رأيي بالمثقف الكوردي السوري / مرًة أخرى /

  خليل مصطفى

عودة للماضي القريب ، ففي الإعادة تكمن الإفادة لمن يعتقد أنه مثقف.

لقد شهدت قامشلو في آذار من عام 2004 لأول مرّة المشهد المريع ، لكيفية استخدام رجال أمن النظام السوري الرصاص الحي ضد شبابها الكوردي ، وتحديداً في ملعبها الكروي ، وفي الشوارع المؤدية إليه ، حيث سقط عدداً منهم صرعى و كثير من الجرحى بصور مفجعة .

وفي اليوم التالي تجمع عشرات الآلاف من كورد قامشلو أمام جامع قاسمو للمشاركة في تشييع شهداء الأمس إلى مقبرة حي قدور بك ، وبُعيد وصول طلائع المشيِّعين للحي المذكور ، كان المتأهبون من رجال النظام المسلحين ينتظرون تلقيهم أمر إطلاق النار ، وفجأة سمع المشيَّعون دوي طلقات الأسلحة الموجهة إليهم ، فكانت كل لحظة من ذلك الوقت العصيب تجسد مشاهد عدَّة فظيعة تقشعرُّ لها الأبدان .
فالمشاهد الدامية تلك ، وحدها التي حرَّكت المشاعر الإنسانية لكل ساكن من أبناء آدم .

ذاك الفعلُ الأمني الفج الذي خلَّف عشرات الجرحى والقتلى ، كان سبباً لتوتَّر أعصاب كل حليم ومن ثم تُولّدْ عنده ردة فعل عارم ، فكيف لا ينتفض كورد سوريا وشبابهم يُقتل كما يَقتل الصيادُ فريسته بدم بارد ، تلك اللحظات المأساوية المؤلمة ولّدت انتفاضة كورد سوريا في آذار 2004 .

أقول إذا كانت تلك المأساة المفجعة قد حرَّكتْ الضمائر والأحاسيس الإنسانية لأبناء سوريا بمختلف انتماءاتهم العرقية والدينية ، فيومها عبَّر الطيّبون منهم عن امتعاضهم وغضبهم الشديدين ، كلٌ بالصورة التي ناسبت وطنيته وروحه الإنسانية .

أقول : فمن الطبيعي بالمكان والزمان أن يستنفر مثقفو الكورد في الداخل والخارج ، ويشهروا أقلامهم ، وترتفع أصواتهم تنديداً واستنكاراً لما تعرض له أبناء جلدتهم ، وذلك من منطلق مشاعرهم الإنسانية أولاً ، وثانياً من منطلق انتماءهم لقوميتهم الكوردية .
وهنا عمداً أخص المثقف الكوردي السوري ، الذي يُفترض بأنه الحامل للعلوم والمعارف ، والخبير بالتجارب العملية ، والممتلئ بنبل الأخلاق الوجدانية ، والمُفْترض أنه المُخوَّل أصلاً بالتحليل الموضوعي للوقائع السلبية ، وتقديم آرائه السديدة كعلاج لها عبر رؤية واقعية ، يتقبلها العقلاء بمختلف انتماءاتهم العرقية والدينية .

وذاك من بديهيات شأن المثقف ، لكونه الأقدرُ والأجدرُ على انتقاد الوقائع السلبية وإيجاد البدائل المناسبة ، لإعادة بناء واقع ايجابي جديد .

إذاً : فالمثقف أياً كان انتماءه وموقعه ، فهو المعني بالبحث عن إيجاد الحلول للمعضلات السلبية المتفشية في المجتمعات الإنسانية ، وخاصة السلبيات التي نَخرتْ ولا تزال تنخر في كيان المجتمعات ومنها الكوردية .

فالمثقفون هم العلماء ــ الأطباء ــ المعالجون للأمراض السلوكية لمجتمعاتهم ، فهم بفكرهم الإنساني النبيل يُعتبرون ورثة للأنبياء .

ومعلوم الأنبياء كانوا أصحاب رسالات إنسانية خالدة أفضت الخير للبشرية ، ومعلوم عن العالِم ــ المثقف ــ بخدماته النبيلة التي يُقدمها لكل محيطه .

فالمثقف هو المُخلِّص .

فلو خلت المجتمعات من المثقفين المُخْلصين ، لا شك فالبؤس والجهل عنوانان مرادفان لتلك المجتمعات ، والصور المأساوية لحالة مجتمعاتنا الشرقية أكبر دليل على ما أقصده .

فانطلاقاً من تلك المقدمة الهامّة المعبِّرة عن مضمون المحاضرة التي ألقاها الباحث والمفكر الكوردي الأستاذ إبراهيم محمود ، مساء السبت 23 / 6 / 2012 في إحدى قاعات المراكز الثقافية الخاصة بمدينة قامشلو تحت عنوان المثقف الكوردي .

أعرض رأيي الشخصي بالمثقف الكوردي فأقول : ما سمعته من الأستاذ إبراهيم محمود ، وما سمعت من مداخلات عرضها المدعوين بصفتهم كُتَّاب معنيين بالثقافة .

أقولها بكل شفافية : دُهشتُ من مداخلات الكُتابْ ــ وهم المعنيون بالثقافة حول مضمون محاضرة الأستاذ إبراهيم محمود ــ فأصابني شيء من الهذيان وأنا أتمعن بالكلمات التي يأبى أصحابها التحرر من حيِّزهم الخاص جداً ، وذُهلتُ أكثر لاستفساراتهم الموجهة للمُحاضِر .

فقلتُ في نفسي (أهذا هو رصيد مجتمعاتنا) ، وأنا أستذكر قول الإمام الشافعي : (نعيب زماننا والعيب فينا ، وما لزماننا عيب سوانا) .

باختصار شديد : فقد كان المُحاضِر الأستاذ إبراهيم محمود ــ وما قدمه ــ في وادٍ ، والكُتّابُ المعنيون بالثقافة ــ عبر مداخلاتهم ــ في وادٍ آخر .

وبالنتيجة : وبعد فقد تَثبَّتَ لديَّ شعورٌ بعدم التفاؤل بمستقبل قريب جميل ، لوجود هكذا مثقفين غير قادرين على تحليل الوقائع السلبية في مجتمعاتنا ، وتنتفي لديهم قدرة إيجاد السبل لمعالجتها .

فأتساءل الآن : كم من الآفاق الزمانية والمكانية ، تحتاجها الأوساط الثقافية والتربوية والقضائية والسياسية ــ في مجتمعاتنا الإنسانية ــ حتى تنتفي الأماني الفردية ــ الأنانيات ــ وتستبدل بالأماني للمجتمعات ، وبالتالي يأتي اليوم الذي تتفاخر فيه مجتمعاتنا بمثقفيها المبدعين .

فبعد مضي أكثر من أسبوعين على المحاضرة المذكورة ، وتعدد الآراء التي دارت حولها ، ثبت يقيناً أن العديد مِمَّنْ كان قد حضر ، إنما جاؤوا عن سابق قصد وتعمُّدْ ، لمجادلة الأستاذ المُحاضِر بقصد الإساءة إليه (وهي إحدى مزايا المثقفين الحاليين) ، ويقيناً أنهم ما كانوا قد أتوا للاستماع والتدبَّر، والحوار النافع عبر المداخلات للوصول إلى نتيجة نافعة ــ سديدة ــ حول المحاضرة القيِّمة .

فالأستاذ إبراهيم محمود باحث معروف في ميادين الثقافة ، وصاحب شأن ومكانة على مستوى بلدان الشرق الأوسط ، ويزداد كورد سوريا فخراً أن يكون منهم وبينهم مفكر كـ إبراهيم محمود .
إذاً رأيي ــ شخصياً ــ كفنان تشكيلي ومُدَرِّس لمادة التربية الفنية التشكيلية في السلك التربوي منذ 35 عاماً ، أقول : إن المسئولين عن إدارة القاعة ــ وهم من المثقفين ــ قد تجاوزوا على الموعد المحدد على بدأ المُحاضرة والمُدوّن على بطاقة الدعوة بـ 14 دقيقة ، وهذا اعتداء على حق كل إنسان يحترم الوعد والمواعيد ، فتلك أولى ملاحظاتي ، والثانية هم والقائم على إدارة المداخلات ــ معاً ــ كانوا سبباً مهَّد لخروج بعض المدعوين ــ المُفْترض أنعم مثقفين ــ من القاعة قبل أن يبدأ المُحَاضِر بالرد على مداخلات المثقفين .

فالذي جرى ما كان يليق بإدارة تحترم الثقافة والمثقفين .

إضافة لما سبق : فكلُّ ما جاء عبر المداخلات ، فأقل ما يُقالُ أن أصحابها لم يُحْسِنوا الاستماع للمُحاضِر كي يفهموه .

بالمحصلة : ما كان ــ صوت وصورة ــ ذكَّرني بحيثيَّات انتفاضة آذار قامشلو عام 2004 ، فأحداثها أظهرت حقيقة الكثيرين مِمَّنْ كان يُعْتقدُ بأنهم من المثقفين الكورد ، فكلُّ من هؤلاء المثقفين كشف تقاعسه في أداء واجبه ، وعن برودة أعصابه ولامبالاته تجاه الذي جرى لكورد سوريا في مدينة قامشلو والمدن الأخرى ، واليوم أن العديد من تلك الفئة المثقفة المتقاعسة ، هم أعضاء في المجلس الوطني الكوردي السوري الحالي ــ بعد أن تم اختيارها من قبل الأحزاب الكوردية ــ وجُلَّ تلك الفئة وبما تحمل من بضاعة ثقافية خاصَّة ، تتباهى بأنها تمثل مثقفي كورد سوريا .
فذاك رأيي ــ الشخصي ــ كفنان تشكيلي ، ومن منطلقات المبادئ الفنية والحرص العام لا يسعني إلا أن : أُسَجِّل ثناءً عظيماً للبروفيسور إبراهيم محمود ــ على عرضه المبدع لمحاضرته القيِّمة ولسعة حلمه، هذا أولاً .

وثانياً أسجّل تحفظاً ممزوجاً بنقد فنان ــ لا يرى كما يرى الآخرون ــ لإدارة المركز الثقافي والقاعة في ذلك اليوم ، إلى أن نراهم قدوة لِمَنْ يلتزم بالمواعيد ، وطرفاً مُساهماً في عملية تغيير السلبيات المتفشية في المجتمعات الإنسانية .

وثالثاً أُسَجِّلُ عتابي الودِّي للمثقفين أصحاب المداخلات مِمَنْ أضاعوا كُلَّ لحظة من اللحظات التي عَبَّرَ من خلالها المُحاضِر عن كُلِّ المضامين والأفكار المطروحة بِدقَّة ــ شأن المُحاضِر ــ ، وبالتالي صَعُبَ عليهم عرض رأي سديد ، أو حتى وميض فكرة تستحق كلٌّ منها ــ أو كلاهما ــ إعجابا يُحْمَدُون عليه .

ورابعاً كلمة عتاب نظيفة ــ أخوية ــ أوجهها لِمَنْ كتب عبر الإنترنيت ، ولِمَنْ تحدَّث شفهيا ، حول المُحاضِر والمُداخلات ــ ولم يُفلحوا ــ ، إلى أن نجدهم أكثر أمانة ، وأنضج وعياً في كتاباتهم ، ونقاشاتهم .

10 / 7 / 2012 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف لقد شهدت البشرية تحوُّلاً جذرياً في طرق توثيقها للحياة والأحداث، حيث أصبحت الصورة والفيديو- ولأول وهلة- الوسيلتين الرئيسيتين لنقل الواقع وتخليده، على حساب الكلمة المكتوبة. يبدو أن هذا التحول يحمل في طياته نذر موت تدريجي للتوثيق الكتابي، الذي ظل لقرون طويلة الحاضن الأمين للمعرفة والأحداث والوجدان الإنساني. لكن، هل يمكننا التخلي عن الكتابة تماماً؟ هل يمكننا أن ننعيها،…

ا. د. قاسم المندلاوي الكورد في شمال شرق سوريا يعيشون في مناطقهم ولا يشكلون اي تهديد او خطر لا على تركيا ولا على اي طرف آخر، وليس لديهم نية عدوانية تجاه اي احد ، انهم دعاة للسلام في كوردستان والمنطقة والعالم .. ويزيد نفوسهم في سوريا اكثر من 4 مليون نسمة عاشو في دهاليز الظلم و الاضطهاد ومرارة الاحزان…

د. منصور الشمري لا يُمكن فصل تاريخ التنظيمات المتطرفة عن التحولات الكبرى في أنظمة التواصل، فهي مرتبطة بأدوات هذا النظام، ليس فقط من حيث قدرتها على الانتشار واستقطاب الأتباع، بل كذلك من جهة هويتها وطبيعتها الفكرية. وهذا ما تشهد عليه التحولات الكبرى في تاريخ الآيديولوجيات المتطرفة؛ إذ ارتبطت الأفكار المتطرفة في بداياتها بالجماعات الصغرى والضيقة ذات الطبيعة السرية والتكوين المسلح،…

بوتان زيباري في قلب جبال كردستان الشاهقة، حيث تتشابك القمم مع الغيوم وتعزف الوديان أنشودة الحرية الأبدية، تتصارع القضية الكردية بين أمل يتجدد ويأس يتسلل إلى زوايا الذاكرة الجمعية. ليست القضية الكردية مجرد حكاية عن أرض وهوية، بل هي ملحمة إنسانية مكتوبة بمداد الدماء ودموع الأمهات، وحروفها نُقشت على صخور الزمن بقلم الصمود. ولكن، كما هي عادة الروايات الكبرى،…