اليسار العربي والخطاب الموقوف !

دهام حسن

 

إن سقوط النموذج السوفيتي للاشتراكية، في كل من الاتحاد السوفيتي وأوربا الشرقية كان بمثابة كارثة على الفكر الاشتراكي، وترك آثاراً سلبية عميقة على حياة الحركات اليسارية في العالم العربي عموماً، ولا يخفى أن هذه الحركات تعاني اليوم حالة من الحرج والإرباك والهلهلة الفكرية والتنظيمية… فلم يصمد أمام هذا الزلزال، ولم يتقبل نتائجه سوى جماعات في تلك الحركات و(الراسخون في العلم) حتى طاب لبعضهم أن يروجوا لفكرة يتداولها المتحاورون في نقاشاتهم تقول: لقد ماتت الاشتراكية في عقر دارها، فلماذا أنتم تتشبثون بأفكار لم تصمد أمام الواقع؟

 

من هنا يحدوني القول، إن هناك أموراً كثيرة يجب أن، تتنبه لها تلك الحركات، فهي لم تعد قادرة أن تتحصن في أطر حلقية مسيّجة بجدار صيني، فأمام الثقافة الحديثة وثورة المعلومات، والقنوات الفضائية..

انكشف الغطاء وتعذر بالتالي على تلك الحركات أن تتلفع بالظلام، فقد أصبحت مراقبة بكل جوانبها العملية، من الآخرين، تسلط عليها الأضواء وتتكشف ماهيتها… إن مجابهة الواقع الجديد تقتضي من تلك الحركات تطوير الأفكار وتحسين الأداء، فما آمنت به تلك الحركات من أفكار، هي أيضا جزء من الواقع المتغير، وبتغير الواقع تتغير الأفكار، فلا يمكن مواكبة واقع جديد إلا بمبادىء وأفكار جديدة، ولكن ما يؤخذ على تلك الحركات أنها مازالت تعزف على وتر خطاب متخلف قديم يفتقد الديمقراطية وتسد باب الحركة والاجتهاد أمام أعضائها، إلا من ( شذّ ) منهم.

وكأني بقيادة هذه الحركات، قد داخلها الرعب، من هذا الواقع الجديد المتجدد، ومن هذا الانقلاب في كثير من المفاهيم والقناعات، وشعرت أن ما بنته خلال عقود من كيان فكري، بدأ يتزعزع، وبدل أن تتعظ قيادة تلك الحركات بنتائج ما حصل، والتعامل مع الواقع الجديد بتفهم وشفافية، آثرت- للأسف- تمثل قول الإمام الغزالي: (السلامة في الإتباع، والخطر في البحث….) وراحت على منوالها القديم تشدّد على مقولات جامدة فقدت بريقها وجاذبيتها، ودون حوامل اجتماعية تتقبل تلك المقولات، فالجماهير تقيّم الحركات من خلال ما تفعل وما تمارس، لا من خلال خطاب غير مترجم على صعيد الواقع.

الجماهير مطلعة على واقع تلك الحركات وحتى على حياتها الداخلية، ولا ينطلي عليها إيهامها بأن كل شيء على ما يرام..

لا بد من المكاشفة، والمصارحة النقدية مع الذات، مع التذكير بأن هؤلاء (الذين يطالبون بسور الصين) لا يطالبون به إلا (من أجل صيانة مصالحهم) حسب تعبير لينين..

ما زال الخطاب كما هو مغلفاً برداء فضفاض ينطوي على العموميات دون أن يلامس القضايا الجوهرية الملحة التي تهم الجماهير الكادحة الفقيرة..

إن تصعيد اللهجة في القضايا الوطنية والقومية (الاستعمار، الصهيونية، الوحدة، الأمة، الاشتراكية.) وعدم التركيز على القضايا الاجتماعية الملحة (الفساد، القمع، الاستبداد، الديمقراطية، حقوق الإنسان… الخ) هو هروب من استحقاقات النضال، وما عاد ينطلي على أحد هذا التماهي في طرائق النضال (البعيد ملحوظ والقريب ملفوظ).

 

يحكى أن خادمة (طاليس ) سخرت منه عندما رأته يسقط في جبّ وهو يرسل ببصره بعيداً نحو الأفق محدقاً في النجوم قائلة..

كيف يبحث في الأفق البعيد البعيد (وهو المتعثر في القريب المباشر) وفي مواقف كهذه قد تكسب قيادة تلك الحركات رضا الفئات الحاكمة، إلا أنها تخسر ثقة الجماهير فمن يأكل من مال السلطان يحارب بسيفه كما يقول المثل.

لهذا ينبغي أن نتنبه لهذه المعادلة، لهذه المفارقة: ودّ السلطة أم ثقة الجماهير، مذكراً هؤلاء بقول ماركس (كلما زادت قدرة الطبقات الحاكمة على استيعاب أبرز رجال الطبقة المحكومة زاد حكمها رسوخاً وخطورة) من ضمن هؤلاء من يتدثرون بعباءة الماركسية، يجتزون أفكاراً وعبارات لكلاسيكيي الماركسية من سياقها التاريخي ثم يخضعونها لتحليلاتهم ومقاساتهم لتبرير مواقف خاطئة، فيتحسس المتابع إن قيادة تلك الحركات، أصحاب المشاريع الفكرية قد تخلت عن برامجها، وتراجعت عما وعدت به، فغدوا يشددون على القضايا البعيدة، ويخففون من نبرتهم في معارضة سياسة الفئات الحاكمة الفاسدة في بلدانهم : لا تثيروا هذه المسألة لأن هناك ضغطاً أجنبياً..

لماذا إثارة هذه القضية وفي هذا الظرف بالذات؟ وتظل هذه الحجج المخوفة لا تنقطع ومسلطة كسيف (ديمقليس) على رقاب أية حركة لو تجرأ بعض أعضائها فأثاروا مسألة اجتماعية ما، لكي نظل منشغلين دائماً بقضايا السياسة الخارجية ولا نرى فسحة لطرح قضايا اجتماعية داخلية والتي هي الأهم برأيي، وهي التي تعزز المواقف وتوحدها من المسائل المتعلقة بالسياسة الخارجية، فقد أصبح (خداع جماهير الشعب بشأن (قضايا) السياسة الخارجية قد ارتفع إلى مستوى فن ) عند هؤلاء كما يقول لينين.مجرد رأي….

على جهود فئتين اجتماعيتين تنعقد الآمال :
1- على طاقات الكوادر الشابة الواعية، المسلحة بالعلم والمعرفة، يتوقف الكثير من الإصلاحات والدفع نحو التطوير والتغيير، فهي المرشحة أن تشكل عامل ضغط داخل تنظيماتها.
2- وهذا الأمر مرهون وملازم بجهود النخبة الفكرية المثقفة داخل هذه الحركات أو خارجها، لتعميق الفكر وتغليب الجانب المعرفي على الأداء السياسي اليومي، وهذه الجهود لا بدّ أن تثمر في النتيجة عن تحرر تلك الحركات من رصد الفئات الحاكمة لها، ومن هيمنة الخطاب المتخلف أيضاً، وتنتهي بهذا فترة توقيف الخطاب السياسي لينطلق في فضاءات الحرية دون قيود.

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

د. محمود عباس كوردستان ليست خريطة معلقة على الجدار، ولا نشيدًا قوميًّا يُتلى في المناسبات، ولا لهجة تُنطق في وادٍ دون وادٍ آخر، كوردستان هي وحدة الوجع، وحدة الدم، وحدة الجبل الذي احتضن الثائر، ووحدة الأم التي ودّعت أبناءها في جميع جهاتها الأربع دون أن تسأل، من أي جزء أنتم؟ لكنّ المأساة الكبرى لم تكن فقط في احتلال…

جليل إبراهيم المندلاوي   في خبر عاجل، لا يختلف كثيرا عن حلقة جديدة من مسلسل تركي طويل وممل، ظهرت علينا نشرات الأخبار من طهران بنغمة هادئة ونبرة مطمئنة، تخبرنا بأن مفاوضات جديدة ستعقد بين إيران وواشنطن، هذه المرة في “أجواء بناءة وهادئة”… نعم، هادئة، وكأنها نُزهة دبلوماسية على ضفاف الخليج، يتبادل فيها الطرفان القهوة المرة والنظرات الحادة والابتسامات المشدودة. الاجتماع…

إبراهيم اليوسف بعد أن قرأت خبر الدعوة إلى حفل توقيع الكتاب الثاني للباحث محمد جزاع، فرحت كثيراً، لأن أبا بوشكين يواصل العمل في مشروعه الذي أعرفه، وهو في مجال التوثيق للحركة السياسية الكردية في سوريا. بعد ساعات من نشر الخبر، وردتني رسالة من نجله بوشكين قال لي فيها: “نسختك من الكتاب في الطريق إليك”. لا أخفي أني سررت…

مع الإعلان عن موعد انعقاد مؤتمر وطني كردي في الثامن عشر من نيسان/أبريل 2025، في أعقاب التفاهمات الجارية بين حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) وأحزابه المتحالفة ضمن إطار منظومة “أحزاب الاتحاد الوطني الكردي”، والمجلس الوطني الكردي (ENKS)، فإننا في فعاليات المجتمع المدني والحركات القومية الكردية – من منظمات وشخصيات مستقلة – نتابع هذه التطورات باهتمام بالغ، لما لهذا الحدث من أثر…