خيراً فعلت … يا قاضي العصر

بقلم:توفيق عبد المجيد 
    

لقد أطلت شمسك من خلال كم هائل من الركام والأنقاض … من خلال غيوم داكنة السواد فأرسلت خيوطاً ذهبية باتجاه الأرض المتشحة بأثواب الحداد … لتلامسها برفق وحنان … لتعيد إليها البسمة والأمل والبشرى بعد هذا السبات الشتوي الطويل … لتنسيها كآبة العقود ومئات السنين من العذابات والمعاناة والغربة والاضطهاد… لتدب فيها الحياة التي فقدتها من جديد
منذ أن وجدت على ظهر هذه البسيطة … من أيام الصحابي سعد بن عبادة الذي قتلته الجن … مروراً بالمغدور مالك بن نويرة الذي قتل بسبب زوجته أم متمم … معرجة على بلاد الرافدين … مستعيدة بحزن وألم مذبحة الحسين …مستذكرة دفن الرؤوس في بلاد والأجساد في بلاد أخرى … مرددة وبمرارة عبارة ( كتاب الله بيننا وبينكم ) في مهزلة التحكيم التي اتبعها داهية العرب معاوية بن أبي سفيان عندما ثبته وكيله كما يثبت الخاتم في إصبعه … والمعركة التي خسرها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عندما خلعه وكيله عن الخلافة كما يخلع الخاتم من إصبعه .


ثم تتابع سيل الدماء بالجريان في عهد الأمويين … وتتابعت معارك البطش والتنكيل … فتدحرجت الرؤؤس التي بلغت حد الإيناع بكثرة … وبدأ فصل دموي انتقامي آخر عندما غادر قطعة الرؤوس ساحة التاريخ متجسداً هذه المرة بوجه آخر للوحشية البشرية التي حاولت الانتقام من الأعداء بحفر القبور ونبشها والتمثيل بالهياكل العظمية المدفونة .
نعم يا سيدي القاضي رزكار أمين – واسمح لي أن أخاطبك بهذه العبارة – إنه تراث ضخم من البطش والتنكيل وقطع الرؤوس … ومن ( السحل والجر في الشوارع ) مطمور في باطن كتب التاريخ … مختزن في اللاشعور الجمعي لهذا الشعب المبتلى بطغيان الطغاة منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا … فهل تستطيع أن تحكم بين الناس بالعدل في بلاد المحاكم الثورية الميدانية والمقابر الجماعية والانقلابات المتعددة … في بلاد الإرث الانتقامي … بلاد التصفيات الجسدية … في بلاد تخلو قواميسها من لفظة ( المعارضة ) والمحاكم العادلة والقضاء النـزيه المستقل …في بلاد لم يتعود فيها المواطن على دفاع المتهم عن نفسه … في بلاد هي صاحبة القاعدة القانونية ( المتهم بريء حتى تثبت إدانته ) … في بلاد لم تعثر فيها السلطة القضائية على مكان لها حتى اليوم ؟
لقد ابتلى الشعب العراقي بالحزن والدماء والدموع من أيام يزيد بن معاوية والحجاج بن يوسف الثقفي صاحب مقولة ( إني أرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها ) مروراً بسيف صدام الذي قطع رؤوس عشرات الآلاف ، بل مئات الآلاف دون أن يذرف دمعة ، ورؤوس العشرات من رفاق الأمس القريب دون أن ترف له شعرة في محاكم ميدانية لحظوية وقتية آنية ارتجالية وهو يحكم عليهم بالإعدام دون محاكمة أو مدعين أو شهود .
سيدي القاضي !! أعتقد أنك تتذكر جانباً من محاكم الثورة التي لم تكن تخضع أبداً لقانون وعرف وقضاء … أعتقد أنك قرأت شيئاً عن محكمة نوري السعيد الشارعية ورفاقه ، والعائلة المالكة التي استؤصلت عن بكرة أبيها في مذبحة رهيبة يندى لها الجبين الإنساني… كما أعتقد أنك تتذكر مشاهد عديدة من محاكم المهداوي ، ومحكمة الزعيم عبد الكريم قاسم المهزلة التي جرت في مبنى الإذاعة والتلفزيون صبيحة التاسع من شباط عام 1963 وحكم عليه بالإعدام ، ( وعندما فتشوا جيوبه بعد تنفيذ حكم الإعدام فيه ، وجدوا في جيبه وصلاً بآخر إيجار شهري دفعه ثمناً لأجرة البيت الذي يسكنه … ، وعند الساعة الواحدة والنصف بعد ظهر يوم السبت 9 شباط اقتيد الزعيم عبد الكريم قاسم وطه الشيخ أحمد وفاضل عباس المهداوي وكنعان خليل حداد ، إلى ستوديو التلفزيون وبلغوا بقرار – المجلس الوطني لقيادة الثورة – بإعدامهم رمياً بالرصاص وعدت المناقشة التي جرت محاكمة سريعة له وللضباط الآخرين ، فرفضوا وضع عصابة على أعينهم ) وفضلوا الموت مفتحي الأعين ، بحسب ما كتبه إسماعيل العارف في كتاب ( أسرار ثورة 14 تموز وتأسيس الجمهورية في العراق ) .
سيدي القاضي !! إن واحداً ممن حاكمتهم ، وتجاوز حدوده كمتهم في المحاكمة ، سبق له أن أصدر أحكاماً ارتجالية على من خيل له أنه تطاول عليه أو عارضه بعبارة ( اشحطو ا برا ) .
خيراً فعلت يا سيدي القاضي ، لقد أوصلت الرسالة وأديت الأمانة ، وقدمت أنموذجاً للمحاكم العصرية ، محاكم المستقبل ، وأظهرت بحق وحقيق جدارة الكرد في حسن إدارة هذه المحاكم وغيرها من المؤسسات ، وأهلية هذا الشعب في أخذ موقعه المناسب جنباً إلى جنب مع الأطياف والشرائح الجديدة التي ستتصدى لمهمة إدارة دفة الحكم بجدارة في أقاليم وجمهوريات الغد والمستقبل ، وأظهرت بجلاء ونصاعة ماذا تعني المحكمة ؟ وماذا يعني القضاء إذا لم يخترق ؟ وماذا تعني السلطة القضائية التي أهينت في بلاد الرافدين كثيراً ، وسوف تنهض من جديد على أكتافك وأكتاف غيرك من الغيارى على هذا الوطن ، وعلى أنقاض المحاكم العسكرية الميدانية ، وأنقاض محاكم المجلس الوطني لقيادة الثورة .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

خليل مصطفى مِنْ أقوال الشيخ الدكتور أحمد عبده عوض (أُستاذ جامعي وداعية إسلامي): ( الطَّلَبُ يحتاجُ إلى طَالِب ، والطَّالِبُ يحتاجُ إلى إرادة قادرة على تحقيق حاجات كثيرة ). مقدمة: 1 ــ لا يختلف عاقلان على أن شعوب الأُمَّة السُّورية قد لاقت من حكام دولتهم (طيلة 70 عاماً الماضية) من مرارات الظلم والجور والتَّعسف والحرمان، ما لم تتلقاه شعوب أية…

أحمد خليف الشباب السوري اليوم يحمل على عاتقه مسؤولية بناء المستقبل، بعد أن أصبح الوطن على أعتاب مرحلة جديدة من التغيير والإصلاح. جيل الثورة، الذي واجه تحديات الحرب وتحمل أعباءها، ليس مجرد شاهد على الأحداث، بل هو شريك أساسي في صنع هذا المستقبل، سواء في السياسة أو في الاقتصاد. الحكومة الجديدة، التي تسعى جاهدة لفتح أبواب التغيير وإعادة بناء الوطن…

إبراهيم اليوسف إنَّ إشكالية العقل الأحادي تكمن في تجزئته للحقائق، وتعامله بانتقائية تخدم مصالحه الضيقة، متجاهلاً التعقيدات التي تصوغ واقع الشعوب. هذه الإشكالية تطفو على السطح بجلاء في الموقف من الكرد، حيث يُطلب من الكرد السوريين إدانة حزب العمال الكردستاني (ب ك ك) وكأنهم هم من جاؤوا به، أو أنهم هم من تبنوه بإجماع مطلق. الحقيقة أن “ب ك ك”…

شيروان شاهين سوريا، الدولة ذات ال 104 أعوام البلد الذي كان يومًا حلمًا للفكر العلماني والليبرالي، أصبح اليوم ملعبًا للمحتلين من كل حدب وصوب، من إيران إلى تركيا، مرورًا بكل تنظيم إرهابي يمكن أن يخطر على البال. فبشار الأسد، الذي صدع رؤوسنا بعروبته الزائفة، لم يكتفِ بتحويل بلاده إلى جسر عبور للنفوذ الإيراني، بل سلمها بكل طيبة خاطر…