ضبطُ الدَّعوى ضدّ مجهولٍ معلومٍ سوريّاً

خالد جميل محمد

المجهولُ في اللغةِ معلومٌ عند السوريينَ، والمعلومُ تجربةٌ يكادُ إدراكُ كُـنْهِها يقـتصرُ على السوريين في محنةِ وجودٍ فَـقَـدَ معنى الوجود، وكَـيْـنُونَـةٍ أُرِيْـدَ لها ألّا تُعاشَ إلا مُـفْـرَغةً من جَـدْوى الشعور الإنساني بها.

أمّا ضبط الدعوى فيقصد به كتابة تفاصيلها ووقائعها بما يعكِسُ الحفظَ الحازمَ للموضوع؛ بمعنى تسجيل أحداث القضيَّة بصورة يتمُّ إثباتها بالأدلة والبراهينِ، ليتسنى لصاحبها الدفاعُ عنها واستجرارُ الـمُـدانِ بإدانته إلى سيادة قانون غُيِّبَ ليكون للبطش وحدَه حضورٌ مُطْلَقٌ في تقييد مطْلق للحقّ، وإزهاقٍ للقيم الإنسانية النبيلة،
 بَـــيْــدَ أنَّ القضية التي تخصُّ السوريين هنا هي بين طرفين: أحدهما نظامٌ سياسيٌّ تَـطالُ ممارساتُـه وجودَهم، وثانيهما شعبٌ يَــنشد الحرية والخلاصَ من استبدادٍ ووحشيةٍ قلّما عهدَ التاريخُ مثيلاً لهما، في سعي إلى صيغةٍ أمْثلَ من إحدى صيغتين: الاستمرارِ في الحياة بكرامة، أو الموتِ / الشهادةِ بِعِزّةٍ تُضبَط دعواها ضدَّ مجهولٍ اسْتَـشْرَسَ في مواجهة عُزَّلٍ أرادوا ذات صحوةٍ أن يصرخوا بأشدّ ما يمتلكُون مِن تنديدٍ قُوبل بما جعل ذلك المجهولَ معلوماً انتقل به الواقع مِنْ يقينِ ما كان يُـزْعَم أنَّه (نظامُ دولةٍ!) إلى يقينِ ما هو كائن في مشهدٍ سوريٍّ انفتح على آفاق الفوضى والخراب والدمار والاشتعال.
الدعوى يرفعها أطفالٌ عصافيرُ ببراءَتِها، وضحايا من كبارٍ وجمادات وكائناتٍ عانَـتْ ما عانَـتْ من ويلات ضغائنِ أسيادٍ تَـيَـقَّـنوا مع إرهاصات الثورةِ فَـقْـدَ سيادتهم في ربيعٍ تجاهلوا عظَمةَ صانعيه ممَّن فُرضت عليهم الطاعة آماداً، فانتفضوا حين إذْ أُجبروا على الانتفاضة ردّاً لظُّلم فاقَ حدودَ الظُّلمِ.

هي دعوى تَـشْهَدُ عليها أعمالُ غَدْرٍ واغتيال في جهاتٍ يحتكُّ بها أزيزُ رصاصٍ تَـكَـفَّلَ إحداثَه مَنْ نابُـوا عن القَتَلةِ في تأدية مهمَّةِ إسكاتِ أيِّ صوت يأبى الرضوخَ لدويِّ المدافع وبراميل الانتقام والحقد وهي تنفّذ عمليات التصفية بحق شعبٍ أرادَها ممارسةً حقيقية للسياسة لا ممارسةَ تهديدٍ ووعيدٍ وتَـرَبُّصٍ بالعُزَّلِ والشرفاء من أفرادٍ أدركوا أن التزامَ الصمتِ مساهمةٌ بطريقةٍ ما في تسويغ الإرهاب وتسويقه، حتى أحيلت القضية، في نسختها السورية، إلى صيغةٍ سُجِّيَتْ بستائرِ وطنيةٍ زائفةٍ تكتنفها اتّهامات تخططها دوائر رقيب أمنيٍّ استبشر الناسُ خلاصاً منه، لكنها لم تلبثْ أنْ عاودت الاستئناس بالآمال والأحلام بعد أن استُـثْمِرَت شعارات الارتزاق الوطني الزائف لدى بعضهم خِدْمةً لزَعاماتٍ عاهدَتْ أولياءَها على الاستغراق في تشويه الحقائق والتنكيلِ بالمبادئ السامِيَة وحامليها ممَّنْ جُعلوا درايا خُـطَـطٍ يَــتِــمُّ رَسْمُها في مكاتبَ استخباراتية أحالت الوطن دَرِيَّـتها الأولى طعناً في قدسيَّته وترسيخاً لأبَـدِيَّةِ سيادةٍ غير مشروعة لسيّدٍ غير سيِّدٍ، وقائدٍ لم يكن قائداً.
وفي سياق توصيفِ نيابةِ القائمين مَقامَ مصادرِ القرار بتصفية المناضلين يتلخص فحوى الدعوى التي تخصُّ اغتيالَ أوفياءِ القضيةِ تحت عناوين (الخيانة!) التي يُنعَت بها الاختلاف في الآراء والمواقفِ في مُعجَمِ ما اسْــتَــعْــجَــمَ من توصيفٍ للحالة التائهة في فوضى مختلَقَةٍ، استمراراً لنهج أسيادٍ لم يقصّروا في واجبٍ أدّاه مُوالُونَ لم يدّخروا جهداً في سبيل إرضاء مرجعيّاتهم مقابل منافع عَـرَضيَّةٍ تُـثْـبِتُ الأحداثُ قابليتها للزوال آناً بعد آنٍ، وقد رفعت عنها حُجُبُ التنميق والزركشة التي أخذت طابعاً (ثَــوْرَجِـيّـاً) تفوح منه رائحة اغتيال الثورة بتصفية روّادها وحامليها على أيدي مجهولين يتمُّ ضبطُ الدعوى ضدّهم دون أن يعني ذلك أنَّ نبْضَ الحياة يكشف ما تستـتره الأقنعة في خيبةٍ يؤكِّدها رضوخ المتوارِينَ وراءها لسلطة أمرٍ واقعٍ ما عاد ينفع فيه ضَبْطُ أيِّ دعوى ضدَّ مجهول معلومٍ سوريّاً، أملاً في أنْ يكون للثورة ثمارُها كما كان ويكون لأتونها وقودٌ معلومٌ مِنْ نَمَطِ حياةٍ معلومة.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شكري بكر إن ما يحدث في سوريا ومنذ سقوط نظام بشار الأسد البائد من أحداث وتطورات سياسية وعسكرية بين السلطة الجديدة في دمشق بقيادة أحمد الشرع ومظلوم عبدي قائد قوات سوريا الديمقراطية ، وما إتفاق 10 آذار هو إتفاق عسكري وإداري لا علاقة له بالقضية الكوردية لا من قريب ولا من بعيد . فالبنود الثمانية التي وقع عليها كل…

شادي حاجي   إلى السياسيين الكرد، إلى المثقفين، إلى النخب في المجتمع المدني، لنكن واضحين منذ البداية: لا يوجد إنجاز كردي حقيقي في سوريا دون تغيير جذري في طريقة التفكير. وكل حديث عن مكتسبات أو انتصارات، بينما العقل الذي يدير المشهد لم يتغير، ليس سوى محاولة لتجميل الفشل أو تأجيل الاعتراف به.   التجارب السابقة لا تحتاج إلى مزيد من…

نحن، المنظمات الحقوقية السورية الموقِّعون أدناه، نتابع ببالغ القلق والاستنكار الجريمة الخطيرة التي تعرّض لها المدنيون في حي وادي الذهب بمدينة حمص، حيث تشير المعطيات الميدانية الأولية، وشهادات السكان المحليين، والمواد المصوَّرة المتداولة، إلى وقوع تفجير إرهابي داخل جامع علي بن أبي طالب التابع للطائفة العلوية، أثناء تواجد عدد كبير من المدنيين المصلِّين داخله، ما أدى إلى سقوط ضحايا مدنيين…

صلاح بدر الدين تدعو الكاتبة سميرة المسالمة، في مقالها “مواطنون في دولة سورية… لا مكوّنات ولا أقليات” (“العربي الجديد”، 22/12/2025)، إلى “مجتمع من المواطنين… يتحرّرون من الإرث الثقيل الذي خلفه النظام الأسدي باستعادة دورهم ذواتاً فاعلةً، وبناء الثقة المتبادلة فيما بينهم، من خلال تعريف أنفسهم شعباً واحداً لا مكوّناتٍ ولا أقلياتٍ متفرّقة، وتعزيز هُويَّتهم مواطنين لا رعايا”. وتضيف: “فالجماعات الإثنية،…