ثم أنه لايمكن إضفاء صفة الدبلوماسية على الوفد لأن أعضائه لايحملون هذه الصفة حسب المعايير الدولية، فهو إذن وفد سياسي يمثل جهة بعينه لاأكثر.
الروس ليسوا جدد في المسألة الكردية، بل لهم باع طويل في هذا المضمار، إذ أن العلاقات الروسية – الكردية تعود إلى أوائل القرن التاسع عشر، خلال فترة إنضمام ماوراء القوقاز (جورجيا وشمال أذربيجان وشرق أرمنيا) إلى روسيا.
إتسمت تلك العلاقات بطابع العمل المشترك ضد الإمبراطوريتين الفارسية والعثمانية المعاديتين لروسيا والمحتلتين لكردستان.
وقد شارك الكرد إلى جانب الجيش الروسي في فترة الحروب الروسية – الفارسية 1804-1813 و1826 -1828 والحرب الروسية – العثمانية 1828 -1829 وغيرها من الأحداث الصراعية الساخنة في المنطقة.
ناهيك عن الدور الكبير للإستشراق الروسي – السوفياتي في مجال الكردولوجيا، فقد برز اسماء لامعة خدمت القضية الكردية من خلال دراساتهم الأكاديمية المتعددة الأوجه.
ويكفي أن نذكر في هذا المجال كل من ديتل وبرزين ولرخ وجابا ويوستي وإيكيازاروف وبنزنكر وكارتسف وكوليوباكين وليخوتين ومورافييف وأوربيللي وفيلجيفسكي ونيكيتين وخالفين ولازاريف وحسرتيان …إلخ.
كان الشعب الكردي طوال تاريخه الطويل ومن خلال ثوراته وإنتفاضاته التحررية يتصلون بالجارة الشمالية (روسيا)، لنيل دعمهم في النضال ضد محتليه، في حين نظرالروس دوما إلى الكرد كورقة سياسية ضاغطة ضدعدوتيه كل من إيران وتركيا المحتلتين لكردستان في عملية حماية مصالحها في غرب آسيا والشرق الأوسط.
جاء الإهتمام المتبادل بين الشعبين الكردي والروسي بحكم الجغرافيا كشعبين جارين، ناهيك عن المصالح المتبادلة في مواجهة العدو المشترك.
ففي الوقت الذي إتسمت تلك العلاقات من الجانب الكردي بالمصداقية وبطابع إستراتيجي، لم يكن لدى الروس أبدا خطة أو مشروع بصدد تبني القضية الكردية.
السياسة الروسية تجاه الكرد لم تتغير بل حافظت على سماتها العامة في عهدي القيصرية والسوفياتية، سياسة الإستقواء بالكرد في عملية التوازن وتركهم بين أنياب الوحوش في اللحظات الحاسمة.
ويمكننا إعطاء عدة أمثلة على ذلك:
1- كانت العلاقات الكردية – الروسية وطيدة خلال سنوات الحرب العالمية الأولى، ففي عام 1911 سيطرت القوات الروسية على اكثر المناطق الكردية لاسيما في شرق كردستان، وساهم الروس في فتح مدرسة كردية في مدينة خوي الواقعة تحت نفوذ الزعيم الكردي سمكو، وكان يفترض أن تقوم روسيا بإنشاء دولة كردية وضمها إلى حدود القيصرية بمجرد سقوط الإمبراطورية العثمانية ، إلا أن قيام ثورة أكتوبر الإشتراكية عام 1917 في روسيا غيرت موازين القوى، حيث إنتقلت روسيا الجديدة (بحكم أوضاعها الداخلية الصعبة والضغوطات الخارجية عليها) وحماية لمصالحها القومية العليا، من عدوة لدودة للدولة العثمانية إلى صديقة حميمة لتركيا الكمالية ووقعت معها جملة من المعاهدات، ضحت بالقضية الكردية.
2- إستقوت روسيا في عامي 1907 و1941 بالشعب الكردي في شرق كردستان، حيث في الحالتين وضعت روسيا شمال إيران تحت نفوذها، في عمليتي التوازن الروسي – البريطاني، ومع بداية الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن في إطار المرحلة الأولى من تلك الحرب، تراجعت القيادة الستالينية عن موقفها الداعم لجمهوريتي كردستان وأذربيجان الديمقراطيتين، وخضعت للضغوطات الغربية لإنسحاب قواتها من المنطقة، لكن ذلك لم يكن مجانا بل بعد أن نجحت الدبلوماسية السوفياتية مع حكومة طهران للحصول على إمتيازات نفطية، وعقد معاهدة مع حكومة قوام السلطنة بتاريخ 4 نيسان 1946 نصت على إنسحاب الجيش الأحمر خلال ستة أشهر.
ومرة اخرى فضلت القيادة الروسية مصالحها القومية على المبادئ والأخلاق والإنسانية.
3- أثناء قيام دول السنتو(تركيا وإيران) وبالتنسيق مع نظام بغداد بعملية ” النمر” عام 1963 ضد ثورة أيلول التحررية بهدف تصفيتها وبمساعدة من القوات السورية بقيادة العقيد فهد الشاعر، أرسل وزير خارجية الإتحاد السوفياتي أندريه أندريه غروميكو مذكرة إحتجاج إلى الحكومات الأربعة طالب فيها بالإنسحاب الفوري لتلك القوات وتم رفع القضية الكردية إلى مجلس الأمن الدولي عن طريق منغوليا الشعبية، كان ذلك في المرحلة الثالثة من الحرب الباردة (1949-1972)، ولكن في المرحلة الرابعة منها (1972- 1979 )– مرحلة الإنفتاح بين المعسكرين والوفاق الدولي التي بدأت مع قمة نيكسون – بريجنيف في موسكو 1972 والتوقيع على معاهدة الحد من الأسلحة الإستراتيجية المعروفة بسالت (1)ثم قمة كارتر – بريجنيف في فيينا عام 1979 والتي أسفرت نتائجها على التوقيع على إتفاقية سالت (2)، وفي خضم ذلك وعندما نسجت خيوط إتفاقية 6 آذار 1975 التي كان عرابها وزير خارجية أمريكا هنري كيسنجر، لم يحرك الجانب السوفياتي ساكنا، التي على أساسها قوضت واحدة من أهم ثورات حركات التحرر في العالم.
لكن من الخطأ النظر إلى النصف الفارغ من الكوب وإعطاء لوحة سوداء عن الموقف الروسي من الشعب الكردي وحركته التحررية، روسيا كانت دولة عظمى ومهمة وستبقى، وبالحقيقة كان للروس دور ومواقف إيجابية في مراحل تاريخية، إضافة إلى فتح مراكز الدراسات الكردية في موسكو ولينينغراد ويريفان وباكو، ولابد من الإشارة إلى أنه في سنوات العجاف الكردية، عندما أصبحت إسم كردستان من الممنوعات، كان الإتحاد السوفياتي يحتضن العشرات من الباحثين والطلبة والمقهورين الكرد وتهيئهم للمستقبل، وهناك المئات من الشخصيات ( الجنود المجهولون) الذين كانوا يتعاطفون مع ابناء الكرد في تلك السنوات المرة، وبرز هؤلاء في مجالات مختلفة، كان هناك لازاريف وحسرتيان على الصعيد الأكاديمي، وبوفين الإعلامي الشهير وميرونوف وإيكاريف وسميرنوف في وزارات التعليم والتضامن، زائدا الإصدارات الأكاديمية المستمرة.
وإذا حاولنا تقييم السياسة الروسية من القضية الكردية من الضروري الإشارة وبإختصارإلى عدد من المعطيات، الجيوبوليتيكية والإستراتيجية والأمنية وتشابك المصالح التي تساهم في تداخلوتشابك مجموعة قضايا مختلفة الجذور ومتناقضة المصالح ، فالخبراء الإستراتيجيون الروس ينظرون إلى المسألة الكردية وكردستان في الشرقين الأوسط والأدنى في المنظور العام، كجزء من الكل أو بمعنى آخر كجزيرة صغيرة في محيط ، وهذا بالذات يمنع تبلور موقف روسي مؤيد من القضية الكردية.
وإذا أعتبرنا الزيارة خطوة سياسية، فبأي إتجاه ذهبت وماهي النتائج وماتأثيراتها ولماذا جاءت في هذه المرحلة بالذات .
وأخيرا، أقول أن “المصالح هي فقط التي تتحكم بالمواقف السياسية وإليها تخضع الأخلاق والمبادئ السامية”.
في عام 1983 طلب مني الشهيد سامي عبدالرحمن نقل رسالة شفهية إلى الأكاديمي والسياسي والإعلامي البارز يفغيني مكسيموفيج بريماكوف الذي كان يرأس آنذاك معهد الإستشراق الذي كنت باحثا فيه ومغزاه ” لقد كنتم (أي الروس) معانا في أيام قوتنا، وتركتمونا اليوم في ضعفنا، مالسبب؟، فأطلق الرجل إبتسامة دبلوماسية هادئة، لأنه لم يكن يملك جوابا لسؤالي المحير.
الشعب الكردي إنتصر عسكريا ، لكنه فقد كل شئ على طاولة المفاوضات؟!!.
—————————————————-