استعادة قابيل

إبراهيم اليوسف

استطاعت ثورات ربيع المنطقة، أن تجعلنا نعيد النظر في الكثير من المفاهيم التي كنا نتداولها، على نحو آلي، ببغاوي، من دون الإمعان في كنهها، على اعتبارها مسلمات، أو بدهيات، ولا حاجة البتَّة إلى الانشغال بالوقوف عند الجوانب الأخرى فيها، مادامت مؤجلة، أو غير بادية للعيان، لأسباب عديدة، تتعلق بطبيعة اللحظة الزمنية المعاشة، أو بهيمنة نمط محدد من الثقافة والأخلاق، وإن كانت هذه المفاهيم تحمل نقائضها، أو أضدادها، التي تراكم عليها، للاعتبارات المذكورة غبار التاريخ، ولهاث البرهات التي تندرج ماضية إلى حتفها، وهي تحوّل المستقبل إلى حاضر، فماضٍ، ضمن دورة تخضع لقوانين الطبيعة وسيرورة الزمن ذاته .

والدخول إلى استقراء عالم التبدلات الهائلة التي أجراها هذا الربيع بين هذا العنوان أو ذاك، من حراكه العام، يضعنا أمام عالم مترامي الأطرف، تحتاج متابعة دقائقه وتفاصيله إلى مزيد من الجهد، مادامت منظومة من الرؤى والقيم تتبدل بأخرى غيرها، حيث منها ما يستنسخ، ومنها ما يرجأ، ومنها ما يواصل تقديم نفسه، كلما انتهز الفرصة المناسبة، كي يكون ما هو جديد، غير مسبوق في الظهور .

وإذا كان سفك دم الآدمي، على يدي أخيه، قد أرِّخ في انطلاقته الأولى، إثر مصرع هابيل من قبل شقيقه قابيل، الذي لا يزال يقتل نصف البشر، فإن حدوداً نظرية طالما وضعها الإنسان، في محاولة منه لصون حياته، ووجوده تمارس سطوتها، وإن كان هو نفسه – في بعض حالاته – سيشذُّ، ولدواع تتعلق بانهيار أسس المنظومة الأخلاقية عنده، كي يسترخص روح سواه، كتعبير عن العودة إلى اللحظة الوحشية التي تتلاشى في ظل ترجمة النظرية – وهي مصلحة الإنسان – إلى ممارسة، وهي هنا ديدن كل النظريات والفلسفات .

ومن يتابع الخطّ البياني لإزهاق أرواح الآدمي، ضمن دائرة عيانية، منظورة، يجد أن التدابير التي طالما كانت توضع على مستوى الأوطان أو المستوى الدولي، باتت تذوب، من قبل واضعيها – تحديداً – في هذين الفضاءين، سواء أكان ذلك في الدساتير والقوانين الوطنية، أو الكونية، إشباعاً لغريزة العطش للسلطة، والنفوذ، وما يليهما من مفردات منفعية، تلجم المراقب الكوني، وتشد من أزر القاتل، وإن كنا سنجد أن كلاً منهما سيتشظى، ليجسر من هم خارج مستنقع الدم لرفد القاتل بما يمكن من أدوات الجريمة، بل إن ممارس القتل – وهو يتلقى هذه الشيفرات الواضحة – مستنهضاً سلفه قابيل من ترابه، كي ينشر رائحة الدم في فضاء المكان، من دون أي تورع عن جعله مجرد طلل، كي يتفوق على جده ذاك، الذي بنى بيته، ووسعه، ليكون قاتل عصر الفضاء المفتوح، قاتل العصر المفضوح، وهو يقدم أوراق اعتماد جديدة في عوالم الأدب والفن، لاستكمال الجانب المغيب من صورة دراكولا العصر، سائراً إلى نهاية روايته الأخيرة .

elyousef@gmail.com

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

مصطفى منيغ / تطوان تأجيل المُنتُظر لا يجُوز، ومِن المُنتَظر التأجيل بالواقع ممزوج، بالتمعن في الجملتين نصل لمدخل معرفة دول تائهة كتلك البلهاء لا تفكر إلا أن يحتَلَّها زوج وإن قارب أعمال يأجوج ومأجوج ، و تلك العالمة لما تقدِّمُه من معقول لكل مَخْرَج لها معه نِعْمَ مَخْرُوج ، المكشوفة رغم تستُّرها وراء سَدٍّ يقِي وجودها دون تقدير إن تردَّ…

د. محمود عباس   يعوّل الشعب الكوردي على المؤتمر الوطني الكوردي في غربي كوردستان بوصفه لحظة مفصلية، لا لمجرد جمع الفاعلين الكورد في قاعة واحدة، بل لتأسيس إرادة سياسية حقيقية تمثّل صوت الأمة الكوردية وتعبّر عن تطلعاتها، لا كفصيل بين فصائل، بل كشعبٍ أصيلٍ في جغرافيا ما تزال حتى اللحظة تُدار من فوق، وتُختزل في الولاءات لا في الحقوق. إننا…

ماهين شيخاني في عالم تُرسم فيه الخرائط بدم الشعوب، لا تأتي التحوّلات العسكرية منفصلة عن الثمن الإنساني والسياسي. انسحاب نصف القوات الأمريكية من شرق الفرات ليس مجرد خطوة تكتيكية ضمن سياسة إعادة التموضع، بل مؤشر على مرحلة غامضة، قد تكون أكثر خطراً مما تبدو عليه. القرار الأميركي، الذي لم يُعلن بوضوح بل تسرب بهدوء كأنّه أمر واقع، يفتح الباب أمام…

لم يعد الثاني والعشرون من نيسان مجرّد يومٍ اعتيادي في الروزنامة الكوردستانية، بل غدا محطةً مفصلية في الذاكرة الجماعية لشعبنا الكردي، حيث يستحضر في هذا اليوم ميلاد أول صحيفة كردية، صحيفة «كردستان»، التي أبصرت النور في مثل هذا اليوم من عام 1898 في المنفى، على يد الرائد المقدام مقداد مدحت بدرخان باشا. تمرّ اليوم الذكرى السابعة والعشرون بعد المئة…