هُزالُ الخطاب السياسي (خطاب الكرد السوريين تحديداً)

  خالد جميل محمد

تَـسـبَّـب هُزالُ الخطاب السياسي الكردي السوري بمشكلات كثيرة عرقلت المسيرة النضالية للحركة السياسية الكردية في سوريا، وأدّت إلى اضطراب وخلل في برامجها، خطَطِها وسياساتها، إضافة إلى تَـعـثُّرها نتيجة الخلط بين المفاهيم والاصطلاحات السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية والقانونية، فضلاً عن الإساءة إلى اللغة (الكردية أو العربية) التي استخدمها هذا الخطاب دون التقيد، في معظم الحالات، بقواعد إملائها وضبطها وتحريرها أو قِطاعات أبنيتها الألسنية (صوتياً ، صرفياً، نحْوياً، دلالياً، تداولياً) بصورة تعكس تَـرَفّعَ صانعي هذا الخطاب عن التحرر من الأمّـيّـة اللغوية، الثقافية، العلمية والمعرفية، وامتناعَهم عن السعي إلى تجاوز حالة الوهن التي يعانيها إنتاجهم هذا بفعل عقلية التسلط والاستبداد السائدة.
توزّعت أضرار هذا الخطاب على مستويات كثيرة تمثّلت في تشتيت الحركة السياسية الكردية، وتمزيق جسدها إرْباً إرْباً، إضافة إلى بعثرة طاقات المجتمع وكفاءاته التائهة ما بين طرفٍ مهاجم يخوِّن غيرَه وآخر في موقع الدفاع عن النفس وآخر قائم على ردة فعل مماثلة لم تنتج في أغلب الأحيان إلا خلافات أسرعت في إفشال أي مسعى لإنتاج خطاب سليم، حتى بلغ هذا السلوك بالعمل النضالي الكردي حدودَ التلكُّؤ، التِّــيــهِ، التردُّد والتخبُّط دون التمكن من صناعة قراءة سليمة وصحيحة للواقع، الفكر، المجتمع، الماضي، الحاضر والمستقبل.

كذلك بلغ بالإنسان الكردي حدود فَـقْدِ الـثـقة بالمصدر الرئيس لهذا الخطاب الذي كاد يقتصر على أطراف الحركة السياسية الكردية من تنظيمات وأحزاب ومثقفين، وخاصة قيادات هذه التنظيمات ممن لم يبحثوا بصورة جادة عن السبل الناجعة لأي حلّ بالاستعانة بأهل هذا الاختصاص أو ذاك.
السمة الغالبة على هذا الخطاب أنه لم ينجح في التحليل العميق والموضوعي، بل بقي سطحياً غالباً في معالجة موضوعاته التي ظلَّ يحوم حولها بأدوات ضعيفة ومفاهيم خاطئة ومعارف ناقصة ومعلومات شحيحة في معظم الأحيان، حتى جاء بناؤُه مُهلهَـلاً فاقداً مقوِّمات التماسك والترابط.

بل كاد ينحصر في إطار التبرير للإخفاقات المتكررة في مختلف الميادين النظرية والعملية دون الاعتراف بالأخطاء والنواقص ودون العمل على تجاوزها والاستفادة منها لعدم العودة إليها لاحقاً.

يضاف إليها أيضاً أنه خطاب تمحور حول موضوعة التخوين التي أثمرت مما أثمرت تنظيماتٍ بلغ عددها ما يقارب الأربعين حزباً وحركة وتياراً سياسياً كلٌّ منها يخوِّن الآخرَ ويتلقى اتهام التخوين من معظم الآخرين، في دوّامة ضاع فيها الجميع.
العوامل المتسببة في هذا العمر المديد لهُزال الخطاب وخطاب الهُـزال كثيرة، منها: بصورة عامة هيمنة عقليات استبدادية قيادية على مصادر إنتاج هذا الخطاب، وتحكم معظم قيادات التنظيمات في تفاصيله وخطوطه العامة والخاصة، وعبوره من بوّابة الرقابة القياديىة التي طبعت الخطاب السياسي الكردي بطابع متحجر، عاجزٍ، متخلّفٍ وعشوائي وقمعي وتخويني غالباً.

يضاف إليها أنّ المُـنْـبَـرين من المخلصين من ذوي الأهلية والكفاءة للبحث عن الحلول لإنقاذ هذا الخطاب وإنعاشه وتجديده وتغييره يتم إقصاؤهم وتهميشهم وإهمالهم بل محاربتهم من تلك الفئات والشخصيات المتسلطة التي أمسكت بزمام الأمور في يدها.

أدّت هذه الحال إلى إنهاك الحركة الكردية وإشرافها على الموت والتقاط الحشرجات الهلاك على أيدي أشخاصٍ وفئات ومُريدين سياسيين أثبتت التجربة الطويلة عجزهم عن تجاوز هذه الآليات التقليدية الضعيفة في بنية الخطاب السياسي الكردي الذي يُـعْـرَفُ أكثر ما يُـعـرَف به أنه خطابٌ تخويني غالباً، وأن من أوصلوه إلى هذا المستوى المتدني هم أنفسهم من لا يكترثون لإصلاحه اليوم بل يعيقون هذا الإصلاح برفضهم النقدَ وثقتهم العمياء بإمكاناتهم الجوفاء التي بَـنَـت خطاباً لا يتجاوز قاموسُه اللغوي بضعَ عشرات من مفردات هزيلة استهلكتها السنون وبضعَ عبارات ركيكة طحنتها كثرة الاستخدام والاجترار.

أما سبل الحل فتتمثل في إفساح المجال لذوي الاختصاصات المختلفة وتقديم الدعم الكافي لإنجاز خطاب لا يخجل منه الكرد على النحو الذي يخجلون منه الآن بفعل قيادات عاجزة عن تحقيق أي نجاح في هذا المجال لعدم توافر الاستعداد النفسي والفكري والأخلاقي والسلوكي لديها لإفساح المجال لمن هم أكفأ منهم في مجال إنتاج خطاب يعيد صياغة الفكر الكردي ويبني عقلاً كردياً منفتحاً وقادراً على التفاعل الإيجابي مع موضوعاته بِحُرّية.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

كفاح محمود حينما كان الرئيس الراحل عبد السلام عارف يُنعى في أرجاء العراق منتصف ستينيات القرن الماضي، أُقيمت في بلدتي النائية عن بغداد مجالسُ عزاءٍ رسمية، شارك فيها الوجهاء ورجال الدين ورؤساء العشائر، في مشهدٍ يغلب عليه طابع المجاملة والنفاق أكثر من الحزن الحقيقي، كان الناس يبكون “الرئيس المؤمن”، بينما كانت السلطة تستعدّ لتوريث “إيمانها” إلى رئيسٍ مؤمنٍ جديد! كنّا…

نظام مير محمدي *   عند النظر في الأوضاع الحالية الدائرة في إيران، فإن من أبرز ملامحها ترکيز ملفت للنظر في القمع المفرط الذي يقوم به النظام الإيراني مع حذر شديد وغير مسبوق في القيام بنشاطات وعمليات إرهابية خارج إيران، وهذا لا يعني إطلاقاً تخلي النظام عن الإرهاب، وإنما وبسبب من أوضاعه الصعبة وعزلته الدولية والخوف من النتائج التي قد…

خالد حسو تعود جذور الأزمة السورية في جوهرها إلى خللٍ بنيوي عميق في مفهوم الدولة كما تجلّى في الدستور السوري منذ تأسيسه، إذ لم يُبنَ على أساس عقدٍ اجتماعي جامع يعبّر عن إرادة جميع مكونات المجتمع، بل فُرض كإطار قانوني يعكس هيمنة هوية واحدة على حساب التنوع الديني والقومي والثقافي الذي ميّز سوريا تاريخيًا. فالعقد الاجتماعي الجامع هو التوافق الوطني…

تصريح صحفي يعرب “تيار مستقبل كردستان سوريا” عن إدانته واستنكاره الشديدين للعملية الإرهابية الجبانة التي استهدفت دورية مشتركة للقوات السورية والأمريكية بالقرب من مدينة تدمر، والتي أسفرت عن سقوط عدد من الضحايا بين قتلى وجرحى. إن هذا الفعل الإجرامي يستهدف زعزعة الأمن والاستقرار، ويؤكد على خطورة الإرهاب الذي يتهدد الجميع دون تمييز، مما يتطلب تكاتفاً دولياً جاداً لاستئصاله. كما يُعلن…