ومما يجدر ذكره في هذا الصدد هو أن القضية الفلسطينية أخذت أبعاداً على الصعيد العالمي والمجتمع الدولي لم تأخذها قضية شعب آخر في هذا العالم في العصر الحديث ، فقد وقفت إلى جانبها الغالبية الساحقة من دول العالم ، ووصل الأمر إلى حد أنها كانت تحظى في الأمم المتحدة بتأييد إجماع أصوات دول العالم عدا الولايات المتحدة وإسرائيل طبعاً ، وكان هذا الوضع حافزاً هاماً للشعب الفلسطيني لأن يتابع مسيرته النضالية ، وتستمر المقاومة من أجل انتزاع حقوق الشعب الفلسطيني.
وحدثت عدة حروب بين الدول العربية وإسرائيل كانت أولها عام 1948م ولم تتمكن من الانتصار فيها نظراً ًللوضع العسكري المتواضع للدول العربية آنذاك ثم قامت الحرب الثانية في حزيران عام 1967م وكانت أشمل وأكثر بعداً بكل المقاييس ، وألحقت هزيمة ساحقة بالجيوش العربية واحتلت إسرائيل أجزاء هامة من سوريا ومصر والأردن التي دخلت الحرب ، وكانت هذه الحرب ضربة قاصمة للحكومات والاتجاهات الشوفينية في المجتمع العربي ورغم هذه الهزيمة الكبيرة لم ينته الصراع بل استمر بشكل أكثر دقة واهتماما بالوضع الدولي والجيوش العربية خاصة مصر وسوريا.
ثم بادرت مصر وسوريا بشكل ثنائي بشن هجوم مفاجئ على إسرائيل في تشرين أول عام1973 وألحقت بها خسائر كبيرة مما دفعها في المرحلة الأولى عن التراجع عن بعض المواقع المحتلة ولا شك أن هذه الحرب أعادت إلى الشعوب العربية وجيوشها نوعاً من الثقة بالنفس على عكس الحروب السابقة رغم أنها لم تحقق تحرير الأرض المحتلة ، لكن هذه الحرب هي الأخرى لم تحسم الصراع لصالح أي من الجهتين وقامت حرب أخرى أو ما تسمى بالحرب الرابعة.
حيث هاجمت إسرائيل المنظمات الفلسطينية المتواجدة في لبنان عام 1982 بعد أن أصبحت هذه المنظمات وعلى الأخص منظمة فتح قوة كبيرة يحسب لها الحساب ، فاحتلت الجنوب اللبناني وجزءاً من العاصمة بيروت إلا أنه نتيجة لضغط المجتمع الدولي اضطرت إسرائيل إلى الانسحاب من لبنان ، ولكن الصراع لم يحسم أيضاً وظل يراوح في مكانه دون أن تجد القضية الفلسطينية حلاً بالقوة والعنف ، ثم قام الرئيس المصري أنور السادات بزيارة مفاجئة لإسرائيل 1977ووقع معها لاحقاً معاهدة سلام وعدم اعتداء ، أنهت الصراع بين مصر وإسرائيل وقوضت هذه المعاهدة إلى حد كبير إمكانية الدول العربية متابعة الصراع مع إسرائيل ، ثم وقع الأردن بدوره معاهدة أخرى مع إسرائيل ، وهكذا بات من الصعب متابعة الصراع المسلح المعتمد على الجيش مع إسرائيل بعد خروج مصر والأردن من دائرة الصراع وهما من دول المواجهة لإسرائيل ويشكلان القوة الأساسية في المواجهة .
بعد هذه التطورات أيضاً لا يمكن القول بأن الصراع العربي الإسرائيلي قد انتهى وإنما تحول الآن إلى صراع بين سوريا وفلسطين من جهة وإسرائيل من جهة ثانية على الرغم من أن الاهتمام الدولي والإقليمي لم يقل بعد أن أبرمت كلاً من مصر والأردن معاهدات سلام مع إسرائيل.
وفي هذه الظروف الصعبة بادر الشعب الفلسطيني إلى القيام بانتفاضته الأولى عام 1987 والتي شارك فيها الأغلبية الساحقة من أبناء الشعب الفلسطيني ، ودامت سنوات عديدة ، وكانت بحق شكلاً جديداً من أشكال النضال الوطني ، حظيت بإعجاب وتقدير العالم كله ، وسميت بانتفاضة الحجارة ، ثم توقفت لفترة من الزمن لتبدأ المفاوضات بين الطرفين ، ولما وصلت المفاوضات إلى طريق مسدود ، ولم تحقق أياً من مطالب الشعب الفلسطيني عاود مرةً أخرى الانتفاضة ، وسميت هذه الانتفاضة الثانية بانتفاضة الأقصى ، وهي لا زالت مستمرة حتى هذا التاريخ ، ولا زال الصراع على أشده.
أن الحالة القائمة اليوم لا توحي بأن الدول العربية تستطيع أن تحرك هذا الصراع نظراً لاختلال موازين القوى السياسية والعسكرية خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي الذي وقف في مرحلة الحرب الباردة بين الشرق والغرب إلى جانب حركة التحرر العربية وعلى الخصوص المقاومة الفلسطينية ثم إن الولايات المتحدة الظهير القوي لإسرائيل بات اليوم القوة العظمى الوحيدة المهيمنة على العالم ، إلى جانب الاتحاد الأوربي الذي كان ولا زال يتعاطف مع دولة إسرائيل.
أما النتائج التي آل إليها الصراع العربي – الإسرائيلي حتى الآن هي أن الدول العربية وخاصةً دول المواجهة تخلفت عن ركب الحضارة والتطور المنشودين في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية جراء هذا الصراع ، نظراً لأن هذه الدول خصصت نسباً عالية جداً من ميزانياتها السنوية للمجهود العسكري والتسلح ، وجوانب أخرى متعلقة بهذا الصراع، ولم تول مطالب شعوبها الاهتمام المطلوب.
وفي الجانب الآخر فقد أتبعت إسرائيل سياسة ضم الأرض والتوسع من خلال مجريات هذا الصراع حتى أصبحت المساحة التي تهيمن عليها إسرائيل اليوم ضعف المساحة التي قررتها هيئة الأمم المتحدة عام 1947.
أما الدرس الذي يمكن استخلاصه من الصراع العربي الإسرائيلي منذ عام 1948م وحتى اليوم هو أن الأنظمة الرجعية والشوفينية برهنت عن عجزها القيام بأعباء مرحلة التحرر الوطني الديمقراطي فاستغلت الصراع العربي الإسرائيلي خلال عدة عقود لتثبيت دعائم أنظمتها وكم الأفواه بذريعة متطلبات مواجهة العدو الصهيوني بدلاً من اتخاذ خطوات جدية على طريق تعزيز الوحدة الوطنية ، والتوجه نحو الحياة الديمقراطية التي من شأنها تعزيز الروح الوطنية لدى المواطنين ، وخلال عقود من هذا الصراع ظلت حالة الطوارئ وقانون الأحكام العرفية سارية المفعول ، وفرضت قيود قاسية على النشاط السياسي والحزبي حتى انعدم معها تلمس أي نشاط للقوى والأحزاب السياسية في البلاد ، وإذا طالبت جهة أو تنظيم ما بتطبيق النظام الديمقراطي وإفساح المجال أمام القوى والتنظيمات السياسية لتمارس نشاطها بحرية توجه إليها التهمة المعهودة وهي أن مثل هذه الطروحات إنما تخدم العدو الصهيوني ( على حد زعمها ) وإذا ما طالبت شخصية أو مثقف بحرية الرأي والتعبير وجهت إليها أصابع التشكيك وبث الأفكار المسمومة ) وهكذا فأن الشعوب لم تكن هي صاحبة القرار السياسي ، والدول العربية في معظمها كانت ولا زالت تمارس أنواع القمع والتنكيل ومصادرة حرية الرأي والتعبير، بينما الشعوب العربية تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة الديمقراطية التي تعوّل عليها شعوب العالم أجمع كعامل أساسي في نهضتها الوطنية والاقتصادية وتقدم وازدهار بلدانها ، لأن ذلك يعتبر السلاح الأمضى في وجه الأعداء الذين يحتلون بلدانها.
أن الصراع العربي الإسرائيلي الذي استمر حوالي ستين عاماً حتى الآن كلف ثمناً باهظاً في المجال الاقتصادي والسياسي والثقافي والاجتماعي ، وأفرز حقائق لا يمكن تجاهلها وهي أن الحل العسكري الذي اعتمد في المرحلة السابقة لم يحقق أهداف أي من الطرفين، فالدول العربية وكذلك القوى الأساسية للشعب الفلسطيني باتت على قناعة بأنه يمكن إقامة السلام مع إسرائيل إذا كان على أساس عادل وشامل ، وليس من المعقول إغفال هذا الواقع كما تفعل بعض الفئات والقوى والأحزاب السياسية في الوسط العربي.
وعلى إسرائيل أن تدرك على أنه لا بدّ من الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني بما فيها إقامة دولته الوطنية المستقلة وأن تفوقها العسكري لن يجلب لها السلام والتعايش السلمي مع الدول العربية في هذه المنطقة ، وأن سياسة ضم الأراضي وبناء المستوطنات والتوسع التي تطالب بها القوى والأحزاب الإسرائيلية المتطرفة لا تخدم عملية السلام وتدفع المنطقة إلى مزيد من الحروب والمآسي وعدم الاستقرار .
انطلاقاً من هذه الحقيقة ، فإن الحل المقبول الذي يمكن أن يشكل الأرضية المناسبة لإنهاء هذا الصراع هو ذلك الذي ينبع من المفاوضات بين الطرفين على هدى مؤتمر مدريد “والذي شعاره الأرض مقابل السلام ” والقرارات الدولية ذات الشأن والتي تشكل بداية إيجابية وتلقى التأييد من المجتمع الدولي.
* سكرتير الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا