الحركة الكردية ومفهوم التداولية

افتتاحية جريدة البارتي *

 

ان مفهوم تدوال السلطات , وتبادل المواقع , مفهوم حضاري وقانوني متطور , وهو يحمل بعدا ديمقراطيا حقيقيا , يجافى عن الأنظمة والمنظمات والأطراف الشمولية , المعتمدة نظاماً رئاسياً صارماً , يعتمد صناديق الاقتراع في طابعه الشكلي , ويبرمج بكل ما يملك من قدرة وقوى وأدوات للسيطرة واحتلال المواقع , وتنفيذ البرامج الموكلة بالاعداد والتوجيه والاعلام والثقافة والتربية , بما يعزز نزعة التفرد , وصيغ التحكم والاستئثار بالقرار، وهي ثقافة قديمة موغلة في الزمن , لم يعد ترقى الى السويات الاجتماعية والسياسية المتطورة والمفرزة ابداعا وقيما وكفاءات وخبرات وكشفاً للطاقات المخزونة التي لا يمكن ابرازها , واعطاؤها الدور المرجو الا من خلال مجتمع ديمقراطي مدني , يؤمن بقيم التداول , وتبادل المواقع في أعلى السلم الاجتماعي والسياسي , مما يجعل من قدرة التنافس الحي والمشروع أمراً في غاية الحيوية والأهمية , ليكون ميداناً للانتاج والعطاء , ودفعاً لذلك التنافس المشروع , وابرازاً للكامن من الابداعات الخفية والمقهورة , وقد بات ملحاً ان تطرح مسألة التداولية وتعدد المواقع , وترك المجال للتواصل , وتبادل المواقع والقيم والآراء , وابراز الشخصيات القادرة في جملة الحياة السياسية في سورية عامة بأحزابها ونخبها وطاقاتها عربية وكردية وسائر أطياف المجتمع وفئاته وشرائحه ..

وقد جاء الحاحنا على مبدأ التداولية في الحركة الكردية أمراً طبيعياً يتعلق بجملة عوامل أهمها:

1- المناخ العالمي العام , الداعي والمحرض الى نبش الكوامن , والبحث عن الطاقات والخبرات والقدرات , لتأخذ دورها في نطاق مجتمع مدني , يأخذ الطابع المؤسساتي الداعي الى اشراك أكبر قدر من القيم والمفاهيم المجسدين لها , والعاملين عليها , لنقلها الى واقع تطبيقي , ينسجم مع التطلعات الديمقراطية , وقيم الحرية الذاتية , ومفاهيم حقوق الانسان , ونقلها من الاطار النظري المشرق الى طابع عملي ميداني , يحرض على المبدع , ويحرك المخبوء , وينفتح على الحياة بمختلف جوانبها .

بحيث لا تكاد تقتصر على فئة محدودة ملكت كل الامتيازات والمصالح , والمواقع , وهمشت القوى والقدرات الساعية الى التغيير والدفاع عن القيم والمصالح القومية والانسانية والوطنية العليا , والتي يمكن أن تعود بالفائدة والموقع والامتياز على قطاعات عريضة من الشعب , بحيث تغدو ورشة عمل متكاملة منتجة , ومؤثرة في صنع القرار السياسي , بما يخدم القيمة العليا المشتركة ..
2- بروز ووضوح سلبيات التحكم في القرار السياسي في مختلف بقاع الأرض , حيث يبرز هذا في تراجع الاقتصاد , ونهب المال العام , وهدر الثروة الوطنية , وتخريب المؤسسات والدوائر ومراكز القرار , وغياب فظيع للتخطيط وبرامج التنمية على أثر ذلك , واستشراء ظاهرة الفساد الاداري والمحسوبية وتعطيل عجلة الانتاج , بغياب الكفاءات والقدرات وبروز ظاهرة التملق والنفاق السياسي والحزبية الضيقة , والتكتل في سبيل تعزيز المواقع المتردية والمهزوزة أصلاً , وهو ما بدا بوضوح في مجمل الحركة السياسية والحركة الكردية خاصة , مما أفرز مظاهر الانقسام والتشرذم والتمحور حول الذات والفردية واصطناع القرار المتحكم , مما أدى الى تراجع كبير في مجمل المنجزات والتطورات والمفاهيم السياسية , حيث تفرغ المستعلون والمتحكمون في تمتين مواقعهم بأي ثمن , حيث كان التراجع والتفتت والتهشم ظاهرة طبيعية نستتبع بالضرورة تحشيد الأنصار واستمالتهم , والنتصار لهم , وقمع الآخرين , وخاصة ممن يملكون الطاقات والتطلعات وقيما مشرقة وجديدة ..

3- تفرض التداولية نفسها مع تطور الحياة الفكرية والثقافية , وشيوع الثقافة الديمقراطية , واهتزاز النظم والمفاهيم والأفكار البائدة , وانتشار الثقافة الجماهيرية والتي أفرزت بدورها من صلب الحياة المدنية نخبة ثقافية جديدة , تؤمن بكل ما يأتي بالخير والازدهار والتطور من مناهج وبرامج ومؤسسات تنبثق عنها , بحيث تلبي الحاجات الجماهيرية , وتركز على الحياة بكل صعدها وشعبها وميادينها , ازدهاراً وتطويراً وغنىً وابداعاً , وانتقالاً من كل حالات الفقر والتخلف والعبودية ومفاهيم الأسطورة وعبادة الفرد ..

ليكون المفهوم التداولي بما يحمل من قيم ومفاهيم متطورة قادراً على كسر الحكر في القرار والادارة والتشريع والتوجيه ليكون القرار الجماعي المنتج والمبدع الأساس في تحريك الكامن والراكد والمعقد من جملة الأخطاء والأمراض الاجتماعية , والعقد السياسية المصطنعة , وهو ما يدفع بالفئة الجديدة في الحركة السياسية والحركة التحررية الكردية , والبارتي خاصة , أن يأخذ على عاتقه قيم المبادرة في توليد حالة جديدة , تفتت الجليد المتجمد والمتراكم , والهالات والمفاهيم والأطر التقليدية باتجاه بناء جديد يعتمد طابعاً حركياً تداولياً جديداً ..

4- ان جملة الدعوات والتجارب والقيم والقواعد في المفهوم التبادلي , وتداول المواقع , والخروج من اطار القيادة القادرة والفاعلة والمتكرر , والشخص المحور والفكر الملهم , يفترض حلاً جزرياً واقعياً مباشراً , يخرج من اطار الأمنيات والتوصيات والرؤى النظرية , ليكون المفهوم الجديد حلاً منطقياً لدجل سياسي دام طويلاً , وأثر بشكل كبير في زعزعة أي استقرار منهجي أو فكري أو تنظيمي , بل كان المساهم الأكبر في تداعي صرح الحركة وفقدان قيمتها وهيبتها والتأثير على مجمل برامجها وأطرها وآلية عملها ..

مما أوقع في كثير من المحسوبية والاهترام وسحب القدرات وقهر الطاقات , وتشويه شخصيات كان من الممكن أن تحتل مواقعها المتميزة في جسد الحركة لتنكفىء وتتوارى عن الأنظار وتجترح هموم القمع والتشويه ..

ان هذه العوامل وجملة أخرى من قيم المصلحة العامة , وضرورات الحياة , وتطوراتها , وآفاق الحركة , ومتطلبات واستحقاقات التطورات العالمية ..

تفترض مثل هذا المفهوم الحضاري الحي والمتقدم والذي يمكن أن يقدم عوامل انجاح الحركة ولم شملها واعادة اللحمة الى عديد من أطرافها .

——

*  نشرة دورية تصدرها هيئة الإعلام في منظمات الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا (البارتي) – العدد (4)

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

ماجد ع محمد إذا كان الاستثمار من الأمور الهامة التي تأخذها بعين الاعتبار أيُّ دولة أو حكومة سواءً أكانت متطورة وشبه مستقرة أم خارجة لتوها من الحرب ومنهكة اقتصادياً؛ وبما أنَّ معظم الدول تشجع على الاستثمار الأجنبي المباشر بكونه يساهم بشكلٍ فعلي في التنمية الاقتصادية، ويعمل على تدفق الأموال من الخارج إلى الداخل، ويجلب معه التقنيات الحديثة، ويعمل على توفير…

من أجل إعلامٍ حرّ… يعبّر عن الجميع نقف في هذا اليوم العالمي لحرية الصحافة، نحن، الصحفيين والكتاب الكرد في سوريا، للتأكيد على أن حرية الكلمة ليست ترفاً، بل حقٌ مقدّس، وضرورة لبناء أي مستقبل ديمقراطي. لقد عانى الصحفيون الكرد طويلاً من التهميش والإقصاء، في ظلّ الأنظمة الدكتاتورية المتعاقبة ولاسيما نظام البعث والأسد، حيث كان الإعلام أداة بيد النظام العنصري لترويج…

عبدالرحمن کورکی (مهابادي)* في الوقت الذي تتكشف فيه يوميًا أبعاد جديدة للانفجار الذي وقع في أحد الموانئ الجنوبية لإيران يوم 26 إبريل 2025، يتردد سؤال يعم الجميع: من هو المسؤول عن هذه الكارثة؟ هل كانت متعمدة أم عيرمتعمدة؟ هل يقف وراءها فرد أو تيار معين، أم أنها عمل قوة خارجية؟ سؤال لا يزال بلا إجابة حتى الآن!   التكهنات…

إبراهيم اليوسف يبدو التدوين، في زمن باتت الضوضاء تتكاثر فيه، وتتراكم الأقنعة فوق الوجوه- لا كحرفة أو هواية- بل كحالة أخلاقية، كصرخة كائن حرّ قرّر أن يكون شاهداً لا شريكاً في المذبحة. التدوين هنا ليس مجرد حبرٍ يسيل، بل ضمير يوجّه نفسه ضد القبح، حتى وإن كان القبح قريباً، حميماً، أو نابعاً من ذات يُفترض أنها شقيقة. لقد كنتُ- وما…