بير رستم
لم أصدق في البداية أو لربما العقل الباطني ناورني ودفعني أن لا أصدق النبأ وخاصةً عندما لفظ اسمك الثلاثي (محمد أمين جمال) ومن دون (بافى كاوا) وأنت المعروف به في وسط الأصدقاء والرفاق والزملاء.
وعلى الرغم من أن كنية (جمال) قد راوغتني في البداية ولكن كان هناك شيءٌ ما في الأعماق وسويداء القلب يوخزني بأن الراحل هو (بافى كاوا) وليس أحدٌ آخر سواه وعلى الرغم من كل التمنيات بأن يكون الخبر كاذباً، ولكن (لعنة الله) على النكنولوجيا؛ حيث جاء التأكيد عبر الموبايل من الصديقين محمد إسماعيل وعبد الحكيم بشار.
تعرفت إلى الصديق والأخ (محمد أمين – بافى كاوا) من خلال العمل السياسي والحزبي في جامعة حلب؛ حيث كان طالباً في السنة الثالثة بكلية العمارة عندما التحقت بكلية الهندسة الميكانيكية وقبل انتقال كلية العمارة إلى البناء الجديد والذي يقع خلف المدينة الجامعية كان طلاب الهندسة المعمارية يداومون في البناء الداخل في الحرم الهندسي والذي كان يضم الفروع الأربعة للهندسة آنذاك ويحيطها (أي الفروع الأربعة) سورٌ دائري، فكانت لقاءات طلبة هذه الفروع شبه يومية إن لم نقل يومية وخاصةً الذين ينتمون لدائرة وفكر سياسي محدد أو انتماء عرقي ما، فكيف يكون الأمر إن تلاقى الاثنتين معاً.
فقد كنا الطلبة الكورد بجامعة حلب في الثمانينات من القرن الماضي نشكل ثقلاً سياسياً حقيقياً ضمن الجامعة وقد تجسد ذلك في أكثر من محفل ومنبر وذلك من خلال النشاطات الثقافية والسياسية والاجتماعية من رحلات للطلبة وغيرها، بل ومن خلال المشاركة القوية في المؤتمرات الطلابية مما دفع باتحاد الطلبة السوريين أن تلغي المناقشة السياسية العلنية في المؤتمر السنوي للطلبة ومن على منبر الجامعة وتستبدله بطرح الأسئلة الكتابية على المؤتمرين وقد كان لنا شخصياً دورٌ بارز في مناقشات أحد السنوات الحامية وبإشراف الصديق والزميل الراحل (بافى كاوا) نفسه، حيث كان مسئولاً عن منظمتنا؛ منظمة الطلبة لحزب الاتحاد الشعبي الكردي في سوريا.
نعم..
لقد كان (لحزب الاتحاد الشعبي الكردي) في تلك السنوات دورٌ فاعل في المجتمع الكردي عموماً وتحديداً في الوسط المتنور من طلبة ومثقفين كورد.
وأتذكر إننا عملنا إحصائيات في الجامعة وكانت النتائج قوية لصالح التواجد الكردي نسبة للتعداد السكاني العام في سوريا وأيضاً بالنسبة لعدد الرفاق المنضوين آنذاك تحت (راية) الحزب والمنتشرين في جميع الكليات وفروعها.
ومن ضمن أولئك الرفاق النشطين في تلك المرحلة بل من الذين في الصف الأول إن لم نقل أنشطهم كان الأخ (محمد أمين – بافى كاوا) حيث وهو على مقاعد الدراسة توصل إلى مراحل قيادية في الحزب وتحديداً بين الطلبة فاستلم مما استلم منظمة الطلبة للحزب.
وهكذا استمرت علاقتنا إلى أن كانت (نكبة) الحزب في بداية التسعينيات من القرن الماضي وبدء الخلاف والشقاق بين رفاق الأمس وأعداء (الأمس) ومحاولة الرفاق في القواعد والتي سميت بنشاط اللجان الفرعية آنذاك وذلك لرأب الصدع الناشئ داخل صفوف الحزب؛ حيث وصل الأمر ببعض الرفاق أن يهدد باغتيال بعض رموز الانشقاق من قيادة الحزب وكنا شاهدين على الأمر، ولكن وعلى الرغم من ذلك كان تصميم القيادة – (وربما) جهات أخرى – أقوى من إرادة القواعد الحزبية فكان الانشقاق والتصدع، بل كان الانهيار الحقيقي لما كان يسمى بحزب الاتحاد الشعبي الكردي وتشتت الرفاق بين الولاءات لهذا (الزعيم) أو ذاك، بل جلهم (كفر) بالعمل السياسي (الحزبوي) وبالتالي كان الإجهاض والوأد – مرة أخرى – (للحلم) الكردي في تحقيق بعض الآمال والأماني لشعبنا في هذا الجزء الكردستاني.
وكان الافتراق بين أولئك الكوكبة من الأصدقاء والرفاق ومنهم الصديق الراحل (بافى كاوا)، فلم نلتقي به إلا بعد سنوات وسنوات حيث كان قد تخرج من الكلية ويعمل مهندساً في مدينة قامشلي كونه من أبناءها وكنا قد تركنا الجامعة في سنواتها الأخيرة وبدأنا في الانخراط ضمن الحقل الثقافي الأدبي وكتابة القصة باللغة الكردية، مما كان يستوجب أحياناً وبين الحين والآخر أن نطل على مركز الثقافة الكردية، فكانت الزيارات إلى الأصدقاء والزملاء في مدن وبلدات الجزيرة عموماً.
وفي إحدى زياراتنا تلك وتحديداً كنا عند الصديق والأخ العزيز مروان عثمان (روياره آمدي) في مدينة رميلان عندما اتصل به الصديق الراحل (بافى كاوا) يعلمه أنه في (رميلان) عند صديق آخر فما كان من الأخ (رويار) إلا أن أخبره بأن له مفاجئة فأعلمه بوجودي في البلدة فكان اللقاء وإعادة الذكريات.
وهكذا التقينا من جديد لأسأله بدوري (لما البارتي)؛ حيث كان آنئذٍ قد انضم إلى صفوف الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا (البارتي) وذلك بعد عودته من إقليم كوردستان العراق مع لجنة المصالحة وتقصي الحقائق في الاقتتال الداخلي والذي نشب بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني.
فكانت إجابته قصيرة ولكنها حادة وقاسية بالنسبة لي – على الأقل حينذاك – حيث أدركت على أثرها إن ذاك الصديق الطيب (البسيط) ذو القلب الأبيض قد دعكته الحياة ومن قبلها السياسة ومناوراتها ودهاليزها وذلك عندما أجابني بعبارته القصيرة هذه: “بدل أن أكون تابع التابع لما لا أكون التابع مباشرةً”.
فعرفت أنه قد صدم برمزه في حزب الاتحاد الشعبي وهو الذي وقف مدافعاً عنه في وجه الطرف الآخر وأيضاً وخاصة في وجه نشاط الفروع، مما كان قد أفقده طريق العودة وهو يعلم أنه “قد أحرق كل السفن عند الشاطئ”.
أما آخر لقاءٍ لنا وبشكلٍ شبه لامح فكان في مدينة دهوك وذلك من خلال التقاءنا في مهرجان دهوك الثقافي السنوي الثاني قبل ثلاثة أشهر تقريباً، فكان ضيق المكان والزمان قد اجتمعا ضدنا فتواعدنا على اللقاء ولكن رحلة الطائرة السورية يوم الجمعة تحديداً قد عجّل بالسفر بنا ومن دون التمكن من لقاء صديقٍ سيكون للموت موعدٌ ورأيٌ آخر.
وهكذا ودعناك صديقي قبل أن نلتقي فرحلت مبكراً وتركت وراءك الكثير من الحسرات والدموع (لربما) تغسل بعضاً من الذنوب مما ارتكبناه بحقك وبحق أنفسنا ولك سفينتك فأرحل..
أرحل عن الكثير من النفاق وآهٍ من هذه الحرقة في الصدر والدموع التي تغبش الرؤية وتضيع حروف الكيبورد ولك أيضاً آخر قبلة صديقي وللأزهار الثلاث ولرفيقة حياتك وكل الأهل والأصدقاء المحبة والعزاء.
جندريسة – 2007