كُنتُ سأغار من إبراهيم اليوسف..

حسين جلبي

قام إبراهيم اليوسف أمس بزيارة إلى القامشلي، مارس خلالها طقوس المشتاق في الشوارع و على البيبان و الحيطان و شبع من وجوه الناس قبل أن يُعيده جرس الهاتف الصباحي عطشاناً مرةً أُخرى..

منذُ خمسةَ عشرَ عاماً أُمارس الأحلام ذاتها، قبل مدة كُنت أسير على شارع الكورنيش و كان الظلام دامساً و المكان مُقفراً، على طرفي الشارع كانت البيوت تبدو كما تركتها قبل النهضة العمرانية الأخيرة التي لم أشهدها و قد تدلت على حيطانها، بوساطة حبال، براميل تبدو فارغة، لأن الرياح كانت تتلاعب بها،
 إقتربت من بيت صديق كنت أشعر بأن به بعض الحركة، و لكن لم يكن هناك أحد، إلا أنني سمعتُ فتاة تستنجد و تطلب العلاج، تابعت السير وسط الظلام حتى وصلت إلى شارعنا و صحت بأسماء جيراننا أنني قد وصلت و لكن لم يظهر أحد، دفعت باب بيتنا و إذا بضياءٍ عظيم، إستدارت أُمي فملئ نور وجهها المكان قبل أن تظهر عليها علائم الخوف و تتساءل عن سبب قدومي وسط كل هذه المخاطر… إنتهى الحلم.
منذُ ستة أسابيع و أنا أحاول عبثاً الإتصال مع والديَّ، ثمة صعوبة في الإتصال مع الرقم التركي إذا كان المرء مُقيماً في الكورنيش و لم يكن ساكناً في الطوابق العليا، طلبت من زوجة أخي يوماً أن تطلب من والدتي الحضور في الغد لعندهم لإكلمها فأخبرتني في اليوم التالي أنها عاجزة عن صعود الأدراج، و الدتي مُصابة منذُ مدة بشلل نصفي و أمراض أُخرى، تحسنت قليلاً لكن ليس بدرجة تمكنها من قطع مسافاتٍ طويلة، قبل يومين جربت الرقم الأرضي فجائني صوتها، كان ألذ من الأحلام، أطمئنت علي بدايةً ثم حدثتني عن آلامها و أمراضها و عن أدويتها المفقودة من الصيدليات و مشاكل الخبز… طلبت منها أن أسمع صوت أبي و لكنها إدعت بأنهُ في قيلولة، هذا ما يدعيه الجميع خلال مُكالماتي الأخيرة معهم، أو أنهم يروون لي أنهُ يتبادل أطراف الحديث مع أحد الأصحاب القليلين المُتبقين لهُ على قيد الحياة، و يضيفون إلى ما سبق قولهم أنها أمراض الشيخوخة و يجب علي أن أتفهم الأمر، ختمت والدتي حديثها أن والدي تعب مؤخراً نتيجة خروج بعض أبنائه إلى خارج البلاد بعد أن صمدوا طويلاً، أخي الأصغر الطالب في السنة الأخيرة أدب عربي و الذي كان يعتمد عليه أصبح في كُردستان، إحتفظ أخي ذاك دائماً بعدة مواد ليحصل على التأجيل الدراسي و لا يلتحق بجيش النظام، لم يعد ذلك ممكناً أخيراً بعد أن قدم آخر مادتين لهُ، والدي بدوره لم يعد يرسله في مهمات خارجية لشراء الخبز أو غيره خوفاً عليه، لذلك فضل إرسالهُ أخيراً إلى خارج البلاد.
زار أهاليهم في المنطقة الكُردية بعد بدء الثورة السورية الكثير من الناس، منهم شُرفاءٌ و منهم لصوصٌ و عملاء أيضاً، بعضهم قابل أقاربه في الدول المجاورة خوفاً من النظام و شبيحته، كان رأيي أنني لن أرتوي إلا إذا إلتقيت الجميع في القامشلي، و سرت مثل إبراهيم اليوسف في الحلم، في الشوارع و قبلت عيوني كل شئ و ملأت رئتي من هوائها، لكن أبي كان قد طلب مني الإمتناع عن زيارة الأهل خاصةً بعد التحقيقات التي تعرضت لها زوجتي في أحد فروع المخابرات قبل عدة سنوات، بعد بدء الثورة طلب مني الإثنين معاً، والدي و والدتي، البقاء بعيداً، إخترت الإلتزام برغبتهما حتى لا يتأذيا إذا أصابني مكروه، لقد أصبح رأسي مطلوباً من أكثر من جهة، فقبل أيام أرسل لي شخص وقع أسمهُ بالقاضي أ.

د.

شتائم و تهديدات فيما إذا قُدر لي أن أكون ضيفاً على محكمته، ذكرني ما أرسلهُ ذلك الدعي المريض نفسياً بما يقوم به شبيحة النظام من قتل و تشويه و إفتراس و حرق و أشياء كنا لا نتصور وجود بشر بيننا يمكن أن يقترفوا مثله.
نحنُ ندفع ثمن مواقفنا، نعم ندفع ثمن قول الحقيقة، هل أخطأنا بعدم صمتنا؟ ألم تكن حياتنا لتكون أسهل فيما لو إخترنا السكوت؟ ألم يكن من السهل علينا أن نخفض رؤوسنا مثل بعضهم للعاصفة؟ ألم يكن إيذاء النظام الشخصي لنا من الدرجة التي يمكننا معهُ التعايش معهُ، و إعتبارهُ و كأنهُ لم يكُن، و الكلام يخص فترة ما قبل الثورة؟ و عندما قامت الثورة، ألم يكن من السهل علينا إختيار الصمت أو على الأقل المساحة الرمادية التي إختارها الكثيرون؟ ألم يكن ممكناً أن نفعّل قرون الإستشعار، مثل البعض، فنكون في أعلى المراتب؟ لكن ماذا عن الضمير و الشرف و التاريخ؟ ماذا عن الإنتصار لهؤلاء الأبطال الشرفاء الذين خرجوا بصدورهم العارية لمواجهة النظام و شبيحته؟ ألم يكن بأمكانهم أيضاً السكوت؟
خلاصة القول: أستودع الله والديّ الحبيبين، أبي و أمي الذين لم أرهم منذُ خمسة عشرة عاماً، و أطلب منهم الغفران، و في حال أصابهما أي مكروه و أنا بعيدٌ عنهما، فلن أُسامح، ليكن ذلك في علم الجميع.
لكن لا تراجع عن السير في درب الحق الذي علماني السير عليه.
حسين جلبي
فيسبوك

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

د. محمود عباس   يعوّل الشعب الكوردي على المؤتمر الوطني الكوردي في غربي كوردستان بوصفه لحظة مفصلية، لا لمجرد جمع الفاعلين الكورد في قاعة واحدة، بل لتأسيس إرادة سياسية حقيقية تمثّل صوت الأمة الكوردية وتعبّر عن تطلعاتها، لا كفصيل بين فصائل، بل كشعبٍ أصيلٍ في جغرافيا ما تزال حتى اللحظة تُدار من فوق، وتُختزل في الولاءات لا في الحقوق. إننا…

ماهين شيخاني في عالم تُرسم فيه الخرائط بدم الشعوب، لا تأتي التحوّلات العسكرية منفصلة عن الثمن الإنساني والسياسي. انسحاب نصف القوات الأمريكية من شرق الفرات ليس مجرد خطوة تكتيكية ضمن سياسة إعادة التموضع، بل مؤشر على مرحلة غامضة، قد تكون أكثر خطراً مما تبدو عليه. القرار الأميركي، الذي لم يُعلن بوضوح بل تسرب بهدوء كأنّه أمر واقع، يفتح الباب أمام…

لم يعد الثاني والعشرون من نيسان مجرّد يومٍ اعتيادي في الروزنامة الكوردستانية، بل غدا محطةً مفصلية في الذاكرة الجماعية لشعبنا الكردي، حيث يستحضر في هذا اليوم ميلاد أول صحيفة كردية، صحيفة «كردستان»، التي أبصرت النور في مثل هذا اليوم من عام 1898 في المنفى، على يد الرائد المقدام مقداد مدحت بدرخان باشا. تمرّ اليوم الذكرى السابعة والعشرون بعد المئة…

د. محمود عباس قُتل محمد سعيد رمضان البوطي لأنه لم ينتمِ إلى أحد، ولأن عقله كان عصيًا على الاصطفاف، ولأن كلمته كانت أعمق من أن تُحتمل. ولذلك، فإنني لا أستعيد البوطي اليوم بوصفه شيخًا أو عالمًا فقط، بل شاهدًا شهيدًا، ضميرًا نادرًا قُطع صوته في لحظة كانت البلاد أحوج ما تكون إلى صوت عقلٍ يعلو فوق الضجيج، مع…