما يجعل من هذه الاشتباكات في منتهى الخطورة، كمن يشعل النار بالقرب من حقول قمح آن أوان حصادها، ولذا فإن مجرد التفكير في خوض معارك في هذه المناطق خطأ جسيم، سواءً المرتكب في الجانب العربي أو الكوردي، ونحن نعلم بأن الدولة الكبيرة تركيا، العضو في حلف الناتو، والتي لم تتحرك ضد نظام الأسد عسكرياً رغم اعتداءاته العسكرية المتكررة عليها ورغم كل تهديداتها وخطوطها الحمراء، فإنها لن تتوانى عن القيام بهجمات جوية وبرية على المناطق التي يشتد فيها ساعد الحركة التحررة الكوردية، سواءً في سوريا أو في العراق، وقد فعلت ذلك مراراً وتكراراً في جنوب كوردستان (كوردستان العراق!) منذ لجوء بعض قوات حزب العمال الكودستاني إلى جبل قنديل وسواه ضمن الأراضي العائدة لدولة العراق رسمياً.

 والتصريحات اللامسؤولة التي يطلقها البعض من الكورد بصدد “قدرة الشعب الكوردي على التصدي لكل التنظيمات المتطرفة وتركيا من ورائها!!ّ!” ليست إلا بالونات دعائية إعلامية بهدف تقوية عزيمة المنخدعين ببعض أسباب القوة التي يمتلكها هذا الحزب الكوردي أو ذاك، فإن غرب كوردستان (كوردستان سوريا) ليس كما هو عليه شمال كوردستان (كوردستان تركيا) أو شرقه أو جنوبه، من حيث العمق الاستراتيجي والإمكانات والاستعداد التعبوي اللازم للتصدي لكل هذه القوى المتكالبة علينا مجتمعة.

كما أن المواجهة الكوردية “السورية” مع  الدولة التركية غير واردة كبرنامج سياسي عملي لأي حزبٍ كوردي سوري، ناهيك عن أن المرحلة التي فيها حركتنا التحررية الكوردستانية عموماً، ومن ضمنها حزب العمال الكوردستاني (الأم التي أنجبت حزب الاتحاد الديموقراطي) في سعي حميم من أجل السلام مع تركيا، وهي بحاجة إلى فترةٍ زمنية طويلة لبناء قواها الذاتية وحشد طاقاتها وكسب مزيدٍ من الأصدقاء، من العالم كله ومن الشعب التركي أيضاً، وليس الدخول في مغامرات تؤدي إلى تشريد ملايين الكورد السوريين وإفراغ  منطقتهم الكبيرة الممتدة من حدود العراق شرقاً إلى لواء الاسكندرون غرباً من القوم الكوردي.

ما حدث لشعبنا في شمال كوردستان من تهجير وتدمير اقتصادي، وكذلك من قبل في جنوب كوردستان يجب أن لايتكرر لدينا أيضاً.

لقد زعم مسؤولو حزب الاتحاد الديموقراطي على الدوام بأن مهمتهم الأولى هي حماية الشعب الكوردي والحرص على عدم تعريضه للخراب والدمار، وافتخروا بأن المنطقة الكوردية قد تحررت بصورة سلمية مدهشة، وحاولوا اقناع إخوتنا في أجزاء كوردستان الأخرى وكذلك العالم بأسره بما اعتبروه أكبر انتصار لشعبنا في غرب كوردستان، وليس من مهامهم الآن القتال ضد قوات النظام السوري، وبرروا بذلك امتناعهم عن الهجوم على مقرات وثكنات ودوائر أمن النظام في المنطقة الكوردية، حتى تماثيل الدكتاتور المقبور حافظ الأسد بقيت سليمة ومصانة في المدن الكوردية “المحررة!”… حسناً.

أليس ما جرى في رأس العين سابقاً ويجري الآن في تل أبيض يعد انتكاساً فظيعاً ناجماً عن سوء تقدير المواقف والقوى والفصل بين الصديق والعدو وقلة خبرة في المجالين السياسي والعسكري؟ على الرغم من إدانتنا التامة لأي عدوانٍ على الكورد وقراهم ومدنهم من أي طرفٍ كان، وتحت أي لافتةٍ كانت، دينية أو علمانية، أفلا يتحمل الذين أعلنوا المنطقة الكوردية “محررة ومصانة” بقواهم القتالية مسؤولية فشلهم في كل ما حدث؟  ألم يدقوا منذ ظهورهم اسفيناً بينهم وبين مختلف فصائل الحركة الوطنية الكوردية بمواقفهم التسلطية والاستفراد بالقرار الكوردي؟ فكيف يطالبون الآن بأن تتحمل هذه القوى “الخائنة!” التي كانت تتهم في وطنيتها مسؤوليتها في الدفاع ويتم الاستنجاد بالشعب الذي تم إذلاله بصورة ممنهجة من قبل “أولياء الأمر” هؤلاء، كما حدث مراراً في عفرين وعامودة وكوباني؟  الشعب الكوردي لايقبل أن يستبد به أحد، سواءً أكان المستبد غريباً أو من أبنائه، كما لايقبل ذلك من أي جهة سياسية كانت، سواءً أكان زعماؤها وأنصارها ملتحون أو غليظو الشوارب أو بدون لحى وشوارب.، ولذلك فإن ماجرى هو عدم إسراع الحركة الوطنية الكوردية وتباطىء الشعب الكوردي لتلبية نداء الاستنجاد المنطلق من حناجر واسعة في حزب الاتحاد الديموقراطي لصد عدوان الإسلاميين المتطرفين على تل أبيض، على الرغم من أن صد أي عدوانٍ غاشم واجب قومي ووطني يقع على عاتقنا جميعاً، بغض النظر عن الخلافات السياسية والآيديولوجية.

التهمة التي يخفي وراءها المعتدون المتطرفون وفي مقدمتهم أمراء جبهة النصرة الأسباب الحقيقية لهجومهم على حزب الاتحاد الديموقراطي من شقين: الأول هو أن الحزب خرق الاتفاق المعقود بينهما والذي يقتضي عدم إدخال المسلحين إلى المدينة، وهذا بالفعل  ليس ذريعة تؤدي إلى هجومٍ واسع النطاق ومدعومٍ بمختلف أنواع الأسلحة، حتى المدافع الثقيلة والدبابات، والثاني هو أن المهاجمين يعتبرون حزب الاتحاد الديموقراطي أداةً من أدوات النظام الأسدي، يحارب الجيش السوري الحر، ويدافع عن نقاط استراتيجية للنظام في المنطقة، وهذه الذريعة أيضاً غير مقنعة لأنه من الأولى استخدام هذا السلاح الكثيف للهجوم على قوات النظام ولمساعدة مدن محاصرة كما هو حال مدينة حمص مثلاً.

ولكن من جهة أخرى، ليس الإسلاميون وحدهم يوجهون هذه التهمة إلى حزب الاتحاد الديموقراطي، وإنما عدد لايستهان به من الناشطين الكورد أيضاً، فلماذا يتم اتهام هكذا حزب كبير يعتبر نفسه جزءاً من قوى الثورة السورية  بالذات؟ ولاحاجة لنا بالدخول في هذه الغرفة المعتمة التي تمتلىء بالشكوك والظنون حتى لانظلم أحداً.

زعم أكابر هذا الحزب بأن الحق كان إلى جانبهم في أحداث مدينة عاموده الدموية المخزية، ثم اعترف أحد هؤلاء علناً بأنهم يتحملون المسؤولية عن حدوثها لأن “المدينة كانت تحت حمايتهم!”، فهل يتحملون المسؤولية عما يجري في تل أبيض أيضاً وفي كوباني وفي عفرين وما حولها، وهي كلها في حمايتهم؟  وهل يتحملون المسؤولية عن عقدهم اتفاقاً مع منظمة يعتبرونها إرهابية؟

 أطلق  هؤلاء تصريحاتٍ مثيرة عن اقدامهم على بناء “إدارة ديموقراطية ذاتية” خلال شهور قلائل قادة، وطالبوا الكورد بإبداء الآراء في مشروع دستور هذه الإدارة، على الرغم من أن الإدارات الذاتية أو المحلية لاتحتاج إلى دستور، وإنما الفيدراليات هي التي تحتاج لدساتير، وهنا أيضاً لم يستشيروا الحركة السياسية الكوردية ولم يدعوها لعمل مشترك في هذا المجال، ثم صدر عن “هيئة التنسيق الوطني” السورية، التي حزب الاتحاد الديموقراطي عضو فيها، بيان  يذكر أن مسؤولي هذا الحزب قد تبرأوا من هذا المشروع وأكدوا على أنه ليس مشروعاً باسم الشعب الكوردي.

فكيف يصدر هكذا بيان بعد كل ما قيل ونشر عن هذا المشروع؟ بالتأكيد إن قيام حزب الاتحاد الديموقراطي بما يحلو له باسم الشعب الكوردي وبالغياب عن إرادته، بل وبدون فصائل حركته الوطنية الأخرى يؤدي إلى أخطاء جسيمة مضرة بشعبنا وقضيته العادلة.

وأخيراً،..
لابد من التأكيد على أن حماية الشعب الكوردي عن طريق تشكيل قوات مسلحة مسؤولية مشتركة تقع على عاتق مختلف الفصائل الوطنية لهذا الشعب، وأن إقامة إدارة ما، يحكم بها نفسه بنفسه، ضمن حدود الدولة المشتركة: سوريا، مسؤولية جماعية أيضاً، وكذلك فإن إقامة علاقات مع المعارضة السورية، الوطنية والديموقراطية والإسلامية المعتدلة، يجب أن تأخذ بعين الاعتبار وجود هذا الكم الهائل من القوى السياسية الكوردية، كما أن الشروع في قتالٍ مع هذا أو ذاك يجب أن يدرس بعناية فائقة في أضيق الدوائر الكوردية الهامة، إذ أن شعبنا غير مستعد لزجه في معارك جانبية في هذا الوقت الحرج والخطير من تاريخ سوريا التي هو جزء أساسي من مكونات مجتمعه الفسيفسائي.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…