“إن أمةً لا تتصالح مع ذاتها، لا تناقش ماضيها، تحت ضوء الشمس، ولا تستوعب تاريخها بكل ما فيه من نقاط ضوءٍ وظل، محكومٌ عـلـيها أن تكرر أخطاءها إلى الأبد”
عموماً المجلس موجود ولا بد من التسليم لما هو كائن وحمد وجوده، ولكن هل حقاً بلغ الموجود منذ انطلاقه مقامه المحمود؟ مقارنة بما كان مشيداً في الأفكار والتصورات، وهل كانت الغاية الاستراتيجية هي فقط في بناء ما يشبه المؤسسة كهيكل؟ ولا بأس بعدها في التساهل مع المضمون ولو جاء مناقضاً للممنون، أم كان الهدف الأسمى هو في أن يكون المُنجَزَ بمثابة مرجعية سياسية وقانونية لمجمل الكرد السوريين؟ إذن أين هي المعايير اللازمة لتصبح فعلاً أعلى مرجعية ويكون الصرح المعنوي بمثابة كونكرس كردي حقيقي، فلا يكون التمثيل فيه محاباتي أو نكاياتي، إرضائي أو محسوبياتي، ثم هل كل من انضوى تحت خيمته هم أهلٌ لأن يكونوا من بُناة أعمدتها؟ وهل حقاً تجاوزوا أحابيلهم السياسية وبلغوا اليقين الوفاقي فيما بينهم؟ وغدا جلهم من عوامل التقدم والجذب والانسجام، أم أنه سيبقى من لا يليق بهم إلا تبيان الفهلوة وأخذ الدور المشتِتِ والمبَعثِر للكوادر والطاقات بما أنهم أينما حلوا يحضر معهم النفور مكان السرور؟ طالما كان وجودهم في الإجماع مبني على الحاجة المرحلية والضغط الجماهيري أي أن وضعهم يقارب الإرغام أكثر من القناعة والوئام، بما أنهم زُرعوا في تربةٍ لا تتواءم بسهولة مع المزروع، إذ يحتاج الاندماج لعودة الثقة التي كانت معدومة منذ سنين وشهور بين الأطراف التي ظلت تعامل النظام بمنتهى الخنوع والغباء، فيما عاملوا بعضهم بعضاً بكل الخبث والدهاء، لذا فالكل بحاجة للاعتذار من الكل، حتى يبادروا إلى مراجعةٍ شاملة لما مضى والاعتراف بالخطايا والشراك التي نصبوها في دروب بعضهم، ويتسامحوا قبيل القسم النضالي، ومن ثم يتطهروا بمشاعل القضية للتخلص من رواسب السنوات السابقة قبل القيام بأية جهودٍ جماعية، ثم أليس مبالغٌ فيه تحميل الفيل القاصر هذا الثقل البشري؟ وهل كان صنع الإطار هو لإرضاء الكل على حساب الشغل؟ إذ كيف سيستطيع هذا الكم الهائل من الكتل الآدمية العمل والإنتاج في محفلٍ لا يسمح طاقة استيعابه نصف ما حُشر فيه؟ ألن يكون الحشد عبئاً على الفعالية والمكان؟ وهل كانت الغاية من التأسيس هو جمع أكبر عدد من الناس لا لإعمال أفكارهم بما يفيد ويُثمر، إنما لإشغالهم ببعضهم حتى يمل الواحد منهم ويضجر، بما أن المساحة السياسية لا تسمح لكل هؤلاء للعمل معاً في مربعٍ محدود الإمكانيات والتخوم .
هذا ناهيك عن المقابح التي ظهرت أثناء انتخاب الهيئة التنفيذية وذلك من خلال الاستقتال المحموم من لدن معظم من جاهد للوصول إلى ذلك المقام المنشود، علماً بأن لا وجود لامتيازات أو مغريات تُذكر لمن سيشغل ذلك المقعد البلاستيكي، إذ من أول مشوارٍ من مشاوير الصعود التراتبي لتسنم الأماكن في الطوابق العليا وتحديد المهام وتوزيع الصلاحيات فاحت روائح التعطش لاعتلاء المناصب، وتفتقت بثور الحب الفطري للسلطة لدى الرعية أو من يعدون أنفسهم نواباً عنهم، فاختفى الإحساس بخطورة المسؤولية الملقاة على عاتق متخذي القرارات في هذه المرحلة الحرجة والحساسة، فيما بقي الرقيب الذاتي خارج القاعة وغادرت الشفافية من أول جولةٍ من جولات الاختيار، وحضرت الخبثنة الحزبية بكل خستها في اصطفاء المختارين عن فئة اللامتخندقين، إذ أن كوتاتهم المضمونة لم تُشبع غرائزهم الاستحواذية، لذا حشروا أنوفهم في اختيار المستقلين أيضاً، فظهر وكأن التمثيل الأكبر في مركز القرار كان الهاجس الرئيس لدى بعضهم، لذا تغلغلت الألاعيب الحزبية وانصرفت الديمقراطية من الصالة مقهورة ومكسورة الخاطر ولم تحضر حتى عند انتقاء أصغر حلقة من حلقات الانتخاب، كما غاب ميزان إدراك الذات وتربعت في صدر المجلس بيادر الأنوات، وذلك عند أغلب من استساغوا بلوغ مرقى السنام الجميل، إذ كان يلزم الكثير قبل التسابق الإطلاع أولاً على الثقافة السقراطية فيما يتعلق بمعرفة الذات، حتى يصغر واحدهم أمام نفسه ويُدرك بأنه لن يكون في مكانه المناسب إن تقدم وأخذ مكان من سيكون أهلاً لذلك المكان، إلا أن النفخة الأناوية عززتها الأجندات الحزبية من خلال دفع مواليهم ليرتقوا مواقع سواهم، هذا فيما يتعلق بفئة المعدين كمستقلين مضافاً إليهم طبعاً فرقة المستقلات.
أما فيما يتعلق بفئة الشباب والمراهقين فحدِّث ولا حرج إذ من أول جولة بانت مكامنهم المحاكية تماماً ثقافة أسلافهم، فكانت سلوكياتهم مستقاة بحرفية عن قيادات الحركة الكردية وربما أزود قليلاً، بما أنهم ولدوا في زمانٍ غير زمانهم، وبكونهم ما يزالون من منتقدي ذلك السلف في كل محفلٍ ومناسبة عن قصة تمسكهم بأرائك السكرتاريا، فشابهوهم في المثالب عينها وذلك من خلال تشبث الشبيبة بالمناصب وهوسهم الزائد في تبوء المواقع القيادية، وكذلك من خلال مداخلاتهم الهجومية في سبيل الاستحواذ على أكبر قدر ممكن من الكراسي البائسة كبؤس سياستنا.
وثمة تساؤلات أخرى لابد من وضعها في متناول من يحلو لهم الإجابة عليها، تُرى هل سيستمر المجلس بالسير على هذه الوتيرة السلحفاتية إلى آخر عهده؟ وإلى متى سيظل بمثابة المُنقذ والمُخَلص لا للشعب الكردي فحسب إنما لفئاتٍ كان من المفروض تعريتهم قبل الانضمام؟ لذلك ارتموا بداخله ليكون المجلس بمثابة الحصن الحصين لمن كانوا يستحقون النبذ والتشهير على ما كانوا يفعلون قبل حصولهم على صكوك الغفران من المجلس المبارك، وهل يا تُرى سنلمح وجوه المستقلين في دوراتٍ لاحقة، هذا إذا ما استمرت التجربة ولم تفشل؟ طالما المؤشرات تقول بأنهم ربما يتقهقرون تباعاً أو ينزوون في زوايا التآكل والاجترار، أو يُدفع بهم من الميدان بالوسائل الإلتوائية من خلال المضايقات والمزاحمات الحزبية لهم في كل مهجعٍ أوموقفٍ أومناسبة، ومن ثم الإتيان مكانهم بمستقلين لا يعرفون ألف باء الاستقلال حتى ترتاح لوجودهم الغرف الحزبية، وأليس من المفروض إيجاد بدائل أخرى تكون أكثر فاعلية وأكثر نقاوة من الآلية المعمول بها في المرحلة الراهنة؟ وما هي الأمصال المطلوبة لإمداد من داهمتهم الخيبة في قلب المجلس ناهيك عمن يعممها في الخارج لكي تغذيهم ببعض قطرات الأمل، وأخيراً أُعيد صياغة جملة ٍ قلتها بطريقة أخرى فأكرر قولها، تُرى ما السبيل الأنجع للتخلص من مشكلة الحَمل العنقودي في رحم المجلس لكي نحافظ على حياة الأم على أقل تقدير ولو ضحينا ببعض الأجنّة .