د.
فريد سعدون
فريد سعدون
إن غايتنا الأساسية هنا هي البحث في عوامل اندحار الثقافة السياسية الكردية، ومن أجل ذلك نحاول أن نقدم التأويلات الممكنة لمستقبل الأحزاب الكردية في ظل افتقادها لمثل هذه الثقافة، هذه التأويلات مبنية على جملة من المؤشرات الواقعية والمعرفية والتحليلية، إذ إن مقاربة نماذج محددة، ومساءلة أبعادها تجعلنا نقدمها على أساس أنها حالة أو ظاهرة قابلة للنقاش والتفكيك، فهي غير مستعصية على الضبط والإدراك، بل يمكن وصفها وتشخيصها من خلال النظر في مكوناتها وبنيتها الداخلية، وقدرتها على إنتاج القيم وتداولها،
وهذا المنهج سيمنحنا القدرة على الكشف عن نقاط ضعفها وقصورها التي تدفع بها نحو حافة الانهيار، هذه القراءة تمنحنا فسحة البحث في العيوب النسقية للسياسة الكردية التي تتجلى في مرآة الإخفاق والتقهقر والتشتت، فغياب النقد والتحليل أوقعنا في حالة من العمى الثقافي التام عن العيوب التي صارت تتنامى متوسلة بالفعل السلوكي الحزبي السلبي، وليس القصد هنا هو إلغاء المنجز السياسي، وإنما تحويل الأداة النقدية من أداة تقويض إلى أداة كشف وتدقيق في السجلات بغية تشريحها وتفكيكها، وفق هذه الرؤية نلحظ أن النظر من داخل الأنساق الحزبية يكشف عن تقهقر الثقافة السياسية، وأدواتها النظرية، والقاعدة الفلسفية التي تهندس صياغة المخطط الاستراتيجي للرؤية الناظمة لحركة العمل الحزبي، مما يفضي إلى اختلال في وظيفة الإنتاج الإبداعي، ويكبح توليد الأفكار الخلاقة، فيتحول العمل السياسي إلى تدبير مبتور للقضايا اليومية يعكس محدودية الوعي وضحالته، وعجزه عن إدراك الأبعاد المضمرة أو إتقان أسلوب مقاربتها والتفاعل معها، واستمرارية هذه الحالة أو تقادمها خلق نوعاً من التدجين أو الترويض العقلي والتواضع الفكري، ورسّخ هيمنة الجزئيات أو التفاصيل الصغيرة على حساب القضايا الجوهرية، مما أدى إلى تحطيم مركزية القضية الكردية، ولم تعد هي الغاية القصوى بل فُرضت عليها شروط الإشكاليات الإيديولوجية الجوفاء، فتراجعت أمام تقدم الانشغال بالجدل حول المسائل الإجرائية ذات البعد التنظيمي أو الذاتي (الشخصي)، ولا يتوقف القصور هنا عند متابعة حل المسائل الخلافية البسيطة، فالقضية التاريخية للشعب وشؤونه اليومية مدمجان معاً كجزء من عملية واحدة، والتركيز على الجزئيات يأتي من حقيقة أن نسجها وصيانتها يعين على تشكيل القضية ونمذجتها في إطار كلي، بيد أن جلّ ما تفعله السياسة الراهنة هو الوقوف على عمليات اجترار الشؤون الجزئية وإعادة استهلاكها، والتسليم بوجاهتها، هنا يتم تقزيم الثقافة السياسة واستبعادها أو نفيها أمام تقدم الرغبات الذاتية المحدودة والتكهنات اللامنهجية، ويتم تمجيد الهامشي والاحتفال بالتأويل غير المعلل منطقياً، والتأثر بالثقافات السائدة التي ترسّخها وسائل الإعلام، وهذا الأمر قوّض روح المبادرة، وأضعف التفكير السياسي الذي تراجع أمام طغيان المد الحزبوي الفئوي، وهذه المعادلة صارت تهدد استمرارية المشروع السياسي، غير أن المد الحزبوي نفسه يفتقد العمل على مستوى النسق الوظيفي، فهو يعاني قصوراً في أداته التنظيمية التي هي الوحدة الأساسية في ترتيب النسق العام، فهذه الوحدة عاجزة عن تشغيل التناغم بين التفكير السياسي والفعل السياسي، وهي غير قادرة على تمثيل الرؤى السياسية جماهيرياً، لأنها تفتقد البعد الثقافي أولاً، و لا تمتلك وسيلة التحاور البناءة التي تمهّد لها الخوض في تفاعلاتها مع المجتمع ثانياً، وعدم قابليتها للتوظيف التعبيري الدلالي الذي يهيئ لها الإفصاح عن ذاتها ثالثاً، لأنها غير محصنة ضد الاختراقات الثقافية الوافدة، تلك التي تزعزع التناغم الذاتي، وتنخر في تآلف عناصر وحدتها المتكاملة عضوياً، فتصير منهوبة أمام الدسّ والتأليب والتفريق، والتشتت الفكري والمعرفي، مما يضعف لديها قدرة الاستقراء فضلا عن تقييم أي ظاهرة أو تحليل المواقف واختبار المفاهيم السياسية للحزب وأدوات نضاله الخاصة من خلال الممارسة والتطبيق، وفي المحصلة يفتقد الحزب العضوية النوعية القادرة على تأهيل الأداة التنظيمية، ورفع جاهزيتها؛ لتكون مستعدة لمجابهة التعقيدات السياسية، والقيام بمتطلباتها، والتعامل مع الرؤى السياسية الحاسمة، وهنا لا يجد العضو الحزبي لنفسه موضعاً على محور التحولات التاريخية التي تمثل له بؤرة لوعيه التاريخي، ومركزاً للتفاعل والمواجهة مع الوقائع والأحداث الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، الأمر الذي جعل من الثقافة السياسية تجسيدا حيوياً مباشراً لذلك الوعي، فتقهقر الثقافة يخلق توتراً واضطراباً في الوعي، ويرسم صورة دونية وهامشية للفرد.
فالوحدات الحزبية وبحكم ارتباطها بركائزها التنظيمية، تشرنقت داخل مصالحها الضيقة، وأهدافها الحزبية الخاصة، ففقدت قوة الحضور والتأثير، ونتج عن ذلك فجوة أو خلخلة وأزمة بينها وبين الوسط الذي تنشط فيه، وربما لجأت إلى بعض وسائل الخداع والتضليل في محاولة لردم الهوة وحالة الاضطراب التي تسود علاقتها بالآخر، ومن ذلك استخدامها خطاباً إعلامياً تتوخى به ادّعاء ثقافة سياسية متوازنة، لكنها في حقيقتها ثقافة منافقة تخدم الجهات المتسلطة والمتنفذة، ورغم ذلك فإنها تفشل في إعاقة الانتباه لممارساتها وسلبياتها وتناقضاتها.
يتبع ….