دورُ المثقفين ودورُ أرباب السلطة: تركيا أنموذجاً

 

مصطفى إسماعيل
الكثيرُ عن الأدوار التي قام بها, ومن المفترض أن يقوم بها المثقف قدّمها المفكر الراحل إدوارد سعيد, لا سيما في مجموعة محاضراته في ريث سنة 1993, والتي ترجمت لاحقاً إلى العربية وقُدّمت على شكل كتابٍ بعنوان: صور المثقف.
إحدى مهام المثقفْ برأي سعيد هي ” بذل الجهد لتهشيم الآراء المقولبة والمقولات التصغيرية, التي تحد كثيرا من الفكر الإنساني والإتصال الفكري “.

و برأيه أيضاً ” المثقفون الحقيقيون لا يكونون أبدا في أفضل حالاتهم النفسية إلا عندما تحركهم عاطفة ميتافيزيقية ومبادئ الحق والعدل النزيهة, فيشجبون الفساد, ويدافعون عن الضعيف, ويتحدون السلطة المعيوبة أو القمعية “.

وهو يستشهدُ على ذلك بأمثلةٍ من جوليان بندا عن حراك فئة المثقفين.

منهم على سبيل المثال لا الحصر شجب الأسقفين فينيلون وماسيّون لحروب الملك الفرنسي لويس الرابع عشر, وشجب ارنست رينان لحروب نابليون, وشجب باكّل لموقف بريطانيا المتعصّب من الثورة الفرنسية, ولا ينسى بطبيعة الحال التذكيرَ بموقف نيتشه من الوحشية الألمانية تجاه فرنسا في حروبهما على الألزاس واللورين.

 

تلكم المواقف ذات الأخلاقية العالية.

ذات المثالية المرغوبة تُحيلنا إلى غياب المثقف ودوره المطلوب في قضايا منطقتنا, وهو ما يفسحُ في المجال لتراكم الذهنيات الإقصائية, وسيطرتها على الفضاء المجتمعي وتكليسه بشكل مزمن, الأمرُ الذي يسهم في زيادة حدّة القمع والعنف والحرمان والتجريد الأخلاقي وتقسيم المجتمع ونفي الحقيقة أو تغييبها واستمرارُ عالمٍ تقليدي هو عبارة عن غابة ومدينة غير فاضلة.
يتوقف على المثقف باتخاذه لمواقف أخلاقية ونقدية وتشريحية لواقعه المرفوض أن يسهم في التهيئة لعالم آخر مختلف ومستقبل مأمول, ولا يُقصد بذلك طبعاً أن يتحول المثقف إلى صيغة تبسيطية للالتزام المروّج له في الأنظمة الأيديولوجية والأحزاب الأيديولوجية.

المقصدُ هو تحرك المثقف الذي يهجس بالحقيقة وتوجهه الحقيقة فقط والاضطلاع بعبء المساهمة في إزاحة كل ما يدمر العقل, وبالتالي المجتمع كهدفٍ تنويري بناءً على وازعٍ أخلاقي.
التحرك الأخير من البعض الثقافي والمؤسساتي الكوردي والتركي في تركيا مؤخرا, عبر مؤتمر القضية الكوردية في أنقرة تحت شعار ” تركيا تبحث عن سلامها ” يدخل برأينا في الإطار ذاك عن الدور المفترض للمثقفين حين ترتفع أصوات طبول الحرب في تركيا, وتنذر باضمحلال السلام الداخلي في انقلابٍ على قيم العصر الذي نعيش بين دفتيه, فالكثير من البلدان والأمم والشعوب أدارت ظهرها للإيديولوجيات القومية الصاخبة التي شرّعت العنف وكانت الخسائر لا توصف كنتيجة متوقعة, والدولة التركية إلى جانب دولٍ أخرى في المنطقة لا تزال أسيرة الدوغمائية القومية والإيديولوجية القومية المفوّتة.
النداءُ الموقّع من 300 شخصية ذات توجهات سياسية وثقافية الذي كان بمثابة بيانٍ ختامي صادر عن المؤتمر.

النداءُ النابذُ للعنف والأدوات العسكرية لحلِّ القضايا التي تضاعف من المآسي وتضر ولا تنفع, ويدعو إلى السلام والحوار وقولِ: لا للموت ولا للحرب, ويقدم وجبة من الاقتراحات التي من شأنها المساهمة في الحل المأمول يذكرنا ولا شك بمآثر التنويريين في الغرب الذين كانت لمواقفهم العقلانية الدور الأكبر في إشادة هذا المعمار / الأمثولة في الغرب, والذي هو قوةُ جذبٍ لنا نحن الذين لا نزالُ نحبو في خرائط العدم والدم والعنف والإبادة.
في موازاة المؤتمرين في أنقرة هنالك مثقفو الأيديولوجية الطورانية الراجمون بالحجارة والرصاص, وهم – والحقُ يقالْ – متطرفون وصقوريون وغلوائيون أكثر من جنرالات المؤسسة العسكرية.

يكفيك للوصول إلى هذه القناعة مجرد تصفّح بعض مواقع الصحف التركية, أو بعض المواقع الإلكترونية.

أقليةٌ فقط  من المثقفين الأتراك الشرفاء يبحثون عن الحلول السلمية للقضايا فيما الغالبية العظمى عسكريون أكثرَ من العسكر, ودلالةُ ذلك ما نشهده في الآونة الأخيرة من ارتفاع وتيرة التضليل الإعلامي والسياسي في تركيا إلى درجةٍ غير مسبوقة لا سيما إذا ما كان الأمر متعلقاً بملفِّ كركوك.
في الحالة التركية اليوم هنالك إذن مثقفون وسياسيون يبحثون عن كسر الحصار المفروض على المجتمع في الداخل, وهنالك في المقابل عسكر وساسة أشبه بالعسكر كل مسعاهم أن يستمر الطوق المفروض ويدوم الحصار الداخلي.
في الحالة التركية اليوم هنالك من يطرح قوانين عرض وطلب من أجل الديمقراطية والحلول السلمية, وهنالك من يصر لا زال على العرض والطلب من أجل العسكريتاريا وترتيبها العنفي للداخل.

في تركيا اليوم هنالك من يخاف من المستقبل / المجهول, وهنالك من يسعى إلى احتضان المجهول / المستقبل.

وفي تركيا اليوم ثمة من يعمل بناء على مفهوم تعبئة وحشد الرأي العام من أجل عالم أكثر دموية, وثمة من يعمل بناء على استراتيجية المشاركة.

 

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

خالد بهلوي تحت شعار “وقف العنف والتهجير – العيش المشترك بسلام”، وبمبادرة من مجموعة نشطاء من الشابات والشباب الغيورين، شهدت مدينة إيسين الألمانية يوم 21 ديسمبر 2024 وقفة احتجاجية بارزة للتعبير عن رفض الاحتلال التركي والتهديدات والانتهاكات التي يتعرض لها الشعب الكردي المسالم. الحضور والمشاركة: حضر الفعالية أكثر من مائه شخصً من الأخوات والإخوة الكرد والألمان، إلى…

د. محمود عباس ستكثّف الولايات المتحدة وجودها العسكري في سوريا وستواصل دعمها لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) والإدارة الذاتية. تدرك تركيا هذه المعادلة جيدًا، وتعلم أن أي إدارة أمريكية قادمة، حتى وإن كانت بقيادة دونالد ترامب، لن تتخلى عن الكورد، لذلك، جاء تصريح أردوغان بعد عودته من مصر، ووزير خارجيته من دمشق اليوم كجزء من مناورة سياسية تهدف إلى تضليل الرأي…

شادي حاجي المرء لا يذهب إلى طاولة المفاوضات وهو خالي الوفاض وإنما يذهب وهو متمكن وقادر والمفاوض يكشف أوراقه تدريجياً تبعاً لسير العملية التفاوضية فعند كل منعطف صعب وشاق يقدم المفاوض بطريقة أو بأخرى معلومة ولو صغيرة حول قدراته على إيقاع الأذى بالطرف الآخر من أجل أن يكون مقنعاً فعليه أن يسأل عن مقومات الندية والتي تتركز على مسألة القوة…

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…