التكفير السياسي اللاديني في غربي كردستان

خالد جميل محمد

استعارة مفهوم التكفير السياسي مقروناً بنعت (اللاديني) تفيد في نقل هذا المفهوم من مجاله الديني المعهود إلى حقلٍ يماثله في الممارسة ويختلف عنه في التسميات والشعارات.

حيث أخذت تنظيماتٌ كردية سياسية مُسجّاة بمسميات ثالوث العَلمانية، الوطنية، القومية وأحياناً مسميات مؤسسات المجتمع المدني، تنهج نهج تنظيمات التكفير الديني في سلوكها، متوسِّلةً آلياتِ ذلك التكفير الديني ومعتمدةً قواعدَ كشفت أنها جعلت من ذلك الثالوث مطية تَـبلُغ بها غايات تتبرّأ منها حقيقةُ كلٍّ من تلك المسميات التي اتُّخذت ستائر لإخفاء الجوهر التكفيري المتطابق في بنيته وطبيعته لجوهر التكفير الديني مِن حيثُ الجمودُ العقائديُّ، التعصّبُ، التطرف، التشدّد، العنف، الاستبداد، الاستئثارُ وعدمُ قَـبولِ الآخَـر،
إضافة إلى المحاكمات اللاشرعية التي يتم فيها مقاضاة الآخرين وفق عقلية ذلك التكفير.

في حين أن هذه التنظيمات لم تقدم لهذا الثالوث سوى الانتهاكات والإساءات المتعاقبة والفاضحة التي يخلّد التاريخ ذكراها ويجعلها بقعة سوداء في صفحات المرحلة الراهنة.
أمّا بخصوص التكفير الديني الذي أنتج الجماعات الإرهابية فمن المعروف أن الخطاب الدينيَّ مٌسْنَداً إلى السُّنّة النبوية نصَّ على أنَّ “تكفير المسلم كقتله”، بل امتدّ ليجعل للتكفير الديني شروطاً تتمثّل في أمورٍ عديدة منها ألا يكون المكفَّر (بفتح الفاء) كافراً كُرهاً، جهلاً، بَلاهةً أو اجتهاداً دون قصد الكفر، كما اشترط له أن تقوم عليه الحُجَّةُ، ويتمّ التثبّت من كفره وفق ضوابط حددها هذا الخطاب الذي رفض تكفير المسلم بذنْبٍ فعله أو خطأٍ ارتكبه، وندّد بسفك الدم الحرام أو الإغارة على أموال الآخرين أو هتك أعراضهم، كما جعل من “إشهار سيف التكفير” في وجه المخالفين والمختلفين محرَّماً.

ورأى في “قتال المسلم كفراً”؛ بمعنى أن الكفر أشد من القتال وأعظم.


أمّا هذه التنظيمات الكردية التي زعمت أنها اعتمدت الثالوث المذكور فإنها لم تعتمدْه إلا شعاراً لتشريع تكفير الآخرين المختلفين ومحاسبتهم ومقاضاتهم وتنفيذ الأحكام بحقهم، دون أن تقوم الحجّة أو دون أن يكون ثمة تَثَبُّتٌ أو تسويغ قانوني أو إنساني أو وطني.

وهذا يشير إلى العلاقة التماثلية بين نوعي التكفير الديني واللاديني؛ أي بين التكفير المعتمِد على العقيدة الدينية والتكفير المعتمِد على العقيدة السياسية، حيث يلتقي الاثنانِ في آلياتهما وأدواتهما وممارساتهما في مجال الإرهاب بمختلف ضروبه، والعنف بمختلف أنواعه، إضافة إلى إكراه الآخرين على القبول بما لا يعتقدون به ولا يتوافق مع تطلعاتهم أو مصالحهم أو طرائق تفكيرهم وطبائعهم.

وبذلك تكون هذه التنظيمات وطنيةً لضرب الوطن والشعب، وعَلمانيةً لتبعد عن نفسها صفة الإرهاب الديني، وقوميةً لتبرر تطرفها باسم الأمة، على نحوِ مشابهٍ لما اعتمده حزب البعث من تلك المسميات للغايات نفسها.
وكما أن التكفير الديني في الأديان يعود في أصوله إلى تكفير سياسي، فإن التكفير اللاديني أيضاً يعود في أصوله إلى تكفير سياسي يتوارى وراء الثالوث المذكور.

حيث إن التكفير اللاديني، مَثَله كمثَل التكفير الديني، انطلق من الفتنة لوأد التوجهات السليمة والموضوعية لحركة التطور الاجتماعي والسياسي والفكري، وفي ذلك من الخطورة ما يتعذّر كَـبْحُه عند استفحاله، لأن هذا الضرب من التكفير وُجدَ لتبرير اعتداء جهةٍ على غيرها لمجرد الاختلاف معها، حيث تصاغ اجتهادات من قبيل الكفر بالزعيم، أو الكفر بالوطن والقضية أو الكفر بقوى الأمر الواقع التي يُعدّ رفضها أو عدم قَبولها أو ردّ قراراتها ضروباً من الكفر الذي يحاسَب صاحبه عليه، فضلاً عن تخوينه والتشهير به وتأليب الغوغاء عليه لتأديبه وتأديب غيره به.


تعتمد عقلية التكفير هذه آليات الإقناع القَسْريِّ، حتى إذا كان بلغ الأمر حدود الدم أو الاعتداء بأي شكل من الأشكال على مَن تمّ تكفيره.

ومن الطبيعي أن الجهة التي لا تملك وسيلة إقناع سوى العنف بمختلف تصنيفاته لا أمل فيها لأن تكون على استعداد للتخلي عن فطرتها التكفيرية التي قد تهدأ سَورتها (بالسِّين المفتوحة) مؤقتاً لغاياتِ الديمومة والاستمرار والانتشار والتبشير، إلا أن (الطبيعة تغلب التطبع) وتعود تلك الجهة إلى ما كانت عليه، من مبدأ أن المجتمع لا يمكن أن يخلو من أشخاص أو فئات تعيش على التطرف وانتهاكات حقوق الآخرين.

ولعلّ عبارةَ أن “فئة عاقلة تؤمن بأن التكفير مقبرة الأوطان” هي مقولةٌ تختصر دلالاتٍ واسعة في عبارة واحدة جامعةٍ تنطبق على واقع الكرد السوريين وهم يواجهون تكفيراً يَتَسمّى بذلك الثالوث لكنه لا يختلف في طبيعته وممارساته عن التكفير الديني الذي يُخْرج الأفراد والجماعات المختلفة عنه من إطار الانتماء إلى الوطنية أو القومية وفق معايير عقلية ذلك التكفير الاستبدادي الشمولي الصلب الذي يرفض كلّ ما سِواه تأكيداً على انتهاجه طريقة كبح الفكر والنقد للإبقاء على زعم أن الحقيقة المطلقة مكتنزة في كنف الجهة المتسلّطة فحسبُ.


إن التعصبَ، الانغلاقَ، الإرهابَ، التطرّفَ، التحجرَ، الانتقامَ من الآخَر وعدمَ قَبوله، ترويجَ الأضاليلِ والتُّرَّهاتِ، إضافة إلى المتاجرةِ بالقضايا الوطنية والقومية وتضحيات الجماهير الوفية اتُّخِذَتْ دروعاً لحماية الفساد الذي تكتنزه الجهات التي تحمل عقلية التكفير السياسي كردياً.

وإن واقعاً يعاني هيمنةَ عقلية التكفير السياسي اللاديني يوجب على المجتمع أن يضع نصب عينيه أن مصيره لن يكون أفضل من مصير ضحايا المجتمعات التي تعاني هيمنة عقلية التكفير السياسي الديني.

وهذا يفرض على المعنيين بحاضر هذا المجتمع ومستقبله أن يقفوا في مواجهة هذه العقلية التي أخذت تبدّد آمال الطامحين إلى الخلاص من كلّ أنواع الاستبداد والقهر والعنف، وعانت ما عانت على أيدي أنظمة البطش والقهر، وهي في توجّهها نحو حياةٍ تنتفي فيها عقلية التكفير بمختلف أنواعها.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي في السنوات الأخيرة، بات من الصعب تجاهل التحوّل المتسارع في نبرة الخطاب العام حول العالم . فالعنصرية والكراهية والتحريض عليهما لم تعودا مجرّد ظواهر هامشية تتسلل من أطراف المجتمع، بل بدأت تتحول، في أكثر الدول ديمقراطية ولم يعد ينحصر في دول الشرق الأوسط ( سوريا . لبنان – العراق – تركيا – ايران وو .. نموذجاً ) وحدها…

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…