ظهور السلطة العسكرية – السياسية الكردية

د.

محمود عباس

 سيطرة السلطة الشمولية الأسدية لا تزال بانية في كل زوايا المنطقة الكردية مثلها مثل أغلب محافظات الوطن، رغم انحسارها في العديد من المناطق الريفية، وبعض أطراف المدن، علماً إنها سلطة شبيهة بالإستعمار العسكري، مع بقايا السيطرة الأمنية – العلوية المرافقة لها، والمؤسسات لا يزج في خضم هذه السيطرة، فهي تابعة لهيكل الدولة التي ستكون موجودة إن كان في حكم الإستعمار أو إستبداد الأسد أو في الواقع الديمقراطي، إنها مؤسسات بنية الدولة، رغم إنها كانت مسخرة لرغبات الشريحة الطاغية في السلطة.
  تنحسر هذه السيطرة أو يفرض عليها الإنحسار، في بعض المناطق، حسب متطلبات ورغبة السلطة، فتح المجال لقوى محلية بتسيير أمورها، والغاية منها خلق الصراع في هذه المناطق بين التيارات الدينية الراديكالية والعنصرية المتسلقة على الثورة أو المسخرة من قبل السلطة ذاتها من جهة والحركة الكردية والطوائف أو الأقليات من جهة أخرى، وبها تقلص السلطة مناطق صراعها مع القوى الثورية الحقيقية.

المنطقة الكردية كانت أكثرها إنحساراً للسلطة شكلياً، علماً انها  بقيت المسيطرة في الواقع الفعلي، وحرية البعض من الأحزاب الكردية السياسية، الذين يريدون إدارة مناطقهم بذاتهم، كانت على خلفية أستراتيجية تتجاوز الحدود الجغرافية السورية، علماً ان النزعة القومية – الوطنية الكردية ليست وليدة المرحلة، مثلما الصراع من أجل الحقوق القومية  أي كانت السويات ليست مبنية على تبادل الآدوار الآنية هذه، بل تعود إلى عهود وربما قرون، وخلال الثورة أرتفعت سقف المطالب القومية للأحزاب الكردية، والتي كانت قد تبنتها إحدى الحركات الكردية في الخارج منذ عام 2006  مقتنعة بأنها الملائمة لسوريا القادمة والمتجهة إلى بناء نظام لامركزي، أي النظام الفيدرالي، في المنطقة و سوريا بشكل عام بعد زوال السلطة الحالية.

 كانت الحركة السياسية الكردية في بداية الثورة تائهة في ضبابية الرؤية، وفي أوقاتها الأولى، وقفت إلى الجانب الخطأ من الثورة الشبابية، و قامت بفعاليات إنتهازية، اضرت الثورة الشبابية والمنطقة بشكل عام، وهم الآن يدفعون ثمن الرؤية المهزوزة تلك، علماً بأنهم لم يتحدوا يوماً في تاريخهم النضالي مثلما اتحدوا أثنائها، وكان التجمع بين إثنا عشر حزباً ولمدة نصف ساعة رضوخاً لإملاءات من أجل تشتيت الحراك الثوري الشبابي، وبعدما بلغوا مراحل من النجاح في المهمة الموكلة إليهم، عاد التشتت والصراعات الحزبية إلى سابق عهدها.
   ذلك الحراك الجماعي للأحزاب خلقت نتائج مأساوية، وستتفاقم، تم تشتيت الحراك الشبابي، وخلقوا الصراعات بينهم، وجذبوا البعض منهم لجهات حزبية، فكانت تلك بداية الأزمة التي خلقوها على الساحة القومية، والتي عليها يقف مستقبل المنطقة، أجبروا الكثيرين  منهم على الهجرة الخارجية، تحت الظروف التي صنعتها الأحزاب السياسية، حتى ولو كانت الأسباب الظاهرية متنوعة، انتشرت بعدهم نزعة الهجرة العامة، وتفاقم الخوف من الإغتيالات، والخطف، الذي طال جيل الشباب الثائر أكثر من أي شريحة أخرى.

والبعض من الأحزاب الكردية، المقتدرة منها، تتحمل نتائج هذه الهجرة الجماعية للشعب الكردي فيما بعد, كما وأدت إلى تفاقم الهوة بين الكتل السياسية، وظهور قوى منفردة تصارع بعضها.
 نزعة السيطرة الحزبية ظهرت بسرعة، بدت كصراعات سياسية في البداية، وكانت تتجلى بقوة في المظاهرات الأولية، خلقوها في البدايات بين القوى الشبابية، وتفاقمت مع الزمن، والصراع أثنائها، كانت تقف ورائها السلطة نفسها، والتي أدت إلى التسارع في ظهور القوة العسكرية والذي كان يخطط لها منذ بداية تغيير مسار الثورة السورية السلمية، فبها حسم المنطق السياسي في الخلافات الكردية، والسيطرة العسكرية توسعت بعد الإنتهاء من السيطرة على الشباب في  الشارع الكردي بشكل فعلي، ودمج البعض منهم مع تلك القوة.
   كما وحسم الأمر في الشارع عسكرياً بين الأحزاب الكرديةً وليست بين الكرد والقوى الأخرى، في الوقت الذي لا تزال فيه السلطة العلوية مسيطرة بشكل غير مباشر، وب ي د لم ترى ولا ترى قوة في الشارع الكردي غير ذاتها، أخطأت وتخطأ عندما رفضت وترفض الإشتراك الفعلي والعملي وليس النظري مع الآخر الكردي (ننأى بعرض السؤال التالي،  لماذا قوي حزب وضعفت أحزاب وقوى سياسية أخرى؟ ليس هذا مجال البحث الآن) ولم تسخر كل القوى الكردية الحزبية والشبابية لهذه الغاية، علماً أن الأغلبية السياسية والثقافية رفضت التعامل معها بسبب المنهجية التي تبنتها، لإنجرافها إلى أجندات خارجية، حصلت من ورائها على نتائج آنية، ولا شك إن بعضها ثمينة جداً، كالحفاظ على المنطقة من دمار السلطة، لكنها بالمقابل خلقت هجرة مكثفة تكاد أن تؤدي إلى إفراغ ديموغرافي للمنطقة من الكرد، خلفت أزمة لا تزال مستمرة حتى اللحظة في الواقع الكردي، ستكلفها ومعها أغلبية الأحزاب السياسية الأخرى الكثير في القادم، وادخلت المجتمع الكردي والمنطقة في قضايا ديمغرافية تكاد تكون عصية عن الحل.

فقد أضطرت، بسبب النهج التكتيكي في واقع الثورة وانحيازها الإستراتيجي الواضح، إلى جلب التهم العديدة والمباشرة على ذاتها حول الإغتيالات والإختطافات السياسية، والعسكرية، من داخل الحركة الكردية ومن الشباب الثوري، كما قامت هي بذاتها بالتماطل فيها وبإختطافات وإهانات للمثقفين و بعض قادة القوى العسكرية الصغيرة التابعة لبعض الأحزاب الأخرى، ولاتزال الإعتقالات مستمرة، والبعض قابعين في سجون الآسايش منذ فترة طويلة بدون محاكم، إن كانت هناك أصلاً محاكم وقوانين للحكم على أساسها، وهو منطق القوة العسكرية الإنفرادية التي لا رادع سياسي لها، وتحت حجج متنوعة، والتي أدت إلى ظهور بدايات صراع كردي – كردي مسلح، و ب ي د وحدها القوة الظاهرة الملامة في هذا، علماً أنه هناك أحزاب أخرى مدانة لكنها من المنطق السياسي وليس العسكري.
  تسيطر اليوم القوة العسكرية التابعة ل ب ي د على المنطقة وبحرية عندما تحتاج، وبقيود سياسية عند اللزوم، فمن المنطق القومي الكردستاني والحاضر الثوري السوري لا بد من وجود هذه القوة، لكن ليس بهذه الإنفرادية، ولا بد من دعمها، لكن  ليس على النهج الذي تتبناه، ولابد من تكثيفها وتقويتها والتضحية  من أجل تثبيتها، لكن ليس من جهة سياسية معينة، أو من منطق التحزب الفكري الأوحد، بل يجب أن تمثل الشعب الكردي بكل أطرافها السياسية والثورية.

وللإسف لإنفراديتها خرجت في بعضه من منطق الدفاع عن المنطقة والشعب إلى ترهيب المجتمع، فالإختطافات السياسية وعلى مبدأ المعارض فكريا أو منهجياً يعتقل الشباب والسياسيين والمثقفين حتى المستقلين منهم، يعيد منطق السلطة الشمولية ذات الفكر الإستبدادي.

لا فرق عند الشعب، الإستبداد إن كان كردياً أو أجنبياً، الآذية هي نفسها للمختطف، نفسياً أو جسدياً، والموجود في أقبية  الجيش أو الأمن، لا يهمه إن كان يسمى بالأسايش أو الأمن العسكري، ولا يختلف في الواقع النفسي ذاك الإنسان الذي يعيش في رهبة الإغتيال، جراء فكره أو نشاطه السياسي.


 الظروف والعلاقات والتغيرات السياسية في المنطقة تفرض ذاتها على الحركة السياسية الكردية من إعادة دراسة منهجية جذرية لذاتها.

وبشكل خاص على ب ي د أن تعيد النظر في تكتيكها المرحلي ضمن الثورة السورية والمنطقة الكردية بشكل خاص وإعادة دراسة نوعية لإستراتيجيتها، وعلى الجميع أن يضعوا الغاية الوطنية وليست الحزبية أمام ذاتهم عند إعادة النظر ودراسة حاضرهم والتمعن في مستقبل المنطقة.


د.

محمود عباس
الولايات المتحدة الأميريكية

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

خالد بهلوي تحت شعار “وقف العنف والتهجير – العيش المشترك بسلام”، وبمبادرة من مجموعة نشطاء من الشابات والشباب الغيورين، شهدت مدينة إيسين الألمانية يوم 21 ديسمبر 2024 وقفة احتجاجية بارزة للتعبير عن رفض الاحتلال التركي والتهديدات والانتهاكات التي يتعرض لها الشعب الكردي المسالم. الحضور والمشاركة: حضر الفعالية أكثر من مائه شخصً من الأخوات والإخوة الكرد والألمان، إلى…

د. محمود عباس ستكثّف الولايات المتحدة وجودها العسكري في سوريا وستواصل دعمها لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) والإدارة الذاتية. تدرك تركيا هذه المعادلة جيدًا، وتعلم أن أي إدارة أمريكية قادمة، حتى وإن كانت بقيادة دونالد ترامب، لن تتخلى عن الكورد، لذلك، جاء تصريح أردوغان بعد عودته من مصر، ووزير خارجيته من دمشق اليوم كجزء من مناورة سياسية تهدف إلى تضليل الرأي…

شادي حاجي المرء لا يذهب إلى طاولة المفاوضات وهو خالي الوفاض وإنما يذهب وهو متمكن وقادر والمفاوض يكشف أوراقه تدريجياً تبعاً لسير العملية التفاوضية فعند كل منعطف صعب وشاق يقدم المفاوض بطريقة أو بأخرى معلومة ولو صغيرة حول قدراته على إيقاع الأذى بالطرف الآخر من أجل أن يكون مقنعاً فعليه أن يسأل عن مقومات الندية والتي تتركز على مسألة القوة…

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه”1970-2024″ كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. إذ إن بعض…