أبعاد الصراع في الشرق الأوسط -1-

 

عبد الحميد درويش
سكرتير الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا

يمتد الصراع في الشرق الأوسط إلى أمد بعيد وقرون مضت ، حيث كانت هذه المنطقة محطةً للغزاة ومسرحاً للتنافس بين الإمبراطوريات كالفارسية والبيزنطية واليونانية وغيرها، إمبراطوريات كان لها دور كبير في الأزمنة الغابرة – ذلك لأن هذا المنطقة تمتاز بموقع جغرافي يتوسط الغرب الأوربي والشرق الآسيوي ، ولأنها تحتوي على خيرات طبيعية هامة ويمكن القول بأن هذا المنطقة شهدت أكثر الصراعات في العالم وأطولها على مر التاريخ ، ومن أهم تلك الصراعات الحملات الصليبية ، التي كانت فريدة في شراستها وحجمها وطول استمرارها كونها اتخذت طابعاً دينياً وصراعاً على الأماكن المقدسة فقد حدثت ثمانية حملات صليبية واستمرت فترة 176 عاماً فهي بدأت عام 1095 وانتهت بتاريخ 1271 وشارك فيها عشرات الآلاف من فرسان أوربا ومن مختلف القوميات هناك وكذلك أعداد كبيرة من جيوش صلاح الدين الأيوبي .

وعندما نستعرض إبعاد الصراع في الشرق الأوسط ، فأننا لا نقصد ذلك الذي مضت عليه قرون ، وإنما نوّد التطرق بإيجاز شديد إلى هذا الصراع في التاريخ المعاصر وتحديداً منذ أوائل القرن الماضي وحتى اليوم ، وعلى الخصوص دور الحركة الكردية والفلسطينية في هذا الصراع .
يعيش الشعب الكردي في منطقة الشرق الأوسط منذ عدة آلاف من السنين ، وإن اختلف وضعه السياسي والاجتماعي من وقت لآخر نتيجة الصراعات القائمة على هذه المنطقة وخلال فترة طويلة نسبياً عاش الكرد ضمن حدود الإمبراطورية الفارسية الذين ينحدرون مع الكرد من سلالة أثنية واحدة كما تؤكد الدراسات والأبحاث التاريخية ، وكان لهم في هذه الإمبراطورية عدد من الإمارات ذات الحكم الذاتي التي جسدت الشخصية القومية للشعب الكردي ، وظل الأمر هكذا حتى عام 1514 عندما خسرت إيران الحرب مع الدولة العثمانية في معركة جالديران فاضطرت إلى عقد اتفاقية معها وافقت من خلالها على تقسيم كردستان معها ، وتحمل الكرد جراء ذلك أنواعاً من المعاناة حيث كان كل طرف يحاول السيطرة على كردستان بكاملها ، فالفرس كانوا يتطلعون إلى استعادة ما فقدوه في الحرب ، والعثمانيون كانوا ينوون السيطرة على الجزء الآخر الذي بقي تحت السيطرة الفارسية ، وعلى هذا الشكل تبلور الصراع بينهما ، يحاول كلٍ منهما استمالة الشعب الكردي ، تارةً ليقف إلى جانبه أو أنه يقوي ويعزز قدراته العسكرية بانتظار الفرصة السانحة للهيمنة على كردستان بأكملها.
وخير وصف لوضع الشعب الكردي في تلك المرحلة هو ما قاله الشاعر الكردي الكبير أحمد خاني عام 1105 هـ حيث يقول ما ترجمته :
            الترك والفرس يحاصرون                الكرد من الجهات الأربعة
وأن كلاهما الترك والفرس               قد جعلا الكرد هدفاً لسهامهم
ورغم صلابة الكرد إلا أنهما                   قيدوا الكرد بإحكام شديد
يلطخون الكرد بدمائهم ويشقون             صفوفهم كما يشق الماء اليابسة
وجرت عدة حروب بين الدولتين التركية والفارسية لتحقيق هذا الهدف وبقيتا على تناقض مستمر خلال مرحلة طويلة تجاه الشعب الكردي واستمر الوضع على هذا المنوال حتى عام 1916 حيث تم إبرام اتفاقية سايكس – بيكو التي تم بموجبها تقسيم كردستان مرة أخرى ، والتي كانت إيذاناً بتفكك الإمبراطورية العثمانية – التي سميت آنذاك بالرجل المريض – ونهوض الحركات القومية في منطقة الشرق الأوسط من أجل الحرية وحق تقرير المصير ، ومن ضمنها حركة التحرر الوطني للشعب الكردي التي خاضت نضالات شاقة وقاسية في كلٍ من تركيا – إيران – العراق لكنها قمعت بكل قسوة ووحشية ، والعامل الذي يجب ذكره في هذا المجال هو أن إستراتيجية الدول المهيمنة على كردستان تغيرت بعد اتفاقية سايكس – بيكو وأصبحت هذه الدول تبحث عن عوامل وعناصر الاتفاق بدل المواجهة والتناحر فيما بينها لمواجهة حركة التحرر الوطني الكردية في بلدانها.

ولهذه الغاية عقدت هذه الدول معاهدة سعد آباد عام 1930 والتي كان الهدف الرئيسي منها قمع الحركة الكردية من جهة وحركات التحرر الوطني في المنطقة ، وما كان يسمى بنفوذ الاتحاد السوفييتي سابقاً من جهةٍ أخرى.
وتعاونت هذه الدول فيما بينها في قمع الحركة الوطنية الكردية واستطاعت أن تقضي على الثورات والانتفاضات الكردية مثل ثورة الشيخ محمود الحفيد وثورة أيلول عام 1961 في العراق وثورة الشيخ سعيد بيران 1925، وحركة إحسان نوري باشا في تركيا عام 1937 ، والقضاء على جمهورية مهاباد في إيران 1946
وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وتزايد نفوذ الاتحاد السوفييتي في العالم والشرق الأوسط ، بادرت الدول المهيمنة على كردستان مرةً أخرى إلى عقد حلف بينها عام 1955 سمي بحلف بغداد ، وضم هذا الحلف كلٍ من تركيا – إيران – العراق – باكستان – بريطانيا وانضم إليه فيما بعد الولايات المتحدة الأمريكية وكان هدف الحلف المعلن هو القضاء على الحركة القومية الكردية في الشرق الأوسط إلى جانب الوقوف في وجه الاتحاد السوفييتي ونفوذه في المنطقة والعالم ، وكذلك ضد حركات التحرر الوطني المناهضة للإمبريالية ، وعلى إثر ذلك ازدادت حدة الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي.
وفي ظل أجواء الحرب الباردة قام المعسكر الغربي بدعم الأنظمة والحكومات الموالية له والمعادية للاتحاد السوفييتي والمعسكر الشرقي ، ومارست هذه الأنظمة في الشرق الأوسط والعالم أقسى أنواع الممارسات الدكتاتورية والقمعية ضد شعوبها وضد حركات التحرر الوطني ، ورغم أن المعسكر الغربي كان يدّعي الدفاع عن الحريات العامة والأنظمة الديمقراطية إلا أنه كان في حقيقة الأمر يدعم ويساند الأنظمة ذات الطابع الفاشي والدكتاتوري بذريعة معاداة الشيوعية.
أما الاتحاد السوفييتي فقد دعم وساند في البداية حركات التحرر الوطني الأمر الذي ساعد الكثير من الشعوب للتحرر من النير الاستعماري ، لكن من الجدير ذكره بأنه قام أيضاً بدعم ومساندة أنظمة وحكومات كانت غاية في الدكتاتورية والقمع لشعوبها لمجرد أنها كانت تدعي شكلاً التزامها بالماركسية ، أو إعلان معاداتها للمعسكر الغربي الرأسمالي.
وبالنسبة للشعب الكردي فقد كانت مرحلة الحرب الباردة من أسوأ المراحل التي مر بها شعبنا في العصر الحديث ، حيث باتت قضيته في طي النسيان وعدم المبالاة من المعسكرين الذين لم يوليا أية أهمية لحقوق الإنسان والديمقراطية أو حق تقرير المصير للشعوب ، ومارست الدول المهيمنة على الشعب الكردي أشرس أنواع القمع والتنكيل ضد هذا الشعب المطالب بحقوقه القومية حتى وصل الأمر إلى استخدام مختلف أنواع الأسلحة الفتاكة بما فيها أسلحة الإبادة الجماعية أي الأسلحة الكيماوية ، ولم يتحرك أي من المعسكرين لمنع أو على الأقل لشجب هذه الممارسات ، فالمعسكر الغربي الرأسمالي كان يقف بقوة إلى جانب كلٍ من تركيا وإيران كونهما من معسكره ومؤيديه رغم تنكيلهما بالشعب الكردي ولم يتقدم يوماً لتأييد الحركة التحررية الكردية في العراق وسوريا أيضاً كي يتحاشى إغضاب أعوانه في تركيا وإيران .

والاتحاد السوفييتي علاوةً على أنه كان يغمض عينيه عن الممارسات القمعية في العراق وسورية فهو أيضاً كان يتجنب التطرق للقضية الكردية في تركيا وإيران المعاديتين له كي لا يثير حكومتي العراق وسوريا ، ولكن بذريعة المحافظة على السلم العالمي ، وتحاشي التطرق للمواضيع والمسائل التي تزيد من حدة التوتر بين المعسكرين ( على حد زعمه ).
لقد مر الشعب الكردي كما أسلفنا بمراحل عصيبة وصعبة ، ومورست ضده أعمال قمع قلما شهد التاريخ مثيلاً لها ، وظلت قضيته بعيدة عن الأنظار واهتمام المجتمع الدولي والرأي العام ، ورغم ذلك حافظ على كيانه ولغته وخصائصه القومية ، ولأول مرة في تاريخه دوّلت قضيته عندما فرضت أمريكا وفرنسا وبريطانيا حماية دولية على الشعب الكردي في كردستان العراق عام 1991 واستمرت هذه الحماية حتى سقوط حكم الدكتاتور صدام حسين عام 2003 ، وبعد ذلك تم الاعتراف بالفيدرالية للشعب الكردي في الدستور العراقي الجديد ، ولكن لا زالت المناقشات تدور على صفحات الجرائد وفي الفضائيات بين التيارات والقوى السياسية وهناك فئات في الوسط العراقي تنكر على الشعب الكردي حقه في الفيدرالية ، وتعتبرها خطوة نحو الانفصال عن العراق وانتقاصاً لوحدته وسيادته.كما أن البعض من أبناء الشعب الكردي يرى بأن هذا الشعب شأنه شأن سائر شعوب الأرض له ( حق تقرير المصير ) وإنشاء دولته القومية المستقلة وليس أقل من ذلك ، وأن الفرصة في العراق في هذه الظروف ملائمة ويجب استغلال ذلك لتحقيق حلم الشعب الكردي.
إننا نعتقد بأن المرحلة الراهنة التي يمر بها الشعب العراقي بوجه عام والكردي بوجهٍ خاص أحوج ما تكون إلى عراقٍ ديمقراطي فيدرالي وموحد لأن ذلك يخدم الشعب العراقي بعربه وكرده وسائر أقلياته القومية ، وإن التنكر للشعب الكردي بحقه في الفيدرالية لا يخدم العراق من بعيد أو قريب ، ويفكك الوحدة الوطنية لهذا البلد ، ويعيده إلى العهود المظلمة التي مارس فيها الحكام سياسة الاضطهاد والتمييز القومي ضد الكرد والقمع والتنكيل ضد القوى والأحزاب المناضلة من أجل الحرية والديمقراطية ، كما أن الانفصال عن العراق في هذه المرحلة لا يخدم الشعب الكردي بل يشكل خطراً عليه ، ويثير من حوله الدول التي تهيمن على كردستان ويوفر لها ذريعة للتدخل السافر والسعي للقضاء على الدولة المنوي إعلانها ومن ثم طمس الحقوق القومية للشعب الكردي بما فيها الفيدرالية ، ولهذا فبأن صيغة الفيدرالية هي أفضل ما يمكن أن يخدم العراق في هذه المرحلة ، ويمكن من خلال ذلك فقط صيانة وحدة العراق وسيادته ، وتطويره سياسياً واقتصادياً وثقافياً ، وتأمين الحقوق القومية للشعب الكردي وتطويرها من خلال النظام الفيدرالي الذي سيشكل ولا ريب ظهيراً وسنداً للشعب الكردي في الأجزاء الأخرى وعامل ضغط على الدول المهيمنة على كردستان ويضعها أمام حقيقة واضحة وهي أنه لم يعد بالإمكان التغاضي عن الاعتراف بحقوق الشعب الكردي ، ويجب أن تقتدي هذه الدول بالعراق كمثال للتعايش السلمي بين عدد من الشعوب التي تعيش في بلد واحد.
إن الظروف الداخلية والإقليمية والدولية التي تحيط بالشعب الكردي في هذه المرحلة الدقيقة تضع أمام المناضلين والوطنيين الكردي مهمة تحديد صيغة واقعية وموضوعية ، وإذا كنا نؤيد اختيار أبناء الشعب الكردي في العراق ” بأن الفيدرالية هي الصيغة الواقعية لحل القضية الكردية في هذا البلد “.فإن أبناء الشعب الكردي في كلٍ من تركيا – إيران – سوريا تقع على عاتقهم مهمة النضال مع القوى الوطنية من أجل إيجاد أنظمة ديمقراطية في بلدانها ومن ثم اختيار الصيغة التي تلائم وضعهم وتضمن حقوقهم القومية والتي تنسجم مع إمكاناتهم النضالية وخصائصهم القومية بعيداً عن العواطف وردود الأفعال.
وإن هذا الطرح لا يعني كما يتصور البعض بأن الكرد يتخلون بهذا الشعار عن حقهم في تقرير المصير ، وإنما لأن المرحلة تتطلب قبل كل شيء تحقيق أنظمة ديمقراطية في هذه البلدان حتى يتمكن الشعب الكردي من العيش مع شعوب هذه البلدان باختياره الحر وليس عن طريق القهر والقوة.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…