السياسة بين النظرية والتطبيق

عبد الحكيم أحمد محمد

قرأت ذات يوم, واحدة من النوادر الطريفة والمعبرة وأود أن أذكر تلك النادرة باختصار قبل الغوص في متاهات السياسة ” كان هناك شيخ قدير يقوم بتدريب الطلبة على الدعوة لمدة ستة أشهر في المجال النظري وثلاثة أشهر في المجال التطبيقي.

وكان هناك طالبٌ شديد الثقة  بنفسه تخرج من الجزء النظري لبرنامج التدريب بتفوق وظنّ أن بوسعه إنجاز التطبيقي اعتمادا على قدراته الذاتية, فاتجه إلى قرية بعيدة لممارسة الدعوة وفي أول جمعة قام إمامٌ مفوّه بإلقاء خطبةٍ مليئة بالأكاذيب على الله سبحانه وتعالى والنبيّ عليه السلام, فوقف الطالب وصاح ” إنّ الإمام كاذب…” فردّ الإمام ” هذا الشاب كافر ويستحق العقاب” فقام جمهور المصلين بضربه ضرباً مبرحاً.
 وعاد الطالب إلى شيخه بضمادات وعظام محطمة, فقال له الشيخ دعني أريك مثالاً جيداً للدعوة العملية.

وفي يوم الجمعة الثاني ذهبا معاً إلى المسجد نفسه حيث ألقى الإمام ذاته خطبة مماثلة, وبعد أن استمع الشيخ إلى الخطبة نهض منادياً ” إنّ إمامكم من أهل الجنة وكلّ من يأخذ شعرة واحدة من لحيته سينال الجنة ” وعلى الفور هجم الناس على الإمام ينزعون شعره بقوة حتى تركوه مدمي الوجه منتوف اللحية “.

لقد أردت أن أسرد هذه القصة لأنّها مؤثرة جداً وتتفق مع واقعنا السياسي ولعلّنا نعتبر منها, حيث أننا أصبحنا مغرورين مثل ذلك الطالب ولكن الفرق بيننا وبينه أنّه كان متفوقاً في المجال النظري أمّا نحن فلسنا متفوقين في النظري ولم نمارسه في الفترة التدريبية الحقيقية, إلّا أنّنا اكتسبنا السياسة من واقعنا الاجتماعي-الوراثي وتجربتنا البسيطة في الحياة, فقد أصبحنا جميعاً سياسيين بالفطرة ومع الأسف لم ندرك السياسة بعد, صحيحٌ أنّ السياسة هي فن الممكنات ولكننا فهمنا هذه الممكنات بأسوأ الطرق ومارسناها بأساليب خاطئة, رغم ذلك لا يكمن السبب فينا كشعب وإنّما السبب الأساسي هم من يعتبرون أنفسهم الآن وسابقاً سياسيين أو بمعنى آخر قادة سياسيين, الذين يقودون التنظيمات مدى الحياة حيث أصبحنا نرتبط بهؤلاء القادة المستديمين الذين لا يمكن تنحيتهم عن كرسي القيادة إرتباطاً مصيرياً بكل أعمالهم وتصرفاتهم مهما كانت, وإذا غابوا عن بلدهم استمروا في الإشراف على التنظيمات وتسييرها بطريقة ” التحكم عن بعد “, وتظل المعضلة الرئيسية فينا هي من يستطيع أن يخلف القائد.
فلم يتدرب معظمنا على حرية الرأي والقيادة ولم يقم أيّ من هؤلاء القادة بالقيام بتقديم العون لنا, كفتح دورات تدريبية للكادر السياسي حسب الأسس والمنطلقات التي تعتمد عليها العلوم السياسية بشقيها النظري والتطبيقي فقد فشلنا في إنجاح العمل الجماعي بسبب جهلنا بالسياسة وقد أصبحنا نفتقر إلى الفكر المؤسساتي, نحن نظرياً مقتنعين بالكردايتي ولكننا عملياً نعكس في سلوكنا توجهات وطبائع قبلية وإقليمية واضحة.

فقد أصبحنا جميعاً حزباً مقدساً لذاتنا, كما لو كان الحزب قد تأسس من أجل أنفسنا, الأمر الذي جعله لا يختلف أساساً عن أيّ نادٍ رياضي أو أيّ جمعية تعاونية تقتصر خدماتها على أعضائها فحسب, وكأنّ هذا الحزب مجموعة من الأعضاء يهتمون بمصالحهم فقط دون الإطلاع بدور حقيقي لها في المجتمع ككل.


كلّ هذا لأننا تدربنا على السياسة في المجال النظري فقط ودخلنا عالم السياسة في المجال التطبيقي فوراً دون تدريب, ولهذا أصبح أعداؤنا ينهالون علينا بالضرب من كافة الاتجاهات عوضاً على أن نقوم نحن بتنتيف لحاهم شعرةً شعرة.
مع ذلك أتوجه بكل احترام إلى قادتنا السياسيين متمنياً منهم أن يكونوا مخلصين لقضيتهم بعيدين عن كلّ ما سواه من مصالح أو خلافات شخصية والابتعاد عن سياسة الإقصاء والتهميش أو محاولة القضاء على الخصوم من الأحزاب الشقيقة في الحركة الكوردية بطرق تتنافى مع المبادئ الحزبية وحتى القومية, كما أتوجه بهذه الأمنية إلى نفسي أولاً إلى شعبي ثانياً.
النصر لقضية شعبنا والنجاح لحركتنا السياسية رغم كلّ شيء ..


Bêwar Girpirî
 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

بوتان زيباري   في دهاليز السلطة، حيث تتهامس الأقدار وتتصارع الإرادات، تُحاك خيوط اللعبة السياسية ببراعة الحكّاء الذي يعيد سرد المأساة ذاتها بلغة جديدة. تُشبه تركيا اليوم مسرحًا تراجيديًا تُعاد كتابة فصوله بأقلام القوة الغاشمة، حيث تُختزل الديمقراطية إلى مجرد ظلٍّ يلوح في خطابٍ مُزيّف، بينما تُحضَر في الخفاء عُدّة القمع بأدواتٍ قانونيةٍ مُتقَنة. إنها سردية قديمة جديدة، تتناسخ…

خالد بهلوي بعد ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى وإرساء أسس بناء الاشتراكية وظهور المعسكر الاشتراكي كقوة اقتصادية وعسكرية تنافس الدول الرأسمالية ومعسكر الحلف الأطلسي، انعكس هذا التوازن على العديد من الدول، فحصلت على استقلالها، ومن بينها الدول العربية. كما خلقت هذه التحولات قاعدة جماهيرية تنادي بضرورة الاشتراكية، وأصبحت بعض هذه الدول، وحتى الأحزاب القومية التي تشكلت فيها، تدّعي…

شكري بكر لا يزال موقف حزب العمال الكوردستاني غير واضح تماما من فحوى نداء أوجلان في تسليم السلاح وحل نفسه. هنا سؤال يطرح نفسه: هل رسالة أوجلان وجهها لحزب الاتحاد الديمقراطي في تسليم السلاح وحل نفسه؟الصفقات التي يقوم بها الـ PYD مع الشرع هنا وهناك دلالة للسير بهذا الاتجاه.أعتقد أن الـ PYD سيسلم سلاحه وحل نفسه عبر الإقدام على عقد…

صلاح بدرالدين   زكي الارسوزي من مواليد – اللاذقية – انتقل الى الاسكندرون لفترة طويلة ، ثم عاد يمتهن التدريس في دير الزور وحلب وغيرهما ، وله الدور الأبرز في انبثاق حزب البعث ، ومعلم الرواد الأوائل في هذا الحزب ، وقد طبع كتابه الموسوم ( الجمهورية المثلى ) في دار اليقظة العربية عام ١٩٦٥ ، وتضمن آراء ، وأفكار…