د.
أحمد محمود الخليل
dralkhalil@hotmail.com
أحمد محمود الخليل
dralkhalil@hotmail.com
خطابي هذا موجّه إلى السادة ساسة غربي كردستان خاصة، ولعل فيه فائدة للسادة ساسة الكرد عامة، والحقيقة أني لست راضياً عن استعمال كلمة (وصايا)، لكن لم أجد أنسب منها، فالبديلان (نصائح) و(إرشادات) يحملان دلالات فوقية أيضاً، وهذا ما لا نريده، وإنما الغرض هو أن نفكر مع ساستنا في هذه المرحلة الخطرة جداً من تاريخ أمتنا، وقد دفعتني بعض المواقف والظاهرات المثيرة للانتباه في الأشهر الأخيرة إلى كتابة هذه الوصايا، وآمل أن يكون صبر الإخوة الساسة عليّ طويلاً.
ولا يغيب عنا- ونحن نكتب هذه الوصايا- أن أنظمة الاحتلال التي تسلّطت على الكرد طوال قرون، همّشتهم في جميع المجالات، وخاصة في المجال السياسي داخلياً وإقليمياً وعالمياً، وكانت النتيجة افتقارهم إلى بعض المهارات في التعامل مع الأحداث السياسية، سواء داخل البيت الكردي نفسه أم في التعامل مع الأصدقاء والخصوم، ونعتقد أن هذه الحال مؤقتة، وسيصبح ساستنا، عبر تعاملهم مع الأحداث، أكثر خبرة وأصلب عوداً وأغنى تجربة في مجال العلاقات السياسية، ودعونا نبدأ بالوصية الأولى.
حذار من حماوة الرأس!
أجل، فحماوة الرأس واحدة من الخصائص المتأصلة في الشخصية الكردية، إن الكردي يثور بشكل مفاجئ عندما يحس أن أحداً يستغفله، أو ينتقصه، أو يتلاعب به، أو لا يتعامل معه بتهذيب، وعندما يثور يفقد السيطرة على نفسه وعلى خطابه، ويتحوّل من شخص هادئ إلى عاصفة هوجاء، وفي الغالب يتصرف بقدر كبير من الارتجال، ويصل به الغضب أحياناً إلى درجة الفظاظة كرد فعل.
إن حماوة الرأس في المواقف التفاوضية، والتصرف بردود أفعال غير محسوبة، وبسلوكيات فيها قدر من الفظاظة وفلتان اللسان، يؤدّي إلى أن المتفاوض يقول ما كان ينبغي أن يتكتّم عليه، ويخرج على قاعدة التزام الأولويات، وقاعدة تحويل الخصم إلى صديق أو متعاطف أو محايد، ويخسر معظم أوراقه، وهذا ما يريده الخصم السياسي، وقد كتبنا ذات مرة أن الكردي يخسر على طاولة المفاوضات ما يكسبه في ميادين القتال.
ونذكّر السياسي الكردي بما قاله السياسي الإيطالي نيقولا مكياڤيللي موجّهاً، خطابه إلى رجل السياسة متمثّلاً في شخص (الأمير): “وعلى الأمير أن يكون حريصاً على ألاّ يَفضح نفسه بأقواله، … لأنّ الناس عموماً يحكمون بعيونهم أكثر من أيديهم، ولأن في وُسع كل إنسان أن يرى، بينما لا يشعر به إلا القليلون، فجميع الناس يرون ما تعمل، وكيف تبدو لهم، أما القلة فيحسّون حقيقتك“.
(الأمير، ص 150).
ونتمنّى أن يكون السياسي الكردي قادراً على أن يكون (داهية) بالمعنى السياسي للدهاء، وهي الحِنكة، والبراعة في المناورة، وشنّ حملات محدودة على الخصم واحدة تلو أخرى لزحزحته عن موقفه بالتدريج، وامتصاص الأقوال والسلوكيات العنيفة التي يصبّها الخصم عليه، وعدم الانجرار إلى المواقع التي يريد الخصم أن يجرها إليه، تلك المواقع التي يكون الخصم فيها هو الأقوى، وهو الأقدر على تمرير شروطه.
حقاً ينبغي أن يكون السياسي الكردي ضابطاً لنفسه، متحكّماً في أقواله وتصرفاته، يشن الهجوم بالتدريج حينما تكون الفرصة مواتية، ويتراجع بسلاسة حينما تكون المعركة خاسرة، وخاصة في هذا العصر الذي تسجّل فيه وسائل الإعلام صوتاً وصورة كل حركة وسكنة، وتوظّفها بعدئذ لأغراضها الخاصة تمجيداً أو تشويهاً.
ونذكّر السياسي الكردي في موضوع الحنكة والدهاء بقول نيقولا مكياڤيللي: ” وعلى الأمير … أن يقلّد الثعلب والأسد معاً؛ إذ إن الأسد لا يستطيع حماية نفسه من الأشراك، والثعلب لا يتمكن من الدفاع عن نفسه أمام الذئاب؛ ولذا يتحتّم عليه أن يكون ثعلباً ليميّز الفِخاخ، وأسداً ليُرهب الذئاب، وكلُّ من يرغب في أن يكون مجرد أسد ليس إلاّ لا يفهم هذا”.
(الأمير، ص 148).
ولله درّ صلاح الدين الأيوبي في هذا المجال قبل أن يكون سلطاناً، وبعد أن أصبح سلطاناً، وإليكم هذا المثال: كان الفرنج (الصليبيون) يهدّدون مصر، فطلب الخليفة الفاطمي العاضد لدين الله المساعدةَ من السلطان التركماني نور الدين زَنكي في دمشق، فأرسل إليه ثلاث مرات جيشاً بقيادة القائد الكردي شَيرگُوه بن شادي، وكان شَيرگُوه يستصحب معه كل مرة ابن أخيه صلاح الدين بن أيوب (نجم الدين)، وفي المرة الثالثة توفّي شَيرگُوه في مصر، وأصبح صلاح الدين قائد الجيش الشامي، واتخذه الخليفة الفاطمي وزيراً له، وكان صلاح الدين ذكياً حصيفاً متواضعاً، وأزال كثيراً من أشكال الظلم والقهر عن كاهل الشعب المصري، فأحبّه الخليفة وأحبّه المصريون.
والحقيقة أن القوة القتالية في جيش السلطان نور الدين كانت تتألف بصورة أساسية من المقاتلين التركمان والمقاتلين الكرد، وكانت المنافسة بين الفريقين شديدة، وقد نقل الضباط التركمان الذين كانوا مع صلاح الدين إلى السلطان نور الدين حبَّ الخليفة العاضد والشعب المصري لصلاح الدين، وحذّروه من إمكانية أن يستقل صلاح الدين عنه مستقبلاً، ويقيم سلطة كردية هناك، ونصحوه بأن يعزله عن قيادة الجيش الشامي.
وأخذ السلطان نور الدين بنصيحة أولئك القادة، وقرر التخلص من صلاح الدين، وشرع يوجّه إليه المضايقات، ويستفزّه مرة تلو أخرى، ويعمل لاستدراجه إلى التمرد عليه، كي يعزله ويعاقبه ويقضي عليه، لكن صلاح الدين كان متنبّهاً إلى ما يُدبَّر له، ضابطاً لنفسه، غير متهوّر، ولم يمكّن السلطان من نفسه، وقد ذكر هو نفسه محنته مع مضايقات نور الدين قائلاً:
” والله لقد صبرتُ منه على حَزّ المُدى وخَزّ الإبر، … وما قَدِر أحدٌ من أصحابه أن يجد عليّ ما يَعتدُّه ذنْباً، ولقد اجتهد هو نفسه أيضاً أن يجد لي هفوة ويَعتدّها عليّ فلم يقدر، ولقد كان يعتمد في مخاطباتي ومراسلتي الأشياء التي لا يُصبَر على مثلها، لعلي أتضرّر أو أتغيّر، فيكون ذلك وسيلة إلى منابذتي، فما أبلغته أَرَبه يومًا قطّ ” (أبو شامة: عيون الروضتَين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية، 1/442).
فحبّذا أن ينهج ساستنا اليوم نهج صلاح الدين في ضبط النفس، والتعامل مع الأمور بأعصاب هادئة ونفَس طويل وصبر كصبر النبي أيوب، فلا بد أن يتعرضوا إلى مواقف هي اشدّ من وخز الإبر وحزّ المُدى، وحبذا أن يتركوا خصلة حماوة الرأس وسرعة الفوَران وشدّة الثوَران جانباً، وأن تكون تصرفاتهم وكلماتهم محسوبة بدقة في المواقف التفاوضية، وأيضاً في ميادين عرض القضية الكردية أمام الرأي العام.
وإلى اللقاء في الوصية الثانية.
17 – 7 – 2012
حذار من حماوة الرأس!
أجل، فحماوة الرأس واحدة من الخصائص المتأصلة في الشخصية الكردية، إن الكردي يثور بشكل مفاجئ عندما يحس أن أحداً يستغفله، أو ينتقصه، أو يتلاعب به، أو لا يتعامل معه بتهذيب، وعندما يثور يفقد السيطرة على نفسه وعلى خطابه، ويتحوّل من شخص هادئ إلى عاصفة هوجاء، وفي الغالب يتصرف بقدر كبير من الارتجال، ويصل به الغضب أحياناً إلى درجة الفظاظة كرد فعل.
إن حماوة الرأس في المواقف التفاوضية، والتصرف بردود أفعال غير محسوبة، وبسلوكيات فيها قدر من الفظاظة وفلتان اللسان، يؤدّي إلى أن المتفاوض يقول ما كان ينبغي أن يتكتّم عليه، ويخرج على قاعدة التزام الأولويات، وقاعدة تحويل الخصم إلى صديق أو متعاطف أو محايد، ويخسر معظم أوراقه، وهذا ما يريده الخصم السياسي، وقد كتبنا ذات مرة أن الكردي يخسر على طاولة المفاوضات ما يكسبه في ميادين القتال.
ونذكّر السياسي الكردي بما قاله السياسي الإيطالي نيقولا مكياڤيللي موجّهاً، خطابه إلى رجل السياسة متمثّلاً في شخص (الأمير): “وعلى الأمير أن يكون حريصاً على ألاّ يَفضح نفسه بأقواله، … لأنّ الناس عموماً يحكمون بعيونهم أكثر من أيديهم، ولأن في وُسع كل إنسان أن يرى، بينما لا يشعر به إلا القليلون، فجميع الناس يرون ما تعمل، وكيف تبدو لهم، أما القلة فيحسّون حقيقتك“.
(الأمير، ص 150).
ونتمنّى أن يكون السياسي الكردي قادراً على أن يكون (داهية) بالمعنى السياسي للدهاء، وهي الحِنكة، والبراعة في المناورة، وشنّ حملات محدودة على الخصم واحدة تلو أخرى لزحزحته عن موقفه بالتدريج، وامتصاص الأقوال والسلوكيات العنيفة التي يصبّها الخصم عليه، وعدم الانجرار إلى المواقع التي يريد الخصم أن يجرها إليه، تلك المواقع التي يكون الخصم فيها هو الأقوى، وهو الأقدر على تمرير شروطه.
حقاً ينبغي أن يكون السياسي الكردي ضابطاً لنفسه، متحكّماً في أقواله وتصرفاته، يشن الهجوم بالتدريج حينما تكون الفرصة مواتية، ويتراجع بسلاسة حينما تكون المعركة خاسرة، وخاصة في هذا العصر الذي تسجّل فيه وسائل الإعلام صوتاً وصورة كل حركة وسكنة، وتوظّفها بعدئذ لأغراضها الخاصة تمجيداً أو تشويهاً.
ونذكّر السياسي الكردي في موضوع الحنكة والدهاء بقول نيقولا مكياڤيللي: ” وعلى الأمير … أن يقلّد الثعلب والأسد معاً؛ إذ إن الأسد لا يستطيع حماية نفسه من الأشراك، والثعلب لا يتمكن من الدفاع عن نفسه أمام الذئاب؛ ولذا يتحتّم عليه أن يكون ثعلباً ليميّز الفِخاخ، وأسداً ليُرهب الذئاب، وكلُّ من يرغب في أن يكون مجرد أسد ليس إلاّ لا يفهم هذا”.
(الأمير، ص 148).
ولله درّ صلاح الدين الأيوبي في هذا المجال قبل أن يكون سلطاناً، وبعد أن أصبح سلطاناً، وإليكم هذا المثال: كان الفرنج (الصليبيون) يهدّدون مصر، فطلب الخليفة الفاطمي العاضد لدين الله المساعدةَ من السلطان التركماني نور الدين زَنكي في دمشق، فأرسل إليه ثلاث مرات جيشاً بقيادة القائد الكردي شَيرگُوه بن شادي، وكان شَيرگُوه يستصحب معه كل مرة ابن أخيه صلاح الدين بن أيوب (نجم الدين)، وفي المرة الثالثة توفّي شَيرگُوه في مصر، وأصبح صلاح الدين قائد الجيش الشامي، واتخذه الخليفة الفاطمي وزيراً له، وكان صلاح الدين ذكياً حصيفاً متواضعاً، وأزال كثيراً من أشكال الظلم والقهر عن كاهل الشعب المصري، فأحبّه الخليفة وأحبّه المصريون.
والحقيقة أن القوة القتالية في جيش السلطان نور الدين كانت تتألف بصورة أساسية من المقاتلين التركمان والمقاتلين الكرد، وكانت المنافسة بين الفريقين شديدة، وقد نقل الضباط التركمان الذين كانوا مع صلاح الدين إلى السلطان نور الدين حبَّ الخليفة العاضد والشعب المصري لصلاح الدين، وحذّروه من إمكانية أن يستقل صلاح الدين عنه مستقبلاً، ويقيم سلطة كردية هناك، ونصحوه بأن يعزله عن قيادة الجيش الشامي.
وأخذ السلطان نور الدين بنصيحة أولئك القادة، وقرر التخلص من صلاح الدين، وشرع يوجّه إليه المضايقات، ويستفزّه مرة تلو أخرى، ويعمل لاستدراجه إلى التمرد عليه، كي يعزله ويعاقبه ويقضي عليه، لكن صلاح الدين كان متنبّهاً إلى ما يُدبَّر له، ضابطاً لنفسه، غير متهوّر، ولم يمكّن السلطان من نفسه، وقد ذكر هو نفسه محنته مع مضايقات نور الدين قائلاً:
” والله لقد صبرتُ منه على حَزّ المُدى وخَزّ الإبر، … وما قَدِر أحدٌ من أصحابه أن يجد عليّ ما يَعتدُّه ذنْباً، ولقد اجتهد هو نفسه أيضاً أن يجد لي هفوة ويَعتدّها عليّ فلم يقدر، ولقد كان يعتمد في مخاطباتي ومراسلتي الأشياء التي لا يُصبَر على مثلها، لعلي أتضرّر أو أتغيّر، فيكون ذلك وسيلة إلى منابذتي، فما أبلغته أَرَبه يومًا قطّ ” (أبو شامة: عيون الروضتَين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية، 1/442).
فحبّذا أن ينهج ساستنا اليوم نهج صلاح الدين في ضبط النفس، والتعامل مع الأمور بأعصاب هادئة ونفَس طويل وصبر كصبر النبي أيوب، فلا بد أن يتعرضوا إلى مواقف هي اشدّ من وخز الإبر وحزّ المُدى، وحبذا أن يتركوا خصلة حماوة الرأس وسرعة الفوَران وشدّة الثوَران جانباً، وأن تكون تصرفاتهم وكلماتهم محسوبة بدقة في المواقف التفاوضية، وأيضاً في ميادين عرض القضية الكردية أمام الرأي العام.
وإلى اللقاء في الوصية الثانية.
17 – 7 – 2012