المعارضة السورية وسياسة «قتل الناطور»

هوشنك بروكا

أثنيت من قبل، في أكثر من مناسبة، على عقلانية “المبادرة اليمنية”، وكتبت فيها أكثر من مرّة، لأنها جنّبت على عكس توقعات الكثيرين، اليمن واليمنيين، معارضين وموالين وما بينهم من قبائل صامتة، خطر الإنزلاق إلى حرب أهلية طويلة الأمد، كان سيخرج الكلّ منها خاسراً.

فلولاها لكان اليمن الآن يمنان أو أكثر، ولكانت التراجيديا اليمنية، أكبر وأفدح من التراجيديا السورية.

المعارضة اليمنية اختلفت على علي عبدالله صالح، لكنها اتفقت على اليمن.

هي اختلفت على “ناطور اليمن” لكنها لم تختلف على “أكل العنب”.

وهذا هو “عين العقل” في الفعل السياسي.
أما المعارضات السورية، لا سيما تلك الممثلة ب”معارضة الخارج”(لا أتحدث هنا، عن “معارضة الداخل” الممثلة في “هيئة التنسيق”، لأنها محسوبة بشكل أو بآخر على النظام)، فهي على العكس من أختها اليمنية، اتخذت منذ البداية، من سياسة “قتل الناطور” بوصلةً وموجهاً لمجمل سياساتها.

ف”المجلس االوطني السوري”، بإعتباره أكبر تحالف سوري معارض، وأكثره تأثيراً، على سبيل المثال لا الحصر، أقفل باب الحوار بينه وبين النظام، منذ الأول من تأسيسه، وذلك عملاً بمبدئه الأساس “لا حوار مع نظامٍ يقتل شعبه”.


لا شكّ أن نظام الأسد، هو نظامٌ أكثر من قاتل،  ومجرم بكلّ المقاييس، بل وأكثر من فاشي، ولكنّ أليس آخر كلّ حربٍ هو هدنة وسلام؛ وآخر كلّ خرابٍ هو بناء؛ وآخر كلّ مشكلةٍ هو حلّ؛ وآخر كلّ أزمة أو ضيقٍ لا بدّ من البحث عن فرج؟
غلق باب الحوار مع النظام، بهذه الطريقة الخارجة على كلّ السياسة، يعني ترك باب الأزمة مفتوحاً على اللاحل، ودفعها نحو المزيد من العناد والعناد المضاد، لا سيما وأنّ كلّ المبادرات العربية والدولية، التي طرحت حتى الآن على الطاولة(بما فيها خطة “مجموعة الإتصال” الجديدة التي لا تزال قيد الدرس بين “الدول المؤثرة” في الأزمة السورية)، اتخذت من الحوار بين كلّ الأطراف مبدأً أساسياً للنجاح والخروج من الأزمة بأقل التكاليف.

ف”إرجاء” الحوار أو “إلغاءه” يعني السير عكس العالم، الذي لا يزال رغم مسلسل القتل اليومي، بالمفرق وبالجملة، المتواصل منذ أكثر من 15 شهراً، يعتبر “الحل السياسي”، الذي لا بدّ أن يمرّ عبر الحوار بين جميع الأطراف، أسلم الحلول وأقلها تكلفةً على الشعب السوري.

هذه هي قناعة العالم، حتى اللحظة في الأقل.


يليق بنظامٍ قاتل كنظام الأسد، أن يرفض الحوار أو حتى “يدوس” عليه، كما يفعل منذ أكثر من أربعين سنة، ولكن لا يليق ذلك بمعارضة ترى نفسها بديلاً لهذا النظام، وتدعي بأنها ستدشن ل”عهد جديد” في “سوريا جديدة”، ليس عطفاً على النظام بالطبع، وإنما رحمةً بالشعب السوري.


في ظلّ انعدام البدائل الأخرى، وتلكؤ العالم في إتخاذ موقف موحّد وحاسم يدفع تراجيديا الدم السوري إلى خط النهاية، كان من الأولى بأهل “المجلس الوطني السوري” أن يفكّر بإنقاذ سوريا قبل أن يفكر ب”إغراق” سفينة النظام.

كان عليه ألاّ ينجرّ إلى فخ النظام الطائفي، وأن يجنّب السوريين من حربٍ أهلية، طائفية، اشتغل النظام منذ الأول من الحراك الثوري على صناعتها.

“المجلس الوطني السوري”، بدلاً من أن ينأى بنفسه عن هذه الحرب الطائفية الفذرة، ويضع تحتها أكثر من خط أحمر، أصبح الآن طرفاً أساسياً فيها.

فعلى الرغم من إعلانه أكثر من مرّة على لسان رئيسه السابق د.

برهان غليون، بأنه ينسّق مع قادة “الجيش السوري الحرّ” ليكون سلاحه سلاحاً “وطنياً” ل”حماية” السوريين و”الدفاع” عنهم في وجه آلة حرب النظام، إلا أنّ الحقيقة السورية على الأرض، تقول بغير ذلك.

ولعلّ التقرير الأخير ل”وكالة الأنباء البابوية”، الذي أشار إلى “أن أعداداً كبيرة من المسيحيين غادروا بلدة القصير في حمص، التي تشهد اشتباكات عنيفة منذ أشهر، بعد أن أنذرهم قائد الثوار العسكري في البلدة، عبر رسالة معلنة من المآذن”، يكشف عن بعض حقيقة هذا السلاح، الذي تحوّل بكل أسف، على ما يبدو، من سلاح كان من المفترض به أن يكون لكل السوريين إلى “سلاح طائفي”، لضرب طوائف أخرى.

هذا ناهيك عن أنّ كل تقارير الأمم المتحدة، ومنظمات حقوق الإنسان الدولية، الأخيرة، تتهم إلى جانب كتائب النظام، كتائب “الجيش السوري الحر” أيضاً، بإرتكاب إنتهاكات ضد حقوق الإنسان، وإن بدرجة أقل.


المتابع لديبلوماسية “المجلس الوطني السوري”، لا بدّ وأنه قرأ التخبط الواضح لقادته، كلما جرى الحديث عن “إمكانية” فتح قنوات حوار مع النظام.

لا يوجد للمجلس شيء إسمه سياسة في هذا المنحى، وإنما هناك “ثارات” و”انتقامات” و”كيديات”.

كلّ ما هنالك، هو أنّ “فوق” المجلس يريد قتل النظام، الذي قتل ولا يزال يقتل في الشعب السوري.

لا شكّ أنّ النظام السوري يستحق جراء جرائمه الوحشية أكثر من إعدام، لكنّ ماذا سيربح السوريون، لو قتلوا النظام وأعدموا كلّ رؤوسه، وخسروا في المقابل سوريا؟ هل سيعيد إعدام الأسد وكلّ من حوله من رموز النظام، حياة قرابة 15 ألفاً من السوريين؟ هل سينسي إعداماً كهذا، فيما لو وقع، آلام ومعاناة وعذابات مئات الآلاف من السوريين، بين مشردين ومهجّرين ومعتقلين وجرحى ومعوّقين؟
 
لا أعتقد أنّ في شعار “لا حوار مع القتلة” أي سياسة.

في السياسة، لا توجد “لا” دائمة، كما لا توجد “نعم” دائمة.

في السياسة، “أكل العنب” هو أهم من “قتل الناطور”.

والأنكى، أنّ على درب هذه السياسة كمقدمة خاطئة، انتهى المجلس إلى الكثير من النتائج الخاطئة.

هو لم يغلق باب الحوار مع النظام فحسب، وإنما أغلقه مع المعارضات السورية الأخرى، التي لا تتخذ من “إسطانبول” مرجعيةً و”محجّاً سياسياً” لها.
ولعلّ أقرب تصريح معبّر عن هذه السياسة “الثأرية”، “الكيدية”(سياسة “قتل الناطور”)، التي يتبناها صقور “المجلس الوطني السوري”، هو تصريح سمير نشار العضو في مكتبه التنفيذي، والذي أدلى به أول أمس على قناة العربية.

في ردّه على سؤالٍ عما يجب القيام به لتجنيب السوريين من مجازر أخرى قد يرتكبها النظام على غرار مجزرتي “الحولة والقبير”، قال نشار ما معناه أن “النظام يقوم بالمجازر لتخويف الشعب السوري وإخماد ثورته، لكنّ ذلك لن يحصل.

الشعب ماضٍ في ثورته ضد نظام الأسد حتى لو كلفته مليون ونصف شهيد”!!
القضية لا تكمن، إذن، في توفير كلفة الثورة على السوريين، فلا مشكلة لدى أهل “المجلس الوطني السوري”، على ما يبدو، في أن يضرب الرقم الحالي للقتلى السوريين الذي يقدّر بحوالي 15 ألف ب 100، ليسقط “مليون ونصف شهيد”، طالما أن النتيجة ستؤدي إلى إسقاط الأسد، “ناطور سوريا”!
دولة بكاملها تضطر أحياناً إلى التفاوض مع خاطف أو قاتل لأجل إنقاذ حياة مواطن لها.

أما أهل المجلس، فمستعدون لقتل “الناطور السوري”، حتى لو راح ضحية عنادهم هذا، مليون ونصف بني آدم!
أنها مفارقة من مفارقات المعارضة السورية: إسقاط النظام حتى لو سقطت معه كلّ سوريا!
أعلم أن الأسد، هو سيد القتل في سوريا، وهو المشرف على كل تفاصيل الدم السوري البريْ، المسفوك في الشوارع، على امتداد المكان من درعا إلى قامشلو.


وأعلم أن الأسد بطباعه الديكتاتورية الموروثة، هو رجل حرب، قبل أن يكون رجل سلام.
وأعلم أن الأسد، كعادة كلّ الديكتاتوريين، على استعداد أن يحكم سوريا “أرضاً بدون شعب”.
وأعلم، كما كتبت مراراً، أن الأسد هو المشكلة الأكبر؛ ليس لسوريا وشعبها فقط، وإنما للجيران والعالم أيضاً.
لكنّ المفارقة ههنا، هي، أن تقلّد المعارضة في بعض ردات فعلها النظام، وأن تقوم وتقعد لكأنها نسخة طبق الأصل منه.
كيف لمعارضة تطرح نفسها بديلاً عن نظامٍ وحشيٍّ، فاشيٍّ، ساقطٍ، قاتل، أن تشرّع “القتل المضاد” أو تستسهله ، لأن النظام يقتل؛ وأن تمارس “التطييف المضاد”، لأن النظام طائفي؛ وأن تؤشكل سوريا لأن النظام مشكلة؛ وأن تقتل كل حوارٍ مع الأفرقاء ومع الأعداء، لأن النظام قاتل؛ وأن “تخوّف” الآخر، لأن النظام يزرع الخوف في نفوس السوريين منذ أكثر من أربعة عقودٍ؟
أكره النظام السوري، لكني لا أحب المعارضة السورية أيضاً!
أخاف النظام السوري، لكني لا أخفي، بأني أخاف المعارضة السورية أيضاً!

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

بناءً على دعوة كريمة من فخامة الرئيس مسعود بارزاني، عقد وفد من هيئة رئاسة المجلس الوطني الكردي في سوريا لقاءً مع فخامته ، حيث جرى في هذا اللقاء تبادل وجهات النظر حول المستجدات الإقليمية والدولية، وبشكل خاص الأوضاع في سوريا بعد سقوط النظام السابق. وتم خلال اللقاء التأكيد على أهمية مشاركة الشعب الكردي في رسم مستقبل البلاد ، وضرورة وحدة…

عبدالرحمن کورکی (مهابادي)* مثل العديد من الألعاب، تعتبر لعبة “الدومينو” لعبة مثيرة وهادفة تعكس حقيقة قاسية للبشر. عندما تبدأ، تنتهي. ربما يشير مصطلح “بداية النهاية” إلى هذا الأمر. إلا إذا كان هناك عامل يمكن أن يوقفها. عامل عادة ما يكون في يد مصممها! لكن هل هناك قائد في الشرق الأوسط يستطيع قلب الطاولة لصالحه؟ إن إطلاق شرارة لعبة الدومينو…

د. محمود عباس في لقائه الصحفي الأخير اليوم، وأثناء رده على سؤال أحد الصحفيين حول احتمالية سحب القوات الأمريكية من سوريا، كرر خطأ مشابهًا لأخطائه السابقة بشأن تاريخ الكورد والصراع الكوردي مع الأنظمة التركية. نأمل أن يقدّم له مستشاروه المعلومات الصحيحة عن تاريخ منطقة الشرق الأوسط، وخاصة تاريخ الأتراك والصراع بين الكورد والأنظمة التركية بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية. للأسف، لا…

إبراهيم اليوسف ليست القيادة مجرد امتياز يُمنح لشخص بعينه أو سلطة تُمارَس لفرض إرادة معينة، بل هي جوهر ديناميكي يتحرك في صميم التحولات الكبرى للمجتمعات. القائد الحقيقي لا ينتمي إلى ذاته بقدر ما ينتمي إلى قضيته، إذ يضع رؤيته فوق مصالحه، ويتجاوز قيود طبقته أو مركزه، ليصبح انعكاساً لتطلعات أوسع وشمولية تتخطى حدوده الفردية. لقد سطر…