سوف أنطلق بداية مما قاله ماركس وانجلز في الأيديولوجية الألمانية، من(أن الشرط الأول لنجاح الثورة الشيوعية هو تطور المنظومة الرأسمالية التام الشامل ) هذا النص يفيدنا بإيضاحين، أولهما:إن الشيوعية تنشأ في أحشاء الرأسمالية وتتطور في كنفها وهي نتيجة قوى اجتماعية جديدة تولدها الرأسمالية.
وثانيهما: إن هذه القوى التي تتشـرب بالمفاهيم والأفكار والمبادئ والرؤى الشيوعية، لن تصبح نظاما يسـود، إلا في مرحلة تطور المنظومة الرأسمالية التام الشامل.
هذه المسألة لن أقف عندها، لأنه سبق لي أن تناولتها في مقالة سابقة، وأوردت حينها كيف أن لينين تنبأ قبيل وفاته بفشل الثورة وعودة الرأسمالية إلى روسيا..
ومن الطريف أن أحد كبرائنا طرح على نفسه هذا السؤال: هل يمكن بناء الاشتراكية في دولة مثل سوريا ؟ فكان جوابه بـ (نـعم)0وبنى حجته، على تدامج البعث السوري والشيوعي السوري، في مجرى النضال، وصولا للبناء الاشتراكي، بمساعـدة النظـــام السوفييتي، وبقية بلدان المنظومة الاشتراكية.
وقد تبين فيما بعـد خطأ هـذا الرأي، فسـوريا بلــد زراعي نام كما يعرف الجميع؛ وهي بهذا بعيدة عن ترسيمة ماركس0 ويبدو أن هذا الاعتقاد جـاء متوافقا مع الاتجاه السائد آنذاك، تمشيا مع المقولة التي أخذت بها حينا من الدهر، وهي مقولـة “التطور اللارأسمالي “.0
إذا كانت ثورة أكتوبر مخالفة لرؤية ماركس، كما يرى غرامشي، فهل هذا يعني، أن قيام الاشتراكية في بلد متخلف رأسماليا أمر متعذر؟ وبالتالي: هل ثورة أكتوبر كانت خطأ تاريخيا؟ مع العلم أن التاريخ مفتوح لاحتمالات يعجز أن يحيط بها ذهنية مفكر.
وأيضا المبادرات الجماهيرية والظـروف الأخرى لابد من أخذها بالحسبان عند تقييم أي واقعة، أو إطلاق أي حكـم ..
نعود الآن إلى مخطط المقالة، ونستهلها بهذا التساؤل: هل التغيير والتحول الاشتراكي يتحقق عن طريق الثورة، أم عن طريق الإصلاح ؟ أي بمعنى ما، هل هذا يتحقق عن طريق التطور السـلمي، أم الطـريق اللاسلمي؟ أي بالثورة والانقلاب والعنف؛ أم عن طريق الإصلاح والتدرج، والسبل الديموقراطية, أم أن الطريقين صالحان سالكان, والظروف والمعطيات, هي التي تحتم علينا أي طريق نسلكه..
لا شك أن الاشتراكيين عموما يفضلون الطريق السلمي للتطور والتحول, لكنهم سوف يختلفون, على أيهما، أولى بالسلوك والعبور نحو الاشتراكية…ولنبدأ من المنبع.
فقد سئل انجلز(هل يمكن القضاء على الملكية الخاصة بطريقة سلمية ؟) فأجاب: (إننا نرغب في أن يكون الأمر كذلك, وإن الشيوعيين هم بالطبع آخر من يعارض هذا) ولماركس رأي وجيه في هذا الاتجاه, فهو يميز بين حالة دولة, وأخرى يقول (ولا ننكر أن في بعض البلدان مثل إنكلترا والولايات المتحدة الأمريكية, يمكن للعمال أن يحققوا أغراضهم بوسائل سلمية) وأضاف إنجلز فرنسا إلى قائمة البلدان التي بإمكانها سلميا الوصول إلى السلطة, لكنهما استبعدا ألمانيا..
فماركس وانجلز عندما يريان إمكانية التطور السلمي لبلدان محددة, يعتمدان إلى عامل، الحقيقة الواقعية، وهو تطور البلد المعني تطورا رأسماليا متقدما, وتمتع هذا البلد بتقاليد ديموقراطية..
لهذا السبب استبعدا ألمانيا..
لأن الديموقراطية في البلدان المتحضرة برأيهما (تفضي بالضرورة إلى سيادة البروليتاريا) وكان انجلز يقر بجدوى الطريق السلمي للنضال (فنحن نحرز من النجاح, بالأساليب الشرعية, أكثر مما نحرزه بالأساليب غير الشرعية, وبالانقلاب) ولكنهما لا يستبعدان ولا ينفيان طريق العنف والثورة, فهذا ماركس يتوجه إلى الحكومات, معلنا بأننا سوف نواجهكم (بصورة سلمية حيث يبدو ذلك ممكنا بالنسبة إلينا, وبالسلاح عندما يكون ذلك ضروريا) كان برنشتاين
معاصرا لماركس, وكان يرى أن بلوغ الاشتراكية ممكن عن طريق إصلاحات متعاقبة وليس عن طريق العنف..
وأما روزا لكسمبورغ رغم إيلائها الأهمية للنضال السلمي الشرعي “البرلمانية , النقابية الثقافية “لا ترى فيها الطريق لبلوغ الاشتراكية..
وهنا أمامنا رأيان(لبرنشتاين و روزا)
جاءا أحاديّ الخيار, وإن كانا مغايرين, فذاك جاء خياره الطريق السلمي, وهذه خالفته وربما كان الثورة خيارها.
وكان كاوتسكي يرجح الطريق السلمي, ويرى عن إمكانية الطبقة العاملة الاستيلاء على آلة السلطة عن طريق (الظفر بالديموقراطية) أما لينين فيرى(إن الطبقة العاملة تفضل بالطبع أن تأخذ بيدها مقاليد الحكم بصورة سلمية) وهو(الأقل إيلاما) و(الأسهل والأنفع للشـعب) ما نلاحظه هنا، أن لينين لا يتجاوز لغة الأقل إيلاما، والأسهل والأنفع.
دون أن يقول عن إمكانية بلوغ الاشتراكية سلميا..
ففي مقالة له بعنوان “الماركسية والإصلاحية” تعود لعام 1913، ورغم قولـه باعتراف الماركسيين بالنضال من أجل الإصلاحات، لكنه يرى أن الإصلاحات تحد من تطلعـات الطبقة العاملة، ونشاطها، وهي خداع برجوازي للعمال، ثم يحمل بعنف على “الإصلاحيين” إلى أن يقول (في أوربا تعني الإصلاحية بالفعل التخلي عن الماركسية) أما في روسيا فتعني (القضاء على التنظيم الماركسي).
رغم أن هؤلاء رفضوا أن ينعتوا بالإصلاحيين، لأن مهامهم النضالية لا تتوقف عند الإصلاحات، فقد أعلنوا كما نقل عنهم لينين (لم نقل أن الإصلاحات هي كل شيء، وأن الهدف النهائي لاشيء؛ لقد قلنا التحرك نحو الهد ف النهائي، لقد قلنا عبر النضال من أجل الإصلاحات نحو كمال المهام المطروحة)
لقد دشنت ثورة أكتوبر مرحلة جديدة من المساجلات الفكرية في هذه المسألة؛ فتحقيق الاشتراكية أصبح مقترنا بالثورة، وتراجع الجانب السلمي الإصلاحي، للتطور نحو الاشتراكية؛ وسلم بالثورة كطريق وحيد للعبور الاشتراكي الجيل التالي بمعظمه..
إذا كانت ثورة أكتوبر بدأت ثورة بيضاء نسبيا في الأيام الأولى فإن التبعات والتداعيات كانت مكلفة وصعبة جـدا.
كان لابد مع المدى القصير سحق أعداء الثورة من البرجوازيين، والملاكين العقاريين، وإقصاء خصومهم من المناشفة رفاق الأمس، والاشتراكيين الثوريين..فجاء القضاء على الديمقراطية من الأعمال الأولى التي قام بـها البلاشفة، حيث لا توجد ديمقراطية (ما دامت الملكية باقية للرأسماليين) بتعبير لينين فقد تم فصل ممثلي الحزبين الاشتراكي الثوري، والمنشفي من السوفييتات، وحلت الجمعية التأسيسية، وحرم الدستور السوفييتي البرجوازيين من الانتخابات، كونهم يستخدمون العمال الأجراء..
الأمر الذي أثار انتباهي وأشاقني في هذه المسألة، هو مواقف رواد النهضة العرب، ذوي النزعة الاشتراكية؛ لما اتسمت مواقفهم من موضوعية وواقعية ونزعة إنسانية؛ فقد كانوا عقلانيين أكثر من المتأخرين الملفعين ببردة الشيوعي الروسي، ببلادة، عاطفة اشتراكية، التي سخر منها ماركس؛ لقد كان هؤلاء صادقين في تناولهم لتداعيات ثورة أكتوبر، قريبين منها زمنيا، والحدث لا يزال طـريا.
وعموما كانوا مناصرين للطريق السلمي للاشتراكية، فهذا سـلامة موسى يعزو الإصلاحات فـي النظم الرأسمالية، “إلى مجهودات الاشتراكيين” وفي مقالة منشورة في جريدة الهلال عام 1923 يرى كاتبها أن (لتحقيق الاشتراكية وسيلتين، الثورة ولإصلاح) ووسيلة الإصلاح (هي التي يتبعها معظم اشتراكيي العالم المتمدين..
وهي تنحصر في تحقيق الاشتراكية بـواسطــة البرلمانات) وتقول مي زيادة: (الاشتراكية السلمية كالثورية، ترمي إلى تغيير النظام ولكن بوسائل
غير حادة) أي عن طريق المؤسسات النيابية والإدارية والقضائية…وقد ساء هؤلاء ما لحق بالبلاشفة وما لصق بهم من انتهاكات وارتكابات فظيعة حتى راح من يقول (شرما أصاب الاشتراكية ظـهور البلشفية في روسـيا) وصار نظامهم (مضرب المثل في الاعتلال والاختلال حتى توالـت المجاعات في روسيا) (فالبلشفية صارت غولا يخوف به الناس) حسب ما جاء في جريدة الهلال..
حتى راح من يعزو نجاح حكومة موسوليني الفاشية بسبب مقاومتها للدعوة البلشفية في إيطاليا.
هكذا كان واقع روسيا المؤلم عام 1923 أي بعد سـت سنوات من سلطة البلاشفة، وقبل سنة واحدة من رحيل لينين.
لقد أدرك لينين حجم المهام وعظم المسؤولية، كما أحس بحجم العقبات، التي تحول دون تحقيق أحلام البلاشفة بالجنة الموعودة؛ فانكفأ على نفسه ليقول على مضض: “لقد فشلنا…!وتستطرد الجريدة لتعبر عن موقف مستمد من رؤية ماركس – كما يبدو- حيث تقول:(إن الاشتراكية قريبة التحقيق قليلة الخطر في الأمم الصناعية الشمالية لأن هناك تدريجية نيرة الطريق، سلمية في وسائلها، أما في أمم الجنوب، فلا يستطيع إنسان أن يتنبأ بمستقبلها فإن هـذه الأمم تنزع منزع روسيا، وروسيا لا تزال في البوتقة، وهي عامل تنفير أكثر مما هي عامل ترغيب في الاشتراكية) وكان سلامة موسى في معرض دفاعه عن البلاشفة يقول بأنهم ليسوا كما أشيع عنهم بأنهم (ثوريون ينوون الاستيلاء على الحكومة عنوة ) فما جهاد (الاشتراكيين في الانتخابات البرلمانية، دليل على أنهم يدخلون البيوت من أبوابها)أي أن الاستيلاء على السلطة بالثورة والعنف مهما كانت الغايات غدا أمرا مستهجنا وغير مستحب، حتى لو كانوا اشتراكيين ..
لهذا نرى سلامة موسى رغم تعاطفه مع البلاشفة غير متحمس لطريقتهم يقول بنبرة الشك (مع تمنينا نجاحهم في تجربتهم العظيمة، فإنا لن ننصح بالطفرة وسيكون رائدنا التدرج والتطور) وفي نفس الاتجاه يلمس يوسف إبراهيم يزبك في عام 1923 يلمس التباين والتباعد في مذاهب أرباب الاشتراكية، في كيفية الوصول إلى تنفيذ معتقدهم وبسبب ما هاله ما جرى في روسيا، يتوجه إلى أبناء بلده بالقول:(إني لا أدعوكم الآن للاشتراكية لأن فكرتها لم تنضج في بلادنا حتى الآن)0
رغم أن الاشتراكيين عموما يحبذون الطريق السلمي للتطور نحو الاشتراكية، فالأمر يظل عندهم غير محسوم وما يزال يتأرجح بين الثورة والإصلاح؛ ولا أخفيكم أني أميل وأرجح الطريق السلمي الإصلاحي للتطور اليوم وقد أعده الطريق الوحيد في المدى المنظـور… فالظروف تبدلت كثيرا منذ عهد ماركس، حيث كان النظام القائم في أي دولة أوربية حينها محط صراع جلي بين طبقتين رئيسيتين فسيحتين هما:البرجوازية والطبقة العاملة؛ وكان الصراع الدائر بينهما سمـة أي نظام آنئذ…
إن الماركسية تعيش الواقع وتعيه وتتفهمه؛ فعندما تتغير الظروف، وتتكون أرضية جديدة، تنتقل
الماركسية إلى حالة نوعية جديدة، لتواكب الوضع المتغير، وهذا دليل على حيويتها وفاعليتها …لقد وافق إنجلز على الطريق السلمي والشرعي للنضال الديمقراطي في ألمانيا بعد عام 1900 باتجاه الاشتراكية، علما أنه هو وماركس كانا قد استبعدا ألمانيا من قبل.
لقد أعلن انجلز بدوي (إن عصر انتفاضات المتاريس قد ولى).
والمثال غير البعيد على التحول السلمي، فبعد موت فرانكو، تخلى أنصاره عن النظام التوليتاري، وانتقلوا إلى النظام الغربي الديمقراطي، ورضي اليسار انطلاقا من موقف معتدل بهذا التحول، فخفض من سقف مطالبه الاجتماعية، تاركا للمنافسة الديمقراطية والصراع السلمي – إن صح التعبير- يأخذان السبل الشرعية أي “دخول البيوت من أبوابها ” بتعبير سلامة موسى، لأن: ( في السياسة كما في الطب كان العلاج العنيف خطرا دوما “هولباخ”)…