لن نخفي على القارئ الكريم بأن كتابتنا هذه – مقالتنا عن المرجعية الكردية – جاءت نتيجة عاملين تحريضيين: أولهما موضوعي؛ وهو من جهة متعلق بواقع الحركة السياسية الوطنية الكردية في سوريا و(تشتتها) بين عدد من الكتل السياسية الحزبية – القبلية في سلوكياتها وطريقة تعاطيها مع المسائل الحزبية وأحياناً السياسية على الرغم من امتلاكها لـ(مناهج وبرامج) سياسية يمكن اعتبارها مدنية وعلمانية وإن لم ترتقي إلى المستويات الأكاديمية – التخصصية، وبالتالي فهي بحاجة إلى مراجعة هذه السلوكيات والوقوف عندها ومحاولة تأسيس ذاتها على أسس مؤسساتية مدنية بعيداً عن روح العصبية القبلية ومن ثم التعاطي مع الآخر على أنه مختلف ومتمايزٌ عنا وقبوله على ضوء ذلك وليس قبوله على أساس “النسخة الكربونية”.
ومن جهةٍ أخرى يتعلق بعدد من المقالات التي تناولت الموضوع في هذه الآونة الأخيرة؛ إن كان تشريحاً وتوضيحاً للمسألة وبهدف تبيانها وضرورات المرحلة وما يستلزم من تجميع الطاقات والجهود لتحقيق (أكبر) قدر ممكن من المطالب والحقوق القومية المشروعة في الساحة السياسية بالنسبة لهذا الإقليم الكردي، أو نقداً وتحليلاً وذلك لتسليط الأضواء على نقاط الضعف ومكامن الخلل في هذا المشروع الكردي والذي نعتبره استراتجياً في هذه المرحلة، بل لربما هو أهم مشروع سياسي مطروح على القوى السياسية الكردية في هذه المرحلة وبالتالي فعلى القيادات السياسية الكردية الحالية أن تتعامل مع هذه المسألة بكل جدية و إلا فإنها سوف ترتكب غلطة و(حماقة) – ونعتذر لاستخدامنا لهذا التعبير والمصطلح اللغوي – ما بعدها حماقة سياسية، ولسوف نعض أصابعنا ندماً حين لا يفيد الندم.
أما العامل الثاني فهو عامل ذاتي وهو الآخر له شقين: فمن جهة وكوننا (مؤخراً) من المهتمين بالشأن السياسي العام والكردي على وجه التخصيص رأينا أنه لزاماً علينا أن نساهم في هذه القضية لربما نضيف جديداً.
ومن الجهة الأخرى وبعد قراءتنا لعدد من المقالات تتعلق بالمسألة وقضية “المرجعية الكردية” في سوريا – كما أسلفنا سابقاً – و(وقوع) بعض الزملاء والأصدقاء من الكتاب والمثقفين في (مطبات) ومزالق ومهاترات ليست ببعيدة كثيراً عن روح سلوكيات أحزابنا والتي نعلنها للملأ ونحاربها في ذلك نهاراً جهاراً، فرأينا أنه من الواجب الأخلاقي والوطني أن نلفت انتباه أولئك الأصدقاء إلى تلك النقطة لعلى وعسى نتفق على بعض المسائل الجوهري الأساسية وأولها؛ حرية الرأي والتعبير، مهما كان ذاك الرأي مختلفاً معي، ومن دون المصادرة له واتهامه بالعمالة و(اللا- وطنية) والارتزاق وإلى ما هنالك من النعوت السياسية و(اللا- أخلاقية) والتي نعاتب الحركة السياسية الكردية على أنها تتبعها في سلوكياتها تجاه بعضها.
ولكي نخرج من العموميات وندخل في بعض الحيثيات وكمثال على هذه الروح (الحزبية – القبلية) في سلوكياتنا تجاه الآخر والتي اكتسبت صفة “الذاكرة الجمعية للشعوب” على حد تعبير عالم النفس؛ كارل غوستاف يونغ، فإننا سو نقف عند مقالتي كل من الأخوين العزيزين (مصطفى إسماعيل) و (بلند داوودي) وذلك في كل مقاليهما التاليين على الترتيب: “الكذبة الكردية الأخيرة: مرجعية كوردية” و “فليذهب المضللون وشعاراتهم إلى الجحيم”.
لعلنا نقف عند بعض المسائل والنقاط الحيوية والتي بحاجة إلى نوع من المراجعة النقدية في الذهنية والعقلية الكردية، وذلك قبل الوقوف عند مسألة “المرجعية الكردية”.
ما نلاحظه بدايةً؛ تلك الروح الهجومية (الانتقامية) ومن خلال العنوانين؛ حيث أن الأول ولربما نتيجة اليأس والإحباط من الحالة الكردية عموماً وعلى الخصوص من الحركة السياسية الكردية وأحزابها وقياداتها وسلوكياتها بدأ (يكفر) بكل ما هو كردي ليصل في النهاية إلى أن يلعن الجميع (أطراف الحركة الوطنية الكردية) ويدعي عليهم بأن يذهبوا هم ومرجعيتهم إلى الجحيم – وهو في هذه على حق ونتفق معه لدرجةٍ ما – ولكن ليست هكذا وبهذه (النفس وضيق الخلق) والعقلية تعالج القضايا الوطنية والسياسية وخاصةً الاستراتيجية منها ومسألة “المرجعية الكردية” تعتبر أولاها.
والأخ الآخر (بلند داوودي) لا يشذ عن القاعدة فهو الآخر يتعامل مع نص – مقال الأخ (مصطفى إسماعيل) بتلك الروح الثورية الواثبة والمتأهبة للدفاع (بشراسة) عن (المقدسات) الكردية – وما أكثرها للأسف – وهكذا فيلعن كاتب المقال (مصطفى إسماعيل) ويطرده من فردوس الأحزاب الكردية إلى جحيم (اللا – وطنيين) تناصاً وتماشياً مع لعنة الرب على إبليس، فالذهنية واحدة والجميع يلعن الجميع ويطرده من فردوسه إلى وديان الويل والجحيم، فكيف والحال هذه يمكن لنا أن نتفق على كلمة وتكون لنا مرجعية دينية سياسية أخلاقية وأخيراً أو أولاً لغوية على حد قول ومطلب الصديق (جان دوست) في مقاله أيضاً “المرجعية الكردية مرة أخرى”.
إننا لن نقف عند المقالين المذكورين بكل تفاصيلها ولكن سوف نحاول أن نستخلص أهم المسائل والنقاط الإشكالية التي تبحثانه وخاصةً مقالة الأخ (مصطفى إسماعيل) والذي – برأينا – قد وضع يده على مسائل جوهرية في الحالة الكردية وإن كنا نختلف معه في قراءتنا لأسباب البعض منها ودوافعها وبالتالي طرائق ووسائل علاجها.
ولكن والحق يقال فقد اجتهد وأصاب في البعض وأخطأ في البعض – وليس هناك من هو معصوماً عن الوقوع في الخطأ – وكان يستحق المكافأة وليس اللعن والطرد؛ إن كان من باب أنه أجتهد فأصاب وأخطأ أو من باب حرية الرأي والتعبير، كما أسلفنا.
ولكن وعلى الرغم من إيمانه (مصطفى إسماعيل) بضرورة المرحلة لبلورة العمل والحراك السياسي الكردي على شكل ورقة كردية واحدة موحدة واضحة المطالب والأهداف والبرامج لتشكيل ثقل سياسي حقيقي في الساحة السورية بحيث تكون من شأنها “إعادة القضية الكوردية إلى صلب الأولويات وإدراجها بزخم أكبر في الأجندة السورية بشكل مفارق لهزال الحالة الكوردية في إعلان دمشق” فإنه يائس من الواقع؛ واقع الحركة الوطنية الكردية ويعتبر تحقيق ذلك ضرباً من الأوهام والتهويمات والخزعبلات والمزايدات من قبل بعض المستفيدين لرفع هكذا شعارات على صفحات جرائدهم ومواقعهم الويبية؛ ليقول لنا: “مع كثيرين نسلم بأهمية تشكيل مرجعية كردية، ولكن أليس ذلك ضربا من الأوهام.
هل ذلك ممكن حقيقة وواقعا.
ألا يمت ذلك للهوبرات الحزبية الكردية بصلة.
ألا يبدو ذلك ضربا من الاتجار بالشعارات الفضفاضة للبقاء على قيد الكراسي والمناصب الحزبية المزمنة؟”.
لن نزايد على الأخ (مصطفى إسماعيل)ونقول إنكم تحاولون جر الشارع الكردي إلى المزيد من اليأس والقنوط وإنكم بهذه (العقلية الانهزامية) تخدمون مخططات السلطة الشوفينية و..
إلى ما هنالك من هذه النعوتات والتوصيفات الجاهزة في قاموسنا السياسي الكردي.
ولكن سنحاول أن نناقش بعض النقاط التي تم طرحها من خلال مقال الأخ (مصطفى) ومقال الرد للأخ (بلند داوودي) وقد وقفنا عند البعض منها في سياق حديثنا عن مسألة الرأي والرأي الآخر وحرية التعبير.
وأولى هذه النقاط وكما أكدنا فبل قليل أن نقبل الآخر؛ الآخر المختلف فكرياً سياسياً كان أم مذهبياً دينياً أم ثقافياً حضارياً أم اثنياً عرقياً كان، فمن دون هذا الشرط الأساسي والضروري لا يمكن لنا تجاوز حالة التشرذم والانقسام والاختلاف وتكوين “المرجعية الكردية”.
والنقطة الثانية والتي نريد التأكيد عليها؛ ألا وهي مسألة امتلاك (الحقيقة المطلقة) وبالتالي الحق في إسكات الآخر وكم الأفواه والنفي له والتنكيل به.
حيث من دون هذا الشرط؛ بأن الحقيقة مجزأة وموزعة بين الجميع، لا يمكن تجاوز حالة الضغينة والعنف والقتل على الهوية.
والنقطة الثالثة والتي يجب الأخذ بها هي؛ إن البلد للجميع وهو قادرٌ على ضمنا واحتضاننا جميعاً وذلك مهما كانت هوياتنا العرقية والدينية المذهبية والثقافية الحضارية وهو (أي البلد) بحاجة إلى تضافر كل الجهود والإمكانيات وهكذا أيضاً بالنسبة للحركة الوطنية الكردية؛ فهي بحاجة إلى جهود كل أبناء الشعب الكردي من المنضوين تحت لواء الحركة السياسية الكردية ومن مثقفين مستقلين ورجال دين واقتصاد وجماهير كوردية تتطلع لمستقبلٍ أفضل لأجيالها القادمة.
وتالياً التخلص من مفهوم الوصاية على الآخر وإرشاده على (العمل الصحيح والخيّر) وعدم اعتبار الآخر قاصراً غير بالغ وبالتالي أحقيتنا في رعايته والوصاية على ممتلكاته وحتى تفكيره ورأيه وأخيراً وليس آخراً إلغاء مفهوم الفيتو في التعامل السياسي وغير السياسي مع الآخر.
برأينا وضمن الشروط والمناخ الثقافي السابق والذي أشرنا إليه بإيجاز يمكن لنا كـ(نخب) سياسية وثقافية أن نفكر في خلق وإيجاد تلك “المرجعية الكردية” في سوريا.
أما اتهام الآخر؛ الثقافي للسياسي والسياسي للثقافي بالعمالة والارتباط مع الدوائر الأمنية وأيضاً الانتهازية و”حب الكراسي” والجبن السياسي بالنسبة للمثقف والهروب إلى الأمام وهكذا كلٌ منا يدعي أنه على الصواب والحق وما الآخر إلا كافراً زنديقاً عميلاً (حقُ فرنكين مع أنه لم يعد يتعامل مع الفرنك السوري وانته زمانه) فلن تكون هناك لا “مرجعية كردية” ولا من (لا) يحزنون.
مسألة أخرى نود التأكيد عليها؛ بأن لا تكون “المرجعية الكردية” هي غاية الغايات وكأننا بتحقيق هذه المرجعية سوف نكون قد وصلنا إلى العلاج الشافي والداوي لكل مشاكلنا وقضايانا، بل هي (أي المرجعية) ليست إلا وسيلة ومؤسسة سياسية جامعة لكل تلك الفعاليات العاملة في الساحة السياسية الكردية من أحزاب ومنظمات حقوقية مدنية ومثقفين مستقلين ورجال أعمال و..
الخ من الكوادر القادرة على تفعيل الحراك السياسي الكردي في هذا الإقليم.
وهكذا فلا يجب أن نُمضي السنوات والسنوات لعلاج هذه المشكلة (المستعصية) على الحل وبالتالي نلهي الجماهير الحزبية وغير الحزبية ولسنوات بهذه (القضية) كما ألهيناها بمسألة انقسام (أحزابنا) وأسبابها ودوافعها.
بل علينا أن نعمل وفق برامج سياسية واضحة ودقيقة ونحاول التقريب بين تلك البرامج السياسية بمشاريع سياسية مشتركة وخطوات عملية على ميدان التحرك الجماهيري.
وبرأينا أن هناك مجموعة عوامل وظروف في الساحة السياسية الكردية تحديداً والسورية عموماً– وعلى عكس المتشائمين من الحالة الكردية – تدفعنا إلى التفاؤل بأنه يمكن تحقيق “المرجعية الكردية” في أقرب وقتٍ ممكن وذلك ضمن المناخ الثقافي السياسي والذي أوجزناه سابقاً في بعض النقاط وأيضاً لتوفر عدة عوامل محركة محرضة وخاصة بهذه المسألة ومنها على سبيل الذكر وليس الحصر؛ الحاجة القصوى لآلية عمل مشترك “مرجعية كردية” تكون جامعة لكل تلك الفعاليات العاملة في الساحة وأيضاً الرغبة الجماهيرية العارمة لتحقيق تلك الغاية والهدف، ناهيك عن الدور الدولي والكردستاني وخاصةً تجربة إقليم كوردستان العراق وذلك ضمن سياسة المسامحة والمصالحة والتي توجت بالتحالف الكردستاني وإنجازاتها على كل من مستوى الإقليم وأيضاً المستويين الإقليمي والدولي.
وأخيراً العامل الوطني السوري وحاجتنا كقوى سياسية سورية أن نعمل ضمن مرجعية وطنية تأخذ بالبلد إلى حالة المواطنة الحقيقية وعلى أساس المساواة التامة بين أبناء هذا البلد.
وإضافة إلى كل ما ذكر – وحسب رؤيتنا وقراءتنا – لواقع الحركة السياسية الكردية في سوريا، فإننا نجد بأن هناك أرضية مهيأة لتوحيد الجهود والإمكانيات وذلك ضمن “مرجعية كردية” وخاصةً بعد أن تم تجميع بعض القوى والكتل السياسية الحزبية في (مرجعيات) كردية من خلال كل من الجبهة والتحالف وأيضاً لجنة التنسيق والعمل المشترك بين كل من الفصائل والتيارات التالية: حزب آزادي و تيار المستقبل وحزب الوحدة الديمقراطي الكردي (يكيتي) إضافةً إلى المؤتمرات والفعاليات التي تجرى في أوروبا وبهدف رص الصفوف وأخيراً وليس آخراً العمل مع حزب الاتحاد الديمقراطي على أسسٍ وطنية وديمقراطية تؤمن بالعمل الجماهيري السلمي والديمقراطي.
وبالتالي يمكن الانطلاق من هذه الكتل السياسية كخطوة أولى لتشكيل (جبهة) سياسية كردية عريضة؛ “مرجعية كردية” ومن ثم ضم جهود كل القوى الفاعلة الأخرى من منظمات حقوقية مدنية وثقافية فكرية وأيضاً رجل الدين والمال وحتى شخصيات اجتماعية اعتبارية.
حيث أنه وضمن هذه الآلية والمناخ الثقافي العام يمكن لنا أن نلتقي ونبحث في مسألة “المرجعية الكردية” و إلا فسوف نسمع الكثير – الكثير من الآراء والانتقادات التي تحمل الحركة السياسية الكردية وزر ما آلا إليها الحالة الكردية في هذا الإقليم الكردي.