زاهدة رشكيلو: أكثر من مُجرد إمرأة

حسين جلبي


قد يظن البعض، ممن لا يعرف تلك المرأة الحديدية زاهدة رشكيلو، أن الصدفة وحدها، أو القضاء و القدر هو من قادها قبل عامٍ من الآن إلى ذلك المنزل الذي تواجد فيه الشهيد مشعل تمو حيث جرى إغتياله، و إن ما أصابها من رصاصٍ خلال تلك العملية الدنيئة، و التي سببت لها جروحاً لم تندمل بعد، كانت مُجرد رصاصاتٍ طاتشة أخطأت الهدق الحقيقي للقتلة، أو في أحسن الأحوال نتيجة رد فعلٍ إنساني، عندما لم تجد شيئاً تفعلهُ لشخصٍ عزيز سوى إلقاء نفسها أمامه لحمايته، و لمنع المزيد من الرصاص الغادر من إختراق جسده الطاهر.
لكن التعرف عن قرب على السيدة رشكيلو يكشف خطأ ذلك الإنطباع، و يفتح أعيننا على مناضلة صُلبة لا تقل وعياً عن اللواتي قرأنا عنهن في كُتب التاريخ، ممن غيرن أقدار شعوبٍ و دولٍ بأكملها، فتم تخليد ذكراهن بإطلاق أسمائهن على الأماكن و الجادات و الشوارع، أو على الأقل من طراز مناضلات اللواتي تعرفنا عليهن في أيامنا هذه، ممن حصدن الجوائز المختلفة، مثل نوبل و غيرها، من هنا و هناك، حيث لم يحتج بعضهن لذلك سوى إلى عملٍ واحد، أو جهد فترة زمنية محدودة، بعكس زاهدة، التي لا ينحصر كفاحها في عملٍ واحد بل في مسيرة كاملة إمتدت على مدى سنين عُمرها.
الإستماع لزاهدة يكشف لنا عن إمرأة خَطَت بوعي كل خطوة في مسيرتها النضالية الشاقة، و ذلك مُنذ نعومة أظفارها، عندما بدأت معركة إثبات الذات ضد العادات و التقاليد البالية التي حصرت دور المرأة في العيش في ظل رجُلٍ ما، و التي إذا ما تمكنت ما من الإفلات مؤقتاً من هذا القدر اللصيق، فإن ذلك قد يكون لمُدة قصيرة لا تتجاوز في أحسن الأحوال سنين قليلة، لتعود بعدها ـ إذا كانت محظوظةً ـ إلى حظيرة رجُل يرضى بها بعد إعادة تأهيلها، بعد أن تتلوا عليه مدونة الندم.
كانت زاهدة مُجبرة و منذُ اليوم الأول الذي إختارت فيه طريقها الخاص على خوض معركتها ضد الإحباط على عدة جبهات، كانت إحداها و ربما أصعبها ـ و لسوء الحظ ـ ضد نساءٍ لم يرتضين لأنفسهن سوى لعب دور الديكور في مملكة الرجل، فوقفن ضد مُجرد تفكير إحداهن على التمرد على هذا الدور المرسوم.

كانت المعركة السياسية تتطلب منها كذلك القفز على الحواجز الإجتماعية (و المؤامرات) التي يضعها الرجال أنفسهم في طريق بعضهم البعض، و بصورة أكثر قسوةً في طريق النساء التي يصعب عليهن لذلك إرتقاء سلم المسؤولية و أخذ الدور الذي يتناسب مع حجمهن الحقيقي.

لكن قبل ذلك كانت أشرس المعارك هي ضد الإشاعات التي تدور رحاها في وسط إجتماعي هش يكاد ذهاب الفتاة فيه إلى المدرسة يصبح مستحيلاً، فكيف بالخروج في مواعيد غير منتظمة أو محددة و أحياناً غير ملائمة إلى شؤون حزبية و نضالية في أماكن بعيدة و ربما غير معروفة لدواعي سرية العمل.
و رغم كل هذه المعارك التي واجهتها المناضلة زاهدة، و التي كان الأهل طرفاً في بعضها، في البداية كممتعضين من إختيارات إبنتهم، و فيما بعد كمُضطرين و في كل حينٍ لرد العدوان عنها لكي تتفرغ لشأنها الذي نذرت نفسها له، إلا أن ذلك كله لم يمنعها من دخول الحقل الشائك الذي إختارته لخدمة شعبها، و لم يثبط عزيمتها، و لم يدفعها يوماً للتفكير بالتراجع أمام التحديات الكثيرة، و لم يحرفها عن معركتها الرئيسية ضد الظلم الواقع على بني قومها، رغم أن الثمن كان باهظاً، و كان أحد مظاهره إستدعاءات أمنية متكررة، و حرق أيامها و سنين عمرها لأداء رسالتها، حتى وصل بها الأمر إلى التضحية بنفسها في محاولةٍ لإنقاذ مناضلٍ كُردي يصعب أن يجود الزمان بمثله ثانيةً.
زاهدة رشكيلو سيرةٌ حية لمناضلٍ عظيم، المطلوب فقط قرائتها بحكمة و ضميرٍ حي، و عندها سنكتشف مقدار الظلم الذي نلحقهُ بأنفسنا و بتاريخنا و ذلك عندما نستورد أسماءً من وراء الحدود و من كتب التاريخ، لنضيف إليها الكثير من خيالنا المتعطش للبطولة، في حين أن بين ظهرانينا بطلٌ يسير على قدمين، إذا كانت إحداهما قد أُصيبت في سبيل هدفٍ نبيل فلا ينبغي علينا تحطيم الأُخرى بجهلنا و تجاهلنا.
حسين جلبي
jelebi@hotmail.de
14.10.2012  
فيسبوك:
https://www.facebook.com/notes/hussein-jelebi/%D8%B2%D8%A7%D9%87%D8%AF%D8%A9-%D8%B1%D8%B4%D9%83%D9%8A%D9%84%D9%88-%D8%A3%D9%83%D8%AB%D8%B1-%D9%85%D9%86-%D9%85%D9%8F%D8%AC%D8%B1%D8%AF-%D8%A5%D9%85%D8%B1%D8%A3%D8%A9/511839518827423
 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي القضية الكردية في سوريا ليست قضية إدارية تتعلق بتدني مستوى الخدمات وبالفساد الإداري وإعادة توزيع الوظائف الادارية بين المركز وإدارات المناطق المحلية فإذا كان الأمر كذلك لقلنا مع من قال أن المشكلة إدارية والحل يجب أن يكون إدارياً وبالتالي حلها اللامركزية الادارية فالقضية الكردية أعقد من ذلك بكثير فهي قضية شعب يزيد تعداده على ثلاثة ملايين ونصف تقريباً…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية ومع مناصري ثقافة التسامح واحترام حقوق الانسان ومع أنصار السلم والحرية، نقف مع السوريين ضد الانتهاكات الجسيمة والاعتداءات الصريحة والمستترة على حقوق الانسان الفردية والجماعية، وسياسات التمييز ضد المرأة والطفل، وضد الأقليات، وضد الحرب وضد العنف والتعصب وثقافة الغاء الاخر وتهميشه، وتدمير المختلف، والقيام بكل ما…

نحن، المنظمات الحقوقية الكردية في سوريا، نهنئ الشعب السوري، بجميع مكوناته وأطيافه، على إسقاط نظام الاستبداد، إذ تمثل هذه الخطوة التاريخية ثمرة نضال طويل وتكاتف الشعب السوري ضد آلة القمع، وهي بلا شك نقطة انطلاق نحو بناء سوريا المنشودة. إن سوريا الجديدة، بعد إسقاط النظام البائد، تدخل مرحلة حاسمة، وهي مرحلة البناء والسلام والصفح. لذا، ينبغي أن تسود فيها العدالة…

خليل مصطفى بتاريخ 22/2/1958 (شهر شباط) تم التوقيع على اتفاقية الوحدة (بين مصر وسوريا)، حينها تنازل رئيس الجمهورية السُّورية شكري القوتلي عن الرئاسة (حكم سوريا) للرئيس المصري جمال عبد الناصر (طوعاً)، وقال لـ (جمال عبدالناصر): (مبروك عليك السُّوريون، يعتقد كل واحد منهُم نفسهُ سياسياً، وواحد من اثنين يعتبر نفسهُ قائداً وطنياً، وواحد من أربعة يعتقد بأنهُ نبي، وواحد من عشرة…