كذبة نيسان …

 بقلم : أسعد حيدر

كذبة نيسان ,April’s Fool , أو كما يطلق عليه الإنجليز يوم جميع المغفلين والحمقى All Fools Day , وفي هذا اليوم يتم تبادل الكذب الأبيض الذي قد يتحول أحيانا إلى جد ومآسي لا تحصر,ولاسيما إذا كانت الكذبة من نوع الكذب الذي عانينا وشبعنا وأتخمنا منه.

ولا يعلم أحد بالضبط ما هو الأصل الحقيقي لهذا الطقس الإنساني الذي انتشر مع تقدم العولمة في جميع أنحاء العالم ,كونه موجود في تراث الحضارات القديمة.ومهما يكن من تفسيراته وتأويلاته الكثر فإنه يمكن استخلاص أنه ارتبط إلى حد كبير بالربيع وحلول فصل جديد بالسنة ,من الأجدر أن يتبعه بعض الطقوس والاحتفالات غير المألوفة, حتى لو كان الكذب أحدها.وكان شهر أبريل نيسان هو أول شهر بالسنة بدلا من شهر يناير كانون الثاني عند الفرنسيين.

ومن أشهر كذبات نيسان الجماعية ما حدث في أول ابريل أن إحدى الجرائد الإنجليزية نشرت إعلانا في 31 مارس (آذار ) سنة 1846 زاعمة أن غدا- أول ابريل – سيقام معرض حمير عام, فهرع الناس لمشاهدة الحمير التي يبدو أنها كانت “نادرة” في تلك الأيام ,وتجمهروا بكثرة, وظلوا ينتظرون ، فلما أعياهم الانتظار سألوا أين هي الحمير”الرائعة” التي أتوا ليمتعوا ناظريهم بها, ولكن لم يتلقوا جوابا شافيا, وعندما فقدوا الأمل في مقابلة الحمير الطبيعية, التي لم ولن تأتي ,أدركوا بأن الحمير البشرية هي المقصودة,فأقفلوا عائدين يجرون وراءهم ذيول الخيبة,ومرارة الحماقة.
 
ولو ابتعدنا قليلا في التحليل النفسي لهكذا ظواهر سايكو سوسيولوجية لعلمنا أن النفس البشرية تواقة, وترغب بكسر المألوف ,والخروج عن “الطور” الرتيب المعهود ,والتقاليد الصارمة ,التي تكبل أحيانا انطلاقة العقل وتوثبه نحو آفاق جديدة.ولو كان ذلك أحيانا عن طريق أخلاقيات وسلوك وتصرفات تتنافى مع المبادئ والقيم كالكذب مثلا.وهذا يعطي انطباعا ضمنيا,ولو كان غير جازم,بأن هؤلاء الناس لا يكذبون, ويرون في الكذب خروجا عن التقاليد والمبادئ المعروفة.ولو تتبعنا سلوك هذه المجموعات البشرية, وتاريخها الحضاري, والمدى الذي وصلت إليه من رقي, ومدنية ,لأدركنا أن في هذا الكلام شيئا من الصحة.إذ لا يعقل أن يقوم هذا النظام المتكامل, والمتناسق علميا ,وحركيا,وفكريا,وتنظيميا ,وسلوكيا وانضباطيا,وبهذه الدقة المتناهية والصارمة أحيانا, على الكذب والخداع والرياء على الإطلاق.وإلا لانهارت هذه المنظومة المتطورة, والمعقدة فورا ,ولجلبت معها الكوارث والمصائب.وهذا الكلام ينطبق على ما نراه ,ونتابعه حتى الآن,أما ماذا يحصل في المستقبل من تطورات,وفيما إذا نحا أولئك القوم منحى مغايرا,وأدمنوا الكذب والخداع, فذلك أمر آخر تماما.وهنا لابد من التذكير أنه لا يمكن التعميم أبدا بحال من الأحوال.وكل ذلك هو في مجمل الأحوال, يقع ضمن إطار التعويض الإنساني عن حالات نفسية ,وسلوكية مفقودة,يلجأ الإنسان لتعويضها بشتى السبل ومنها مثلا إيجاد يوم للكذب كون الناس يعيشون حالات دائمة ومستمرة و”مملة”أحيانا من الصدق والعفوية.هل هذا الكلام معقول وصحيح؟ربما.
 
ولو اتجهنا إلى مكان آخر من العالم,تعرفونه جيدا, لوجدنا أن الناس لا تقيم وزنا, ولا تحتفل بيوم الكذب هذا,لأن كل أيام السنة,والشهور ,والساعات ,والدقائق عندها كذب بكذب,وهناك مهرجانات دائمة وقائمة للكذب, وبتمويل ومباركة ورعاية رسمية لحفلات الكذب الكبرى المستمرة بلا انقطاع وخاصة في الأبواق الرسمية ووسائل الإعلام.

ويستشعر الناس الحاجة الفعلية السيكولوجية المفقودة للصدق, ولو لثانية ,أو دقيقة واحدة .فالكذب وارد وحاصل في كل شيء,في كل نشرة أخبار,وصحيفة,وتصريح ,وقرار,ومعلومة,وإحصاء,وبيان,ودراسة رسمية,ومشروع يعرض لتقييم الأداء,وفي شعارات الأحزاب,وخطط الوزارات,واجتماعات المسؤولين,والخلوات ,والبيانات,والتقارير الصادرة من كل الهيئات,وكله مواربة ,وتدليس,وتجميل ,ونفاق,حتى الضحكات والابتسامات فيها تكلف ,ومجاملة ,وتصنع,ورياء,ولا تبدو عفوية وصادقة ,وتخبئ الكثير من الترصد ,والرغبة في التشفي ,والمكر ,والدسيسة والخداع.


 
وما هي حكاية النفي هذه الأيام, التي يستخدمها يوميا كثيرون من رجال السياسة,والناطقون الرسميون الأشاوس في كل وسائل الإعلام؟فلا تكاد تمر ساعة أو يوم, إلا ويقوم أحد ما, بنفي شيء ما, في مكان ما, عن فعلة ,أو انتهاك,أو خبر ما؟هل يحدث هذا مصادفة أم أن النفي,ودفع التهم والإنكار,عادة لاتشمل إلا الذين يقومون بأفعال سوداء, ويحاولون تكذيب ما يقوله الآخرون عنهم,في نيسان ,وشوال ,وذي القعدة ,ورمضان ,وفي كل فصول وأيام السنة الأخريات.
 
فحين يتكلمون عن الحب, فاعلم أنهم يضمرون الحقد,وحين يتحدثون عن الكرامة, فاعلم أن السائد هو الذل والهوان,وحين يتنطحون للتحرير فاعلم بأنهم مهزومون ومدحورون في كل المنازلات,وحين يدلون بتصريحات عن التفاهم و”تطابق وجهات النظر” ,فاعلم أنهم مختلفون ,وحدث خلاف وشجار ,ولبط ,وشد شعر ,وشتم ,وسباب,وحين يشيدون بالديمقراطية وبالحريات, فاعلم أن السجون مليئة بالمعتقلين والسجناء,وحين يتحدثون عن الوحدة والتضامن والأمة, فاعلم أن التشرذم والانشطار حاصل ووشيك وقادم وآت ,وحين ينظّرون عن الإصلاح ,فاعلم أن التدمير والتخريب يجري على قدم وساق,وعندما “يحرزون” تقدما ,فتأكد أنهم سجلوا تراجعا,وعندما يجري الكلام عن مشاريع وأحلام وبناء,فاعلم أن كل ذلك من أجل النهب, وملء جيوب المحظيين, واللصوص الكبار, وحين يوقعون اتفاقا فاعلم أنهم سينقضوه ويتنكروا له غدا قبل حلول الصباح,وحين يدّعون النجاحات هنا وهناك, فاعلم أن الفشل والإخفاق الذريع هو ما جنته تلك السياسات, وحين يطلقون المبادرات فاعلم بأنهم يعدون العدة للالتفاف على المشاكل ,وحين يعدوك بأي شيء, ومهما كان صغيرا وتافها, فاعلم أنه أصبح محالا ,ومستحيلا من “عاشر” المستحيلات,وحين يبتسمون فهم يغضبون,وحين يبكون فهم مسرورون,وحين يعطوك فهم يسرقوك,وحين يرحبون بك فاعلم بأنك صرت في عداد الأموات ,وحين يغمضون أعينهم ,فهم صاحون وليسوا نيام,ولكن والحق يقال ,فالشئء الوحيد الذي صدقوا به وحققوه ,ولكي لا نظلم “الشباب”,فهو تحقيق الإشتراكية,فقد اشتركت الملايين الغفيرة في البؤس, والفقر ,وتردي,وسوء الأحوال, والأوضاع ,وأصبحوا سواسية يتلظون بجحيم الأوطان,وأصيبوا بالكساح الوطني الشعبي الجماهيري الثوري العام, ومبروك لهذا الإنجاز العظيم والوحيد, الذي حققه الثوار ,حيث لا شيء لديهم يظهر كما هو في الحقيقة على الإطلاق.
 
وهل من قبيل المصادفة العابرة أن يحتفلوا بميلاد أكثر الأحزاب القومية الثورية “صدقا”, وصخبا ,وضجيجا ورفعا للشعارات البراقة ,والتي ألهبت عواطف الناس في شهر نيسان؟أم هو مواكبة للعولمة الإنسانية ,والاحتفال مع الشعوب المتحضرة في أيام نيسان الجميلة, التي ينبغي أن تحمل للناس التجدد, والعطاء, والوفرة, والغنى ,والثراء,لا الكذب, وفضفاضية, وهرم الشعارات؟ولعلها واحدة من أكبر “المقالب” في التاريخ المضطرب لهذه الشعوب التي لم تعرف يوما الراحة والأمان, وانطلت عليها الشعارات البراقة,والخطب النارية الجوفاء,في مهرجان نيسان ,وعرس الدجل والنفاق الأكبر والرياء.
 
لا تحتفلوا بكذبة نيسان,ولا ترددوا الأقاويل والكذب والشائعات,ولا تصدقوا أيا من الأنباء والأخبار والنشرات والأبواق,فأنى نظرتم ,وكيفما التفتم واتجهتم,وأينما كنتم ,وكل ماتسمعوه من أول يوم في السنة حتى نهاية العام,هو سراب بسراب بسراب,وخلب ,وقبض ريح وثرثرة وهراء ,وضحك على ذقون العباد, وأنتم في مهرجان كبير ,وسوق مفتوحة للتجارة بالكلام,وبيع الأباطيل والوعود والأحلام والأوهام,فما هي حاجتكم لكذبة صغيرة في يوم عابر من أيام السنة في نيسان؟فهل عرفتم الآن لماذا لا يأبه الناس بكذبة نيسان في هذه الأصقاع,ولم تعد تجذبهم أي من الكذبات ومهما كانت مثيرة ؟
 

وختاما,لا تصدقوا شيئا من قصة “الحمير البشرية” الذين استهبلوا وضحك عليهم الإعلام, لأنها ببساطة مجرد كذبة أخرى في نيسان

سيريا نيوز

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

شيروان شاهين سوريا، الدولة ذات ال 104 أعوام البلد الذي كان يومًا حلمًا للفكر العلماني والليبرالي، أصبح اليوم ملعبًا للمحتلين من كل حدب وصوب، من إيران إلى تركيا، مرورًا بكل تنظيم إرهابي يمكن أن يخطر على البال. فبشار الأسد، الذي صدع رؤوسنا بعروبته الزائفة، لم يكتفِ بتحويل بلاده إلى جسر عبور للنفوذ الإيراني، بل سلمها بكل طيبة خاطر…

ماجد ع محمد بعد أن كرَّر الوالدُ تلاوة قصة الخريطة المرسومة على الجريدة لأولاده، شارحاً لهم كيف أعادَ الطفلُ بكل سهولة تشكيل الصورة الممزقة، وبما أن مشاهِدَ القصف والتدمير والتدخلات الدولية واستقدام المرتزقة من دول العالم ومجيء الجيوش الأجنبية والاقليمية كانت كفيلة بتعريف أولاده وكل أبناء وبنات البلد بالمناطق النائية والمنسية من بلدهم وكأنَّهم في درسٍ دائمٍ لمادة الجغرافيا، وبما…

صلاح بدرالدين لاتحتاج الحالة الكردية السورية الراهنة الى إضفاء المزيد من التعقيدات اليها ، ولاتتحمل هذا الكم الهائل من الاخذ والرد اللذان لايستندان الى القراءة العلمية الموضوعية ، بل يعتمد بعضها نوعا من السخرية الهزلية وكأن الموضوع لايتعلق بمصير شعب بكامله ، وبقدسية قضية مشروعة ، فالخيارات واضحة وضوح الشمس ، ولن تمر بعد اليوم وبعبارة أوضح بعد سقوط الاستبداد…

المهندس باسل قس نصر الله أتكلم عن سورية .. عن مزهرية جميلة تضمُّ أنواعاً من الزهور فياسمين السنّة، ونرجس المسيحية، وليلكة الدروز، وأقحوان الإسماعيلية، وحبَق العلوية، ووردة اليزيدية، وفلّ الزرادشتية، وغيرها مزهرية تضم أطيافاً من الأكراد والآشوريين والعرب والأرمن والمكوِّنات الأخرى مزهرية كانت تضم الكثير من الحب اليوم تغيّر المشهد والمخرج والممثلون .. وبقي المسرح والمشاهدون. أصبح للوزراء لِحى…