يوميات الحصار

صبري رسول

(11) حمامة حزينة

خلف نافذة المطبخ ثمة حمامة واقفة على حافة سطح الجيران، تتأمل الفضاء الواسع
ناديتها: ألا ينتابك الخوف وأنت واقفة قرب نافذتي؟
ردّت بسخرية: لا تفكر أني جئت طالبة شيئاً منكم، أعرف أنّ مطبخك مجرّد كهف مظلم، لا ريحة دخانٍ فيه ولا دفء ولا نور، كن مطمئناً، لن أطلب زاداً منك، ولا ماء.

ثمّ أضاف بلهجة فيها الحكمة: لم يعد هناك الخوف من الناس، لأنهم مشغولون بأمورهم، كلٌّ يفكر كيف ينتقم من الآخر، كلٌّ مشغول بقتل الآخر

سألتها: بمَ تفكرين وأنت هكذا شاردة؟
أجابت: أبحث عن مكانٍ ليس فيه خراب، عن مكانٍ يخلو من العويل.
أفكر بفضاء واسع بعيداً عن شروركم.
قلت لها وهي تنفش ريشها تارة وتنظر إلى الأفق الشرقي تارة أخرى: وهل وجدتَ ما يتسع لحريتك؟
وجدتُ فضاء شاهقاً لكنه لا يتسع لدماركم، فقد لوثتموه بنيرانكم وحقدكم.


قلتُ لها برجاء مَنْ يبحث عن تحقيق أمنية له: كيف يمكن لنا الخلاص من هذا الليل الطويل؟
قالت: أنتَ كحبة رملٍ في وجه عاصفة تضرب الحياة، وليس لحبة رملٍ لا حول لها ولا قوة أنْ تغير من مسار العاصفة، ولا أن تنقذ البشرية منها.
سألتها: أيتها الحكيمة أريد منطقاً واضحاً … وقبل أن أكمل جملتي التوسلية كانت الحمامة تطير في الفضاء، وصوتي صار كتيماً في زجاج النافذة.
2/1/2013

 (10) بداية العام الجديد

احتفلَ العالمُ ليلةَ أمس بأفول العام الماضي وبداية السنة الجديدة، طبعاً احتفلت مع صغيري في عتمة قاتلة، لم أرَ الكهرباء إلا نصف ساعة فقط، فكان الحدث الأبرز في الاحتفالات هو حفلة برج الخليفة.

شاهدنا الأضواء الهندسية بحسرة عميقة.
احتفالُنا كان أشبهَ باحتفال المساجين، حيث لم تتوفر لدينا مقوماتُ الاحتفال، لم يكتمل المشهدُ المثيرُ في دبي حتى انقطعت الكهرباء اللعينة، بدأ صغيري بالانزعاج وتوزيع اللّعنات، احتضنته بقوة، مسحت شعره بأصابعي، قلت له: كن شجاعاً، فالأمر ليس دائما ميسَّراً، علينا أن نكون جديرين بالحياة،.

فقال: وكيف سنكون جديرين؟؟؟
لم أتمكن من الإجابة، فأسئلته غالبا ماتكون صعبة.


هناك صراع له ثلاثة أطراف يترك أثراً على تصرفاتي وسلوكي، الطَّرف الأول: حصار شيطاني غامض فُرِضَ عليّ وعلى الشعب الكردي والمناطق الكردية وباقي مكونات الشّعب في الجزيرة.

الطّرف الثّاني خوفي اللامتناهي على صغيري الذي أصبح هاجسا لي.

فالبرد والعتمة والتّصحر في الحياة تشكّل خطراً عليه، ومثله الآلاف من الأطفال، الطّرف الآخر هو أنا، الذي لا أملك شيئاً، جيوب فاضية، والسّماء عالية والأرض لا نبات ولا حياة فيها.

ماذا أفعل؟؟؟
هكذا تضيق حولي مساحة العيش والأمل.


لكن ما أعرفه وما تعلمته من التّاريخ أنَّ الشعوبَ تفعل ما لا يخطر على البال، وتجعل المستحيل أمراً في متناول اليد، والشعب السوري قد تعبَ كثيراً، وأصابه الإرهاق، أملي أن يفعل الشّعب ما لم يكن بالحسبان.
1/1/2013

 (9) الطفولة تحت الحصار

يشعر المرءُ هذه الأيام، أو لنقل من بداية الثورة بأنّه كبر عشر سنوات، فنقرأ على ملامح الإنسان ثقل السنين، فالتجاعيد قد غزَتْ وجوه النّاس، حتى الصّغار لم نعد نلمح الطفولة في عيونهم، فالوجوه قد شاخَتْ قبل أوانها، وتصرفاتهم لم تعد تصرفات طفولية.

الطّفولة صارت عبئاً على هذا الجيل، أكان قدرهم أنْ يأتوا في ها الزمن التعيس أم إنّنا جعلناهم ضحية زمنهم بأيدينا؟
أنا الذي كنت أرى أني صاحب نَفَسٍ طويل في الحياة، بتُّ ظاشعر أنَ أنفاسي تختنق، ولا تغادر الغصة حلقي.

أشعر أني تجاوزتُ خمسين عاماً، وأرى فتاتي الصغيرة(آسيك) ابنة اثنتي عشرة سنة قد أصبحت أكبر من سنّها بكثير، لمّا تتحمل مثلي هموم الأسرة والمعيشة المكدَرة، بل إني أحمّلها أكثر من طاقتها، أحملها مسؤولية التدفئة والطبخ والإنارة، إنّي قتلتُ طفولتها البريئة.
لم يعد أطفالنا أطفالاً، حتى صغيري(ابن خمس سنوات) ترك طفولته على قارعة رصيف الحصار، إنّه يحمل معي هموم الأسرة، ويهتم بشؤون الحياة، حيثُ سألني أمس: ألن تتعب في سفرك يا أبي؟؟
بعد ساعات سنطوي صفحة مليئة بالمجازر والقتل، إنها صفحة سوريا الحمراء.

وندخل عاماً يتوقع معظم الناس أنه لن يكون أفضل من العام الراحل (وليس الماضي).

ساعات تفصلنا عن اسمٍ جديد ورقم جديد.

ربما لن نشعر بالفرق الكبير عند دخولنا بوابته، فطوال اليوم لم أتمكن من كتابة هذه الصفحة، وأعتقد أني سأعاني الأمر نفسه غداً.
كلّ عام وسوريا بخير
31/12/2012

 (8) لعنات السّفر

أرتال من الناس ينتظرون حافلات النقل(زانا، جودي، هولير، بروان) كلما وصلت إحداها يتدافع الناس بشكل غريب، يتكوّمون أمام بابها.

الذي يفوز بكرسيّ في الحافلة يشعر بأنه امتلك الدنيا، يجلس في محلّه ويتنفّس الصعداء، والذي لا يلحق بالحصول على مقعدٍ فيها يبقى في ساحة الكراج(محطة الانطلاق) يشعر بالخيبة ويتألم على حظه، منتظراً حافلة أخرى.


في النّقل ليس هناك ضابط للتسعيرة، الضابط الوحيد هو الربح، مع المحافظة على المنافسة؛ أحد الركاب بدأ يلعن الشركة، والوضع والكراج، والهاتف الجوال، والحظ الذي جعله باقياً في سوريا، لأنّ الوقت تأخر ولا يعرف هل يُسعفه الوقت لإنجاز معاملته بالحسكة؟ الناس يقطعون أكثر من مئتي كلم لقضاء حوائجهم، حيث ترتبط شؤونهم بمركز المحافظة، فأيّ تنقل من هذا القبيل يكلّف صاحبه أكثر من ألف وسبعمئة ل.س.

والطالب الجامعي يخسر أكثر من 700 ل.س يوميا في تنقلاته إلى هناك.


أنجزت عملي هناك بالمدينة، ثمّ أحببتُ المرور على صديقٍ لي(محمد ملول) وإذ بالعتمة تلفُّ محلّه، وشيءٌ من عتمة المحل قد ألقى ظلاله على وجوه المارة.
عشرات من الكتل الإسمنتية تفصل بين الشوارع، وتقطع الطرقات، هذه الكتل ذكرتني بأمير إحدى المدن الذي طلب من أحد الخلفاء بناء سورٍ حول مدينته، لأنّ كثرة اللّصوص قد أقلقت مضجع الناس، فردّ الخليفة: حصّنْ مدينتك بالعدل.


رجعت إلى المنزل مساءً، وجدت العائلة كلّها بلا ماء، لأن الكهرباء غائبة من يومين، وبلا طعام لأنّ الغاز غير متوفر، وبلا تدفئة لأنّ المحروقات من المستحيلات، وبلا ابتسامات لأنّ بيتنا شبيهٌ بكهف بارد.

وجهتُ لعناتي مثل الراكب الذي وزّع لعناته حتى شملت دواليب الحافلة، أما لعناتي فقد شملت البرد، ولاب توب والكتابة والقراءة.
ملاحظة : لم تتوفر الكهرباء أكثر من نصف ساعة ليلاً، فتأخرت عن الكتابة.
30/12/2012

 (7) الشّيوعي يفرُّ بجلده؟

التّجار الكبار ضربوا ضربتهم، فقد ربطوا أسعار بضاعتهم بالدولار، واحتكروا المادة التي يتاجرون بها، كدّسوا بضاعتهم في المستودعات، وأغلقوا أبوابها، حتى أصبحت كالعملة النادرة، مع الترويج بزيادة سعر هذه المادة أو تلك، ثم فكّوا الحصار عنها وباعوا بضاعتهم بالسِّعر الذي يروي جشعهم.
أعرفُ عائلة شيوعية منذ القدم، فما أن انفصلوا من عائلة نوح وسفينته انتسبوا للشيوعية، وأفرادها منذ أيام (سومر) يحلفون برأس(ماركس، وأنجلس، ولينين، وستالين، وبريجنيف، وتشيرنينكو، وغورباتشوف، ويلتسن) ويلعنون (بليخانوف) لأنه كان عظيماً قبل أن ينحرف، ومازال أفراد هذه العائلة يرون أنّ خلاص البشرية من الفقر والظلم سيكون على يد (بوتين) و(لافروف)
الشّيوعيون السّوريون ليسوا كالشّيوعيين العرب الآخرين، ولا يشبهون الشّيوعيين العراقيين أصحاب الصَّفحات البيضاء في النِّضال والتَّضحية، الذين جعلوا من مصلحة العراق وشعب العراق مقياساً لمواقفهم.

الشّيوعيون السُّوريون تحالفوا مع النظام، تحت شعارات الاشتراكية، وقد تحقّق هذا الشعار(اشتراكية القتل والدمار الموزعة على كل سوريا) ومازالوا مقنَّعين بشعار (المقاومة).
سمعتُ بأن هذه العائلة وصلت إلى بلاد السّويد الباردة، طالبة اللُّجوء؛ الشِّيوعيون يفرّون بجلودهم إلى دول رأسمالية، حاربوها حتى بأظافرهم حيناً من الدّهر، ويطلبون رحمتها الآن.

والسّؤال: لماذا لم تلجأ هذه العائلة إلى بلاد (بوتين، ووأندريه كروميكوا، وبريجنيف)؟ 
———————————– 
ملاحظة: لا علاقة لهذا المقال بالشيوعية كفكر، بل بالشيوعيين السوريين فقط.
29/12/2012

(6) معاناة المشافي

لا يمكن أن يعيش الإنسان بشكل طبيعيّ في ظلّ حربٍ تأكل الأخضر والأصفر، وألوان قوس قزح، واليابس والبائس.

الحربُ كائنٌ شريرٌ، ووحشٌ مفترس، تترك آثارها المباشرة في حياة البشر، وتطبع صورتها الكارثية على صفحة الحياة لعقودٍ طوال.
الصعوبات يمكن تذليلها إذا كان نهر الحياة جارياً، لكن ظروف الحرب تجعل الإنسان عاجزاً عن القيام بأي شيءٍ، …
المريض والمشفى: اتصلت مع صديقٍ لي في أمرٍ يخصّني، تفاجأتُ أنّه في المشفى مع والده، وعند الاستفسار تبيّن لي أنّ والده يحتاج إلى تصويرٍ لفقرات ظهره، كونه سيخضع لعملية جراحية، والأمر الذي حيَّرهم عدم وجود الكهرباء لأكثر من عشرين ساعة، فاضطرّ إلى نقله أكثر من مرة.

انظر أين وصلْنَا؟ وأينَ أوصلتْنَا هذه المآسي؟ العنفُ بحدّ ذاته أمرٌ مستهجن، استهجنه الإنسان منذ قدم التّاريخ، لكن أصحاب المصالح، في رغبتهم للسيطرة على الآخرين لم يتوانوا في استخدامه، مما أحدثوا عشرات الحروب التدميرية، وفي النهاية يقتنع المرءُ بأنَّ العنفُ لا يحمي الأوطان.
قال لي متحسراً: الآن نحتاج إلى صورة له، الطّبيب يطلب ذلك، ولا نستطيع فعلَ شيءٍ، فماذا نعمل وكيف نتصرّف وقت العملية؟؟
لا أظنّ أنّ حرباً واحدة جاءت لتنقذ البشرية، ولا أعتقد أنّ التاريخ يذكر واقعة واحدة حمَت الإنسان من الدمار، فالحروب تحصدُ آلاف الأرواح، وتدمّر في لحظات ما بناه الإنسانُ في عقود.


يا صديقي! فالمشافي تصطفّ إلى جانب الأفران، ومحطات الوقود، ومحطات القطار، وكراجات السّفر، والمدارس الفارغة من زقزقة الصغار.

ما وجدناه من انعدام الخدمات في المشفى صورة مصغرة لمشافي المدينة.


الحروبُ، بوصفها ناراً يشعلها البشر، أسوأ من الكوارث الطبيعية، لأنّ الكارثة الطبيعية تترك قتلاً ودماراً لكنّها لا تترك أحقاداً، بينما الحرووب تترك قتلاً ودمارا وأحقاداً تسوّد النفوس لعشرات السنين.
28/12/2012

http://www.facebook.com/sabrirasol

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…