أزمة المعيار الأخلاقي:
إذا كانت تسمية الربيع العربي، قد أدرجت على الألسن من خلال استذكار ثورة التشيك في مواجهة الاتحاد السوفييتي-السابق-في العام 1968، وقد وجدنا “ربيع دمشق” في العام2000 الذي” استغرق حوالي ستة أشهر فقط” و تجلى في إطاره النظري، وراح يقرأ لوحة المكان بين بعديها الزمنيين، حيث أولهما يعود إلى ركامات الماضي القريب، البعيد، نتيجة إرثه الثقيل، من خلال وصول النظام إلى دفة الحكم في العام 1963، كي يكون حاضنة لأحد أبشع صور الاضطهاد والفساد في المنطقة، وثانيهما يتجسد في التصورات التي وضعها كتاب هذا الربيع، وقد دفع أغلبهم الضريبة إما من خلال رميه في غياهب السجن، أو إسكاته معنوياًً أو فيزيولوجيا، أو من خلال تهجيره، أو حتى استمالته، وضمه إلى ركب ماكنته، جزئياً أومرحلياً، والأمثلة- تكثر- على كلتا الحالتين.
ومن الملاحظ، في مثل هذا المثال المشخص، وهو يصلح لتعميمه على سواه من الأنظمة التي ولَّت، أو تلك التي عزَّزت أمكنتها، نتيجة التطورات غير المحسوبة التي رافقت هذه الثورات، استغلال بعضهم الإرث الرُّوحي لدى من هم دينامو هذه الثورات، والاشتغال علي تجيير بوصلتها، في اتجاه خاص، ناهيك عن تمكن هاتيك القوى التي لاتزال في أيديها نواصي الاقتصاد، والاستبداد، التحرُّك في الاتجاهات كافة، وفي مقدم ذلك إذكاء صدور من رسخوا حضورهم بمعاداتهم، عبر عقود، مستثمرين وجود أرض عربية محتلة، وفي مقدمتها فلسطين، والجولان، وهما ضلعان من الثلاثية التي كانت سيناء من ضمنها، وبقيت أنموذجاً لتزيين صورة الحوار السلمي مع المحتل، بالإضافة إلى تحقيق موازنة العنف المضاد للعنف، من خلال خلع قمصان الثورة على بعض بطانته المنتفعة، مستغلاً حالة الفوضى، وخلط الاوراق، وفتح أبواب الثورة على مصاريعها، من دون إمكان التدقيق في أوراق اعتمادها، وحسن سلوكها.
أمام مثل هذا التشظي، المجتمعي-المباغت- في وسط حالة ارتفاع ألسنة لهيب النار، في أوضح حقل تجربة- هي مهاد الربيع الاكثر إدماء ودماراً- نجد أن القاتل استطاع تحقيق ماخطط له، منذ أولى لحظات بدء ساعة صفر الثورة، من خلال وضع فرضيات وهمية، راح يحولها إلى واقع، كي يزين ملامحه، وسلوكه، وهو الذي فرزته بيئة ملوثة، فاسدة، ترسَّخت ركائزها اعتماداً على آلة القمع، وباتت تواصل ذلك، بوتائر أعلى- كما تعكس ذلك وسائل الإعلام في أول تجسير لكسر المسافة افتراضياً بين الحدث والمتابع الكوني- بيد أن الأخطر في الأمر، يكمن في تزوير صورة الضحية، وهو مهدور الدم، مسترخص الروح، والممثل بجسده، والمنتهكة كرامته، والمدمر بيته، ووطنه، ولايبقى الأمر عند هذه الحدود، بل تم تجاوز “خلط الأوراق” الحدود الوطنية، كي تتضبب الرؤيا، ويشكل الموقف، وتزاد عتمة الالتباس، وهو أمر منح مسبَّقي الموقف السلبي من هذه الثورات فضاء، يتحركون فيه، للإمعان في تنفيذ ماهم مكلفون به من دور تشويه صورة الثورة، وتحصين أنفسهم بمسوّغات وطنية، وقومية، تبين أية معاينة عادية، من قبل المواطن العادي في مكانهم، أنها ملفقة، ولعلَّ صعود بعضهم، على أكتاف الثورة، ممن ليس له تجربة نضالية مباشرة، في مواجهة أعلى أهرام هاتيك الأنظمة، بلا مواربة، أو عدم توافر شرط التمثيل الوطني في بعضهم، واستنساخ بعضهم لسلوكيات السلطة، من خلال إيثار الذات، والغرق في مستنقع الأنا، وانعدام الوازع الأخلاقي، والبعد الجماهيري، أسهم في إعطاء بعض الحجج- على قلتها- لمنظري “الأنتي ثورات”، الذين يعتمدون على البراباغاندا والتضليل، كي يبقى هؤلاء جبهة واحدة، في الوقت الذي فتت مجمل العوامل الأخرى جبهة الثورة، في مثل هذا الموقع المشخص، ماجعلها تتلكأ، وتتعثر، في بعض خطواتها، ويبقى كلُّ ذلك غير حاسم، لولا هيمنة الأفق الذي عششت فيه هذه السلوكيات، من خلال غياب الرأي الحاسم للأسرة الدولية، لأسباب شتى، بعضها يعود إلى ضبابية هوية الثورة-نتيجة عفويتها وجماهيريتها- والتقاء من هم يتراوحون على سعة ال180 درجة، ضمن سقفها، حيث القومي، والديني، والليبرالي، والماركسي، في الوقت الذي يتخندق الطرف الآخر، تحت إطارالعامل المنفعي، وإن كان هو-في الأصل-حرباوي الجلد، مراوغ الرؤية،، بلا هوية، وبلاقيم، أوأخلاق، وأن الثورة التي تخط مسارها، من خلال التضحيات الجسيمة، هي في محتواها، ثورة أخلاقية، على قيم التزوير، وثقافة التدجيل التي تلاقي رواجها، على امتداد واسع، لدى قوى الشر، أياً كان موقعها، خلال بعدي البارومتر الرؤيوي.
قيم الثورة
ثورة القيم..!
بدهيٌّ، أن تلك الآلة التي تلجأ إلى استخدام العنف الدموي، كترجمة عن عنف معنوي، جزئي الدموية، في حدوده السابقة، يتكىء على إرث رمزي من الضغينة، تجاه الآخر، حتى وإن كان جزءاً من الذات يدخل في ذلك الإطار، وهو في صميميته سقوط- بكل المعايير- وذلك لأنه متجرد عن أية ثيمة أخلاقية، مادام أن هناك إمكان إحراق كلِّ شيء من حوله، أمام تقليص سلطته، أو إقصائها، ولو كان ذلك ناجماً عن نص مقونن، أو مشرعن، بل ومؤازراً برغبة الأغلبية، وإن أي تتبع لجملة السلوكيات التي يمارسها، سفكاً للدماء، وانتهاكاً للحرمات، وتدميراً للبنية التحتية، إنما يدلّ على استلاب وبائي، أخلاقي، مقيت، في الوقت الذي يكون فيه الخطاب الذي ينذر نفسه لرفع الحيف، والغبن، بل والاضطهاد، والجور، عن العامة، ناجماً عن دافع مشبع بالقيم الإنسانية، السامية، والنبيلة، هذه القيم التي لاتنطلق أية ثورة جماهيرية، إلا وكانت هي ثورتها- تماماً- على كل مايعيق ديمومة بعدها الإنساني، وشتان بين من ينتصر لطفل كي يرفع عن رقبته سكين قاتله، وبين من يمارس هذا الفعل الشنيع، أو ينتصر له، حيث هناك سلوك مابعد وحشي، لا بعد قيمياً، إيجابياً له، كي نكون هنا أمام ثقافتين متضادتين، أو سلوكين متناقضين، هما: الجمال، قرين الثورة، ومحركه، مقابل القبح، بكل أبعاده، سمة ممارس ثقافة إبادة البشر، والشجر، والحجر….!.