حياة الدهاليز والبحث عن الهوية

د.

علاء الدين جنكو

طبيعة الحياة  قائمة على الاختلاف في الميول والرغبات والشهوات وهو ما يؤدي حتما إلى الاختلاف في التفكير وتبني الإيديولوجيات المختلفة وإفراز العديد من الرؤي للحياة.

وهذا أمر يوافق خِلقة الانسان فلو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة، هذا التنوع والتباين في أي مجتمع سيضع أبنائه أمام عدة خيارات بناء على ما يسود المجتمع من الأفكار والايديولوجيات وتأثيرها بما يحيطها من الخارج أوما يقتحمها إلى الداخل .
مجتمعنا الكردي السوري لم يكن بعيدا عن هذه التجاذبات، فمند سقوط  الدولة العثمانية وتقسيم كردستان إلى أربعة أقسام ودخول القسم الغربي منه ضمن الدولة السورية بدأ صراع البحث عن الهوية لهذا المجتمع.
من الناحية العقائدية الدينية يدين الغالبية العظمى من الكرد بالدين الإسلامي وبقيت عاداته وتقاليده في إطاره العالم موافقا لتعاليم الإسلام ومشاركته لجيرانه العرب بالإسلام خلق جوا إيجابيا من العلاقات الاجتماعية والإنسانية وبعض الاحيان الأسرية.
على أن هذا التعايش لم يسلم من الخدش والتخريب نتيجة اعتلاء الأنظمة العربية العنصرية الشوفينية سدة الحكم في سوريا، ومحاولة إخضاع الكورد تحت هيمنة القومية العربية.
تأجج الشعور القومي لدى الكورد أكثر مما كان عليه سابقاً كردة فعل على تلك السياسات العنصرية.
وإزاء هذا كانت الجمعيات والهيئات والمنظمات الكردية التي توجت بتأسيس أول حزب كردي  – الحزب الديمقراطي الكردستاني – عام 1957م وتبني الحزب العلمانية كمبدأ يسعي لفصل الدين عن مفاصل السياسة.
وزاد بأن تبني كل الأحزاب المنشقة عنه الفكرالماركسي إيديولوجية غريبة عن المجتمع الكردي، ووصل الحال بالمزايدة الماركسية إلى حالات انشقاقات حزبية على أساس قلة التزام الغير بها !!!
سعت الحركة السياسية في إبعاد الدين عن المجتمع في جميع ميادينها وحصرها في دور العبادة وبعض الطقوس المتعلقة بغسل الأموات ودفنهم وإبرام عقد الزواج كضرورة عرفية قبيل دخول العريس على عروسه !!
وبالمقابل لم يكن حملة الإسلام على قدر المسؤولية تجاه الشعب لمحاولتهم الاستئثار بهذا الدور في الوقت الذي افتقدوا لألياته وهو ما أعطى المبرر للسياسيين فيما انتهجوه من أساليب في مواجهة الدين ( الإسلام ) .


انهار الإتحاد السوفيتي وانقلبت الكثير من الموازين الأيديولوجية وتغيرت بوصلة العلمانيين وقبلتهم إلى ما كان يسمى في مصطلحهم الإمبريالية العالمية !!
وتغير مع وجهتهم الجديدة ( نغمة الصراع ) الايويولوجي إلى ما يسمى ( باسطوانة الإرهاب ) وبات مصطلح ( محاربة الإرهاب ) القشة التي تمسك بها العلماني الغارق.
ولا بد من الإشارة بأن الصراع الايديولوجي كان يجري دائما في ظل الجهل  المنظم والممنهج، فمن كان ينتقد الإسلام ومبادئه لم يقراء – في غالب الأحيان – أربعة أسطر عنه وهو ما كان يوقع الكثير من الساسة الكورد مع طول خبرتهم السياسية في مواقفة حرجة تظهر مستواهم الثقافي المتدني والظهور بأنهم ليسوا جهلاء فيما يناقشون فيه إسلاميا فحسب بل حتى فيما هم عليه من ايديولوجيا  وتلك مصيبة أخرى.
فعندما ينتقد سياسي محنك – ويشهد به بذلك – ويقول : بأننا لا نقبل أن تظلم المرأة بمبدأ ( للذكر مثل حظ الأنثيين ) وهو لا يتقن قراءة الآية بشكلها الصحيح  فضلا عن تفسيرها ولا يدرك موضوعها، ويجزها عن غيرها من الآيات والأحاديث الداعية لحماية المرأة وصيانة حقوقها وهي تفوق ما قرأه هذا السياسي في كل حياته عن المرأة سيقع في حالة لا يليق أن يكون فيه على الأقل احتراما لعقيدة شعب يدعي أنه يقودهم .


الاستخفاف بعقلية الشعب الذي يريد أن يقوده السياسي مصيبة يجعله في واد ومن يريد خدمتهم في واد آخر، والشعب مهما كانت حنكة هذا السياسي العبقري لا يقبل خيار الكفر مقابل الإسلام مهما كان مستوى المسلم وإبداعات الكافر .


لا يكون محاربة الهوية الإسلامية للشعب الكردي ناجحا في أي كسب على المستوى الشعبي إلا إذا كان خافضا رأسه لمبادئ وعقائد الشعب .
والموقف الانتهازي من السياسي في الدفاع عن حق الأقليات الدينية في مجتمعنا الكوردي الذي شهد له الدنيا باحترام أصحاب جميع الديانات غير الإسلامية بات مكشوفاً عند الجميع وحالة الحرباء عند السياسي الانتهازي تحوِّله من لا ديني مسلم إلا ديني لا مسلم فقط ليواجه الإسلام وليس التصرف الخاطئ من بعض مستغلي الإسلام .
هذه ( الاسطوانة ) لم تعد تنطلي على أحد بعد أن أثبت الشعب الكوردي تمسكه بمبادئ دينه الحنيف .
والغريب عدم استفادة التيار السياسي الكوردي من غيرهم من التيارات السياسية في العالم ففي أرقى العلمانيات في نظهرهم ترى الساسة يظهرون إحترامهم لعقائد شعوبهم ولا يتجرؤون على الإساءة والاستهزاء بها حتى يبقوا على تواصل حقيقي مع شعوبهم .
وعلى هذا يخطئ كثير من الناس حين يتصورون الدين مجموعة من الأوامر والنواهي التي تحول بين الناس وبين الاستمتاع بحياتهم، أو تقف بينهم وبين الإنطلاق في سبيل التقدم في حرية ويسر ، ويخطئون حين يتصورونه مجموعة من الطقوس والعبادات التي قد تهم الأفراد ولكنها لا علاقة لها بحياة الجماعة أو تكوين المجتمع ، ويخطئون كل الخطأ حين يتصورون الدين بحكم ما هو عليه حال الدين في حياتنا اليوم .


وعلى مستوى الفكر القومي يعيش مجتمعنا الكوردي السوري حالة تخبط وضياع ، ولم تعد التيارات السياسية  قادرة على بلورة المفهوم الحقيقي لهوية الشعب الكوردي في سوريا وأية مصطلحات أولى في التقديم.
بات الشعب رهينة الصراعات على المكاسب الشخصية والحزبية وهو ما حرم الشعب الكوردي في سوريا موقفا موحداً ينتج عنه مطالب محددة وواضحة لرسم حياته المستقبلية وخاصة في ظل متغيرات الربيع العربي .
لم يعد البكاء والعويل والدموع باسم القومية مفيداً في زمن فهم الأطفال للسياسية والدخول في عوالم الحكم على الآخرين من خلال دراسة فيزولوجيا الشخصيات .
فالانسان لمجرد أن يخرج على  الملأ بخطاب يكفي لتحليل  شخصيته من قبل الناس حتى لو  كانوا في مستويات متدنية علميا وسياسيا وعليه لابد  من دعم مسيرة الدعوة  القومية بانجازات  حقيقية على أرض الواقع تعود بفائدتهاعلى أهل هذه القومية لأن قتل الناس باسم القومية وتسلق الانتهازيين على حساب غيرهم قوميا أسلوب قذر سيكشف لدى عموم الشعب .
وثمة نقطة في غاية الأهمية أرى بأن السياسيين الكرد تورطوا فيها وهي ممارستهم للسياسات التي يحاربونها في أعدائهم وخصومهم من العنصرية والشوفينية والدكتاتورية  فليس من المنطق أن أحارب حزب البعث العربي الاشتراكي لأضع محله حزب البعث الكردي الاشتراكي، كذلك لا يمكن أن أناضل لإسقاط حكم الدكتاتور العربي لأضع أساس حكم الدكاتور الكوردي .
فالقومية التي يسعى لها الكوردي الأصيل يقصد به إنتهاج الأخلاف نهج الأسلاف في مراقي المجد والعظمة ومدارك النبوغ والهمة وأن تكون لهم بهم في ذلك قدوة حسنة وهذا مما لا يخالف فطرة البشر في حصول الحماس والأريحية بدافع الصلة والقرابة والوراثة والدم وهو مقصد نبيل يسعى له الفضلاء من البشر .


لا القومية التي يسعى أهلها للإعتزاز بجنسهم إلى درجة الانتقاص من الأجناس الأخرى والعدوان عليها ونشر ثقافة الاستعلاء البشري بين أبنائها فهذا مما ثار له الكوردي الأصيل منذ أن خلقه الله تعالى .
التناقض وعدم القدرة على التوازن وضع الكثير من الساسة الكورد ومعهم أبناء شعبهم في مأزق آيديولوجي، ولابد من الخروج من دهاليز هذا المأزق للبحث عن الهوية الحقيقة للشعب الكردي السوري وتحقيق التوازن بين مفاهيم الدين والقومية والوطنية وعدم الخلط بينها بمحاربة بعضها بغيرها.

لأن واقع الحال يؤكد بأن العالم يتجه نحو ظهورها جميعا إلى حين وأن محاولة التلاعب بأحدهما سيسبب في حرق صاحبه على الأقل في مجتمعنا الكردي السوري في المرحلة الراهنة.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية، وبالمشاركة مع أطفال العالم وجميع المدافعين عن حقوق الطفل وحقوق المرأة وحقوق الانسان، نحيي احتفال العالم بالذكرى السنوية الثلاثين لاتفاقية حقوق الطفل، التي تؤكد على الحقوق الأساسية للطفل في كل مكان وزمان. وقد نالت هذه الاتفاقية التصديق عليها في معظم أنحاء العالم، بعد أن أقرتها الجمعية…