( العراق بين الأزدواجية والنفاق ) القسم الثالث

 البحثُ عن وطن للإيجار ؟

  كفاح محمود كريم

ثانية يا عراق المجد والحضارات وعراق الكتابة والديانات يبحث سكانك عن وطن للإيجار حتى تنتهي الصراعات وتتوقف النزاعات وتهدأ النفوس وتلملم الجراحات.

ثانية يا عراق النزف في الدمع والدم والماء والعطاء، ننتشر في مغارب الأرض ومشارقها نبحثُ عن وطن يأوينا حتى يتوقف النزف وتعود الطيور ثانية إلى أعشاشها المهترئة أو المحروقة، لتبنيها من جديد.

ثانية يا سيدي العراق المجروح من الوريد للوريد ومن الشريان للشريان، ليس اليوم، أنت مذبوح يا عراق، فقد ذبوحك منذ صنعوك، لتنزف دوما دونما وقوف، ولكي لا تنهض ذات يوم يا عراق.

قبل خمسين عاما أو ربما أكثر كان الرحيل وكان الهجير وكانت هناك قوافل من أناس تساق إلى خارج أرضك يا عراق، بعد أن اقتلع جذورها الرفاق من كل أنحاء العراق، تارة باسم الفرس وأخرى باسم الكورد وقبلها أحرقت طائرات غيرهم الآلاف من مواطنيك يا بلد الدماء والرثاء باسم المخربين والمتمردين والاثوريين.

    منذ خمسين عاما وهم يرحلون مواطنيك ويسقطون هوياتهم وعناوين ارتباطهم بقلبك يا عراق؟
منذ خمسين يا عراق والملايين تبحث عن وطن للإيجار وهوية وجواز سفر مستعار، وتهيم في بلدانٍ بمشارق الأرض ومغاربها ليعيش الرعاع والسراق والمنحرفين من شواذ الآفاق والأخلاق، ممن انتجتهم دوائر العفونة القومية والدينية المتطرفة من العروبيين وغيرهم ممن أدمنوا حرق الأوطان والأديان في مخيلتهم المريضة بالوطن الأكبر والعالم الأوسع، حتى صغرت أوطانهم وكادت أن تتلاشى.
خمسون مرة باعونا وباعوا العراق، قتلونا وأزاحوا حدودا لوطن اسمه العراق، مقابل مجاميع من رعاع الأرض والأصقاع.

استقدموها واستبدلوا بها أهل العراق، وأقاموا لها وطنا بين جروحنا وآلامنا، حينما قذفونا وراء الحدود، دونما هوية أو جواز سفر؟
هل تتذكرون أولئك الذين امتدت شرايينهم إلى أعمق أعماق العراق من الشورجة في بغداد إلى البصرة في أقصى جنوب العراق، أولئك الآلاف المؤلفة التي عاشت مئات وربما آلاف من دهور وتواريخ، يقتلعها الأعراب فجأة من تاريخها وجذورها ويسقط كل حقوقها ويقذها خارج الوطن وخارج الحياة؟
إنهم الاصلاء من اعرق اعرق من سكن واخلص للعراق، هم أولئك الفيليون من الكورد الذين امتدت جذورهم في ثرى العراق إلى أعمق أعماق الأرض والتراث والطيبة والإخلاص، هم أولئك الذين تتباهى بغداد بحضاراتهم ورجالاتهم وتجارهم وأساتذتهم، هم أولئك الذين عاداهم كل متخلف عنصري أهوج، يعاني من عقد الحضارة أو البداوة أو مركبات النقص في تركيبه النفسي والتربوي.
هؤلاء هم الذين أسقطت جنسيتهم العراقية وقذفوا إلى خارج الحدود منذ عشرات السنين، وقتل الآلاف من خيرة شبابهم ورجالهم، ومثلهم يا عراق فعلوا بأهل كوردستان، فاحرقوا الأخضر واليابس وشردوا مئات الآلاف من أعرق سكان الشرق والعراق، أحرقوا كوردستان واقتلعوا خمسة آلاف قرية بسكانها من على أرضك يا عراق، وارتحلوا بهم إلى جحيم صحراواتهم ليدفنوهم هناك ألافا مؤلفة يا عراق المجد والحضارات باسم العروبة والأمة العظيمة والتاريخ المجيد!.
منذ خمسين وأكثر هذي الملاجئ فيما حوالينا تشهد بحثنا عن وطن للإيجار حتى ما يتم أو يكتمل بناء وطننا العتيد، عراق الازدواجيات وارض النفاق والشقاق(!)
كورد وعرب وتركمان وكلدان وغيرهم من أعراقك يا عراق، شيعة وسنة، مسيحيون وايزيديون وغيرهم من عبيد الله يا عراق، يرحلون ويقتلون منذ خمسين عاما وأكثر، يبحثون في أوطان غيرهم عن وطنٍ للإيجار ريثما يكمل البناء ويتوقف النزف والشقاء.
واليوم وبعد بحور من الدماء والدموع، وعارات الأنفال وحلبجة والجنوب الذبيح والكسيح، ما زال الرفاق ورجال الحملة الإيمانية المنافقة مصرون على تحويل العراق إلى حفنة تراب وأبحرٍ من دماء، يذبحون الأطفال والنساء، يدمرون أنابيب البترول ومصافيه، وينسفون محطات الكهرباء وأبراج نقله، يسممون مياه الإسالة كما سمموا ينابيع كوردستان، يقتلون الأساتذة والعلماء ويخطفون الأطفال والفتيات، وأيضا كل ذلك من أجل أهداف الأمة العظيمة وكرامتها ومقاومة الاحتلال وتماشيا مع الشرع وعقيدة الجهاد من اجل القائد الأسير؟
ألم أقل لكم ذات يوم إنهم يتناسلون كالقطط الشتائية، فها هم اليوم رفاقنا البعثيون أكثر عددا وعدة، وكانوا حزبا واحدا فأصبحوا أحزابا وميليشيات بالعشرات وبدلا من (كيمياوي) واحد أصبح لدينا المئات من تلامذته ومريديه ممن يطورون يوميا عمليات الأبادة الجماعية للشيعة والسنة والكورد والناس أجمعين وفي كل قرية وشارع ومدينة.

وبدلا من قائد واحد للضرورة أصبح لدينا (هيئات) من قيادات الضرورة التاريخية والمرجعية الدنيوية والآخروية.
وبدلا من عدة ملايين من الذين يبحثون عن وطن للإيجار أصبح أكثر من نصف العراقيين يبحثون عن ملاذ آمن في دول الجوار وأخواتها من دول ( الدك والرقص على أنغام الموت في العراق ) ريثما يتحقق حلم القائد والأمة ويتحول العراق بأكمله إلى حفنة تراب.
وحتى ذلك الحين ستبقى دول الجوار بدون استثناء وما بعد الجوار تمنحنا غرفا للإيجار وهي ترقص طربا على أنغام الموت في سهول ووديان وشوارع العراق وطن ( الكفر والنفاق )؟!

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين   طرح الأستاذ عاكف حسن في مقاله هل ما زلنا بحاجة إلى الأحزاب السياسية؟ إشكالية عميقة حول جدوى الأحزاب السياسية اليوم، متسائلاً عمّا إذا كانت لا تزال ضرورة أم أنها تحولت إلى عبء ، ولا شك أن هذا التساؤل يعكس قلقاً مشروعًا حيال واقع حزبي مأزوم، خاصة في سياقنا الكردي السوري، حيث تتكاثر الأحزاب دون أن تنعكس…

صلاح عمر   ثمة وجوه تراها حولك لا تشبه نفسها، تبتسم بقدر ما تقترب من الضوء، وتتجهم حين تبتعد عنه. وجوهٌ لا تعرف لها ملامح ثابتة، تتشكل وفقًا لدرجة النفوذ الذي تقترب منه، وتتلون بلون الكرسي الذي تطمح أن تجلس بقربه. هؤلاء هم “المتسلقون”… لا يزرعون وردًا في القلوب، بل ينثرون شوك الطمع على دروب المصالح. لا تعرفهم في البدايات،…

أزاد فتحي خليل*   لم تكن الثورة السورية مجرّد احتجاج شعبي ضد استبداد عمره عقود، بل كانت انفجاراً سياسياً واجتماعياً لأمة ظلت مقموعة تحت قبضة حكم الفرد الواحد منذ ولادة الدولة الحديثة. فمنذ تأسيس الجمهورية السورية بعد الاستقلال عام 1946، سُلب القرار من يد الشعب وتحوّلت الدولة إلى حلبة صراع بين الانقلابات والنخب العسكرية، قبل أن يستقر الحكم بيد…

بوتان زيباري   في خضم هذا العصر المضطرب، حيث تتداخل الخطوط بين السيادة والخضوع، وبين الاستقلال والتبعية، تطفو على السطح أسئلة وجودية تُقلب موازين السياسة وتكشف عن تناقضاتها. فهل يمكن لدولة أن تحافظ على قرارها السيادي بين فكي كماشة القوى العظمى؟ وهل تُصنع القرارات في العواصم الصاعدة أم تُفرض من مراكز النفوذ العالمية؟ هذه التساؤلات ليست مجرد تنظير فلسفي،…