د.
آزاد مصطفى
آزاد مصطفى
الإهداء إلى (البارزانيِّ المغدورِ) نصرالدين برهك
المناضل الذي رأسه لم ينحنِ، وكفه لم ينثنِ، رحل واقفاً، وبقي شامخاً شموخ هامات جبال بارزان
إن الجدلية عند أفلاطون هي أسلوب تفكير بهذا المعنى هو شيء مشترك، بينه وبين كانط، وهي فن اكتشاف تناقضات في موضوع فكر ومحاولة حل هذه التناقضات أو بيان عدم إمكان حلها.
أما الجدلية عند بروكلس آخر ممثل للأفلاطونية الجديدة ذات معنى صوفي ينطلق من الوحدة المطلقة غير القابلة للوصف، ويشير إلى كل شيء بثواليث، ومن هنا استقينا عنوان بحثنا.
أما هيغل الذي وضع أسس الجدلية فيرى أن للتاريخ شيئاً من التماسك الداخلي الذي يقود البشرية إلى غايات مسبقة التحديد إلا أنه اعتبر أن أية فلسفة يتم تجاوزها في وقت ما كانت حقيقية بالنسبة لعصرها، في حين عارض كيركغارد هيغل جزئياً برفض القوانين العمومية سواء كانت في ميدان العلوم أم في ميدان الأخلاق لأنها تمنع الفرد من معرفة واقع أعمق بكثير من واقع الأحاسيس الذاتية، وكان نيتشه أكثر راديكالية في رفضه للقوانين العمومية المزعومة مهما كان نوعها.
فمثل وجهات النظر هذه ليست بالنسبة إليه سوى ترجمة لإرادة القوة لدى من ينشرونها، بالتالي يؤكد نيتشه ضرورة إعادة تقويم لكل فلسفة.
إن التصور الماركسي لعلم اجتماع تتعاقب فيه العصور التاريخية بموجب قوانين هو مغال في حتميته” الحتمية التاريخية” وقد أكدت الماركسية على رسوخ قوانين الديالكتيك ومقولاته.
وميّزت بين المنطق الصوري والمنطق الديالكتيكي للتفكير، إذ يرى انغلز أن السلوك البشري يتبع قوانين ديالكتيكية راسخة، في حين ينتقد لوكاش الماركسية التقليدية على دور الوعي، ويرفض نموذج المادية الذي يقول إن الفكر يعكس واقعاً خبرياً مسبقاً منفصلاً عن الفعالية العقلية، ويسخر لوكاش من فكرة الديالكتيك الطبيعية ببيانه أن محدد الديالكتيكية أي التفاعل بين الذات والموضوع غائب عن عالم الطبيعة الذي يستبعد عمله الفكر البشري، وقد طالب غرامشي بإعادة قراءة لدور البنى الفوقية في المقاربة الماركسية للتغيرات التاريخية.
ففي الثلاثينيات من القرن الماضي أصبح هناك ظهور قوي للإيديولوجيات كالفاشية والستالينية بعد أن أصبحت مقطوعة من الجذر المعرفي للماركسية، وقد زهقت أرواح الملايين من البشر باسم العدالة المفتعلة، إذ أن هدف الايديولوجيا هو تأطير حركة المجتمع لخدمة أهداف سياسية واجتماعية.
وقد ظهر هذا المصطلح على يد دستوت دوتراس عام 1796 للدلالة على الدراسة المنهجية والنقدية لأسس الأفكار إلا أن الايديولوجيا تجسّد رؤية مشوهة بشكل منتظم” وعي زائف” للعالم فهو يفترض مسبقاً تمييز بين ظاهر الأشياء وواقعها الكامنة، وتمييز الفكر الذي يتخذ ظاهر الأشياء محتوى حقيقياً لها، ويبنى على هذا الأساس نظريات خاصة، ويقول نيتشه في نقده للايديولوجيا إن البشر يستعملون افتراضات مسبقة تحميهم وتجنبهم مواجهة واقع شرطهم، وكان نيتشه سبّاقاً في دحض الايديولوجيا، وبين زيفها، وأشار إلى شرورها وأخطارها على البشرية التي دفعت ثمناً باهظاً لصراع الايديولوجيات.
بعد كسوف طويل الأمد ظهرت حقيقة تنبؤات نيتشه العبقرية الذي حاول تغيير العالم وليس تفسيره فقط، ويطرح بقوة في أيامنا مسألة تجاوز الايديولوجيا، فما لم تقدر على فعله الايديولوجيا، قامت به التكنولوجيا على أكمل وجه، وأصبحت مهمة الفكر هي تحرير المجتمع من قمقم الايديولوجيا، فالعقل الكبير المشبع بالمعرفة يبقى أوسع أفقاً من أية نظرية.
ففي عصر العولمة والحوكمة والمعلوماتية تعجز أعظم العقول في العصور الغابرة من مواصلة التطورات المتلاحقة.
لا شك أن التطورات المتسارعة بعد انتهاء الحرب الباردة وغياب احد أقطابها وظهور نظريات مثل نهاية التاريخ قد قوّض الصراع الايديولوجي على المستوى العالمي عموماً إلا أن تأثير هذه التطورات العالمية لم يؤثر على الداخل السوري بشكل فعّال، والساسة الكرد بقوا كما كانوا أثناء الحرب الباردة مثل بعدها، حتى أثناء تسونامي آذار 2004 وبعده لم يتوحّد حزبان كرديان بل على العكس ازداد عدد الأحزاب الكردية، ولم يتخلّ الساسة الكرد من رواسب إيديولوجيات الحرب الباردة وكزموبوليتاتها في حين كان يتوجّب عليهم إجراء قراءة نقدية ومراجعة لمسيرة الحركة السياسية ا لكردية في سوريا، وتناول جديد للعلوم السياسية وممارسة السياسة بحرفية تامة وبعقلية مؤسساتية.
نحن من خلال هذه المقدمة الموجزة لتطور أسلوب التفكير نسعى إلى تطوير نموذج جديد من الخطاب السياسي الذي هو جملة من الرموز المتقادمة ظاهراً، لكنها موحية على الصعيد التاريخي.
فالثالوث الكردي الذي نطرحه هو أولاً: الكوردايتي” ثانياً: الديمقراطية، وثالثاً: الواقعية السياسية.
الكوردايتي
يمكن أن أن تكون وسيلة لخلاصهم من العقلية الحزبية الضيّقة التي أبقتهم في حالة الانقسام التاريخي للشعب الكردي، فالكرد لم يتوحدوا يوماً على الصعيد السياسي، وعانوا كثيراً من الانقسامات العميقة في صفوفهم كما يقول جوناثان راندال، وربما هذا هو السبب جعل الكرد لم يؤسسوا كيانات سياسية ودولاً في تاريخهم مثل بقية شعوب المنطقة، في حين يشير د.
أحمد خليل إلى أن سيكولوجيا الجبال إلى جانب ذهنية القبيلة تلعب دوراً في تشرذم المجتمع الكردي وافتقاره إلى التماسك في المواقف المصيرية.
و(سبق القول إن كل كردي يرى في نفسه جبلاً مستقلاً)، وهذا الكلام مشكوك في مصداقيته، فشعوب جبال القوقاز أكثر تماسكاً وتضامناً من شعوب السهول المجاورة.
يمكننا القول إنه هناك صحوة كردية منذ أواسط التسعينيات القرن الماضي في كردستان العراق بعد الصراع الدموي وتغيير الظروف الجيوسياسية في العراق والمنطقة، وانتقلت هذه الصحوة في بداية الربيع العربي إلى سوريا بزخم أكبر، فأصبح هناك حدٌّ أدنى من التضامن الكردي بعيد تشكيل المجلس الوطني الكردي والمجلس الكردي في غرب كردستان، والعملية بحاجة إلى متابعة للتوحيد مع الأطراف الأخرى، فالعقلية الحزبية الضيقة في انحسار، وأصبح الكرد يشعرون بوحدة المصير أمام التحديات والأخطار التي تلوّح في الأفق في الساحة السورية.
فالكرد العراقيون أعادوا توحيد صفوفهم ضاغطين على جروحهم على الرغم من الدماء التي سالت بينهم، وفي حين تتوقع عقول بعض الكرد السوريين في الشباك الحزبية الضيقة، على الرغم من نداءات الشارع الكردي ومناشدات الرئيس مسعود البارزاني في أكثر من مناسبة، ونشير هنا إلى آخر ما قاله في مؤتمر أربيل للجالية الكردية السورية في الخارج 28-1-2012 إذ قال: إننا لا نريد أن نتدخل في أموركم بأي شكل كان، بل نريد أن نساعدكم، ونتيح لكم الفرصة كي تتخذوا قراركم، إن أي قرار تتخذونه يجب أن يكون بعيداً عن العنف، يجب أن تبنى خيارات السلم والديمقراطية والحوار، وإن شرطنا لدعمكم هو توحيد صفوفكم لأن هذه الفترة هي فترة حساسة للغاية، ويجب أن تبتعدوا عن الحزبية الضيقة لحين توضيح الأوضاع في سوريا»
إن الكردايتي الحقّة تعني نشر قيم التسامح والابتعاد عن العصبية القبلية والثأر والانتقام والأحقاد، فلقد تحدّث الرئيس مسعود البارزاني بهذا الخصوص قائلاً: إننا أصدرنا عفواً عاماً على كل من أخطا من أبناء شعبنا، ووضعنا أيدينا حتى في أيادي الجحوش الذين كانوا يقتلون أهلنا، ويحرقون قرانا، وفتحنا صفحة جديدة، وبدأت حملة إعمار كردستان.
وكان إيمان البارزاني بالشعب و« الكردايتي» قوياً لا حدود له، وكان يقول «إن القومية والحزبية والثورية هي أن نتعاون جميعاً من أجل المصلحة العليا لشعبنا»
وكان يتوجّه إلى البيشمركة بالقول « إذا كانت الكردايتي عبئاً ثقيلاً فعدم ارتكاب الخيانة أمر سهل»
وقد قال قاسملو إن ما لم يعرفه المفكرون لم يفهمه السياسيون، إن البارزاني هو الوحيد الذي عرف كيف يجمع الشعب الكردي.
ثانياً: الديمقراطية
يقول أفلاطون: الديمقراطية شكل فاتن من أشكال الحكم، يملؤها التنوع والفوضى، وتوزع نوعاً من القيمة للمتساوين وغير المتساوين على حد سواء.
الديمقراطية مصطلح سياسي من العصور القديمة، ظهر في أثينا وفي الصين القديمة في عهد أسرة كوين( 221 ق م) ازدهرت نظريات عديدة في الحكم، وكانت تلك هي فترة ” المائة مدرسة” التي مازالت بالنسبة للصين المعاصرة، نموذج الخطاب الحر والديمقراطي، ومن هنا تعبير ماو« فلتتفتح مائة زهرة، ولتتجادل مائة مائ مدرسة» وكان روسو وهو من أوائل المنظرين المحدثين للديمقراطية يميز السيادة والديمقراطية( المسؤولة عن إنشاء القانون الأساسي) والحكومة الديمقراطية ( المسؤولة عن التنفيذ اليومي للقانون) وبعد انتصار الاقتراع الديمقراطي العام في الغرب، بين عام 1848 ونهاية القرن التاسع عشر، ارتبطت النظرية والممارسة الديمقراطية التمثيلية والديمقراطية التشاركية، وظهرت مؤخراً الديمقراطية التوافقية.
ويمكن تقسيم الاتجاهات التقليدية للديمقراطية إلى ديمقراطية المساواة منذ روسو وحتى ت.
ما كفرسون الذين يؤكدون على دور المساواة والعدالة الاجتماعية في الديمقراطية، يرون أن الملكية العامة والخيرات المشتركة أسس صالحة للمساواة السياسية والقانونية التي تستند إليها الديمقراطية الليبرالية من لوك إلى هايل إلى ميلتون فريدمان الذين يؤكدون على دور الحرية والاختيار الحر للديمقراطية وحرية السوق الاقتصادية.
يرى جيفرسون وهو تلميذ لأرسطو أن الإنسان كائن اجتماعي بطبيعته، وأن الجماعات الديمقراطية الصغيرة وحدها التي تستطيع ضمان إسهامه الفعلي وتنمية قدراته الاجتماعية والسياسية حتى تقوم الديمقراطية بتمييز أفضل المواطنين، أولئك الذين يملكون الحكمة والفضيلة والذين يسميهم جفرسون الأرستقراطية الطبيعية.
لقد قامت الكومونات الرعوية في اليونان القديمة وكذلك في أوروبا بداية العصر الحديث، ونادى الاشتراكيون الطوباويون بقيام الكومونات وكذلك غاندي في الهند، وكذلك الاشتراكية الستالينية حيث أدخل إليها الأساليب القسرية والتعسفية، ولم تثبت تجربة الكومونات جدارتها على النطاق العالمي كشكل لتنظيم الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
وتخلّى العالم عنها وأصبحت شيئاً من الماضي، وتحوّل العالم إلى الأشكال الراقية من التنظيم الديمقراطي الاجتماعي، ويبقى المثل الديمقراطي أحد أرفع المثل العليا شأناً كنقيض الشمولية التي ترمي إلى السيطرة الكلية في الداخل، وخاصتاها هما ( الإيديولوجيا والإرهاب) وهي متحولة من متحولات الاستبدادية الشرقية.
إن المجتمع الكردي يفتقر إلى التقاليد الديمقراطية، والحركة السياسية الكردية تنادي بالديمقراطية منذ عشرات السنين ومعظم أحزابها أسماء ومسميات ديمقراطية والديمقراطية شعار كبير لها ،فلا بدَّ لها من تطبيق الديمقراطية داخل الحركة نفسها داخل أحزابها و في العلاقات البينية في الممارسة العملية، وليس من مصلحة الكرد استبدال صيغة شمولية بأخرى.
إن الديمقراطية وسيلة لتحرر وتقدم الشعوب، فالبلدان الديمقراطية قطعت أشواطاً في سلم التطور الحضاري، وأصبحت بخلاف الأنظمة الشمولية أمماً راقية، المثال الأقرب هو إقليم كردستان العراق الذي حقّقَ إنجازات هائلة في فترة قصيرة عندما تحوّل من سلطة الديكتاتورية إلى سلطة الديمقراطية، وعلى هذا المنوال يمكن أن تتحول المجالس الكردية والمؤسسات الأخرى إلى منابر لممارسة الديمقراطية ومدارس لتخريج الكفاءات الديمقراطية، ولنشر ثقافة الديمقراطية.
ثالثاً: الواقعية السياسية
يقول هيغل إن الفكر الحق هو الفكر الذي يعقل الضرورة” فالواقعية السياسية تعني أولاً الاحتكام إلى المحاكمات العقلية، وليس إلى العواطف والغرائز أي ليس العمل بردود الأفعال بل وتبني السياسات الصحيحة بغض النظر عن بعض الظواهر السلبية والعوامل الجزئية والثانوية.
ثانياً ممارسة السياسة بحرفية والإحاطة التامة بمفرداتها وقوانينها، والمتابعة والتواصل مع المستجدات ومعرفة أصول اللعبة السياسية والمقدرة على التنبؤ ما يحصل غداً.
ثالثاً- الابتعاد عن التطرف في المواقف السياسية
ونبذ العنف والإرهاب والانفتاح على كافة الاتجاهات السياسية والابتعاد عن الميكيافيلية السياسية التي تجمع بين قوة الأسد ودهاء ومكر الثعلب وعن أسلوب الدسائس والتآمر والاغتيالات السياسية، وطرح شعارات وبرامج تناسب وطبيعة كل مرحلة مع التمسك بالحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي مع الحفاظ على الإخوة الكردية العربية وفي إطار وحدة سوريا.
وتعدُّ خطابات الرئيس مسعود البارزاني أفضل نموذج للخطاب الكردي السياسي الذي يتميز بالواقعية.
ويمكننا القول إن الخطاب السياسي الكردي عموماً يتسم بالواقعية: عندما اجتمع مؤخراً ممثلو الأطراف الكردستانية في هولير العاصمة شباط 2012 وهم الرئيس مسعود البارزاني ورئيس الحكومة برهم صالح، ووفد من حزب السلام والديمقراطية برئاسة السيدين أحمد ترك وصالح دمرتاش، ومن سوريا السيدين حميد درويش وعبدالحكيم بشار حيث أكّد المجتمعون على ضرورة النضال بالوسائل السلمية والديمقراطية.
وكذلك أكد المجتمعون في مؤتمر اللغة الكردية الذي عقد في آمد بتاريخ 4-3-2012 على حل القضية الكردية بالوسائل السلمية.
أسئلة حول حق تقرير المصير ؟
التعريف بحسب موسوعة ويكيبديا هو: مصطلح في مجال السياسة الدولية والعلوم السياسية يشير إلى حق كل مجتمع ذي هوية جماعية متميزة مثل شعب أو مجموعة عرقية وغيرهما، بتحديد طموحاته السياسية، وتبني النطاق السياسي المفضل عليه من أجل تحقيق هذه الطموحات، وإدارة الحياة والمجتمع اليومية، وهذا دون تدخل خارجي أو قهر من قبل شعوب أو منظمات أجنبية.
كان رئيس الولايات المتحدة ويلسون هو الذي أبدع المصطلح بعد الحرب العالمية الأولى مع أن بعض الأدباء والعلماء استخدموا مصطلحات مماثلة من قبل، وكان مبدأ حق تقرير المصير من أسس معاهدة فرساي التي وقعت عليها الدول المتقاتلة في الحرب العالمية الأولى والتي أمرت بتأسيس دول أمة جديدة في أوروبا بعد انهيار الإمبراطورية المجرية والقيصرية الألمانية( الرايخ الثاني) في فترة لاحقة من القرن العشرين كان هذا المبدأ في أساس سياسة إزالة الاستعمار التي سعت إلى تأسيس دول مستقلة في آسيا بدلاً من المستعمرات الأوربية.
بعد الحرب العالمية الأولى شاعت الفكرة أن المجتمع الذي يحق له تقرير المصير هو مجموعة الناس الناطقين بلغة واحدة وذوي ثقافة مشتركة، والذين يعيشون في منطقة معينة ذات حدود واضحة، كذلك شاعت الفكرة إن ممارسة حق تقرير المصير تتم عن طريقة إقامة دول أمة أو مناطق حكم ذاتي.
فإذا عاش في منطقة ما مجموعة أناس ذات لغة وثقافة مشتركتين يمكن اعتبارهما قوماً أو شعباً، ويمكن إعلان المنطقة دولة مستقلة أو محافظة ذات حكم ذاتي في إطار دولة فيدرالية.
تبينت أن هذه الأفكار غير علمية إذ بلغ عدد مطالبات الشعوب والمجتمعات للاعتراف بحقها لتقرير المصير إلى درجة القادة الأوربيين خافوا من تقسيم أوربا إلى عشرات الدويلات ذات حدود طويلة تعرقل التبادل التجاري وحرية العبور والسفر، وهناك مشكلة أخرى تعرقل مبدأ حق تقرير المصير وهي أن بعض الشعوب مشتتة في مناطق جغرافية مختلفة ومن الصعب تحديد قطعة أرض معينة لتأسيس دولتها عليها.
إن حق تقرير المصير يوحي في الوعي الثقافي العربي إلى الانفصال، وكان على القائمين على طرح هذا الشعار تحديده وتفسيره بدقة هل يقصد بذلك الإدارة الذاتية؟ واللامركزية السياسية أو الحكم الذاتي؟ أو الفيدرالية؟ وكل ذلك في إطار وحدة سوريا، ومن المعروف أن ما يخص مصير شعب من الشعوب يجري عادة عبر استفتاءات شعبية، ويقرر على أساسها مثل هذه القرارات الهامة، وتجربة كردستان العراق أقرب لنا، ويمكن الاقتداء بها، وليس بالتجارب الأوربية في المقاطعات الألمانية أو كاتالونيا أو غيرها أو غيرها، فليس هناك من يقرر عن الشعب سوى الشعب نفسه، ويمكن عند اللزوم إجراء استفتاء( الموضوع يحتاج إلى عقد اجتماعي جديد) في المناطق ذات الغالبية الكردية على أساس ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي جاء فيه:
الفقرة 3 – الدول الأطراف في هذا العهد بما فيها تلك التي لها مسؤولية في إدارة الأقاليم المنضوي عليها ستشجع حق تقرير المصير، وستحترم ذلك بما يتوافق مع أفكار ميثاق الأمم المتحدة (30)
أهم ما ورد في الإعلان فيما يخص حق تقرير المصير هو نص المادة21 وخاصة فقرتها الثالثة التي تقول « تكون إرادة الشعب أساساً لسلطة الحكومة، ويجري التعبير عن هذه الإرادة في انتخابات صادقة.
شعب واحد مجلس واحد
منذ أ ن وضع أرسطو دستور أثينا وصولاً إلى قبيلة الدوزو الأفريقية مجالس الشعوب واحدة( مجلس شورى أو مجلس دستوري وتشريعي) تضم مختلف القوى السياسية إلا الكرد السوريين، فلهم مجلسان وأكثر، وهذا ما يعتبر حالة شاذة بالمقاييس العالمية وهي نتاج لحالة الانقسام والتشرذم والتخلف السياسي والاجتماعي في الساحة الكردية.
ففي دول العالم وعند شعوبها كيفما اختلفت القوى السياسية، ومهما زاد عدد أحزابها إلا أنها تجتمع كلها تحت سقف مجلس واحد.
ففي كردستان العراق بعد الاقتتال الداخلي عندما كانت هناك حكومتان في السليمانية وأربيل وبرلمان منقسم، فكان ذلك مثار السخرية حتى عند أصدقاء الكرد، وكان يقال عنهم إنهم قبائل متناحرة لا يتحلون بعقلية رجالات الدولة.
وعندما توحدوا في حكومة وبرلمان واحد أصبحت لهم هيبة واحترام وثقل سياسي، وأصبحوا أحد أقطاب الثلاثي العراقي الحاكم، ويلعبون دوراً هاماً في المعادلة الإقليمية والدولية بل أصبحوا عامل استقراراً في الوضع العراقي ككل، وحققوا منجزات على الميادين الاقتصادية والاجتماعية والعملية، وقطعوا أشواطاً في حملة إعادة إعمار كردستان.
والمثال الآخر ما ذا حقق الكرد من الاقتتال الكردي الكردي بشكل عام والاقتتال بين PKK والجبهة الكردستانية بشكل خاص في بداية التسعينيات التي ذهبت ضحاياها المئات بل الآلاف من الشباب الكرد؟
ألم يندم كل كردي ذي ضمير حي على ذلك؟
هل ألغى أي طرف الطرف الآخر؟
الحل يكمن ببساطة في سماع صوت العقل والمنطق والحكمة وبقبول الآخر كما هو والإقرار بحق الاختلاف مثل باقي الشعوب وليس بالعودة إلى قيم الجاهلية والإقصاء والعنف وشريعة الغاب.
إن توصّل المجلسين (المجلس الوطني الكردي والمجلس الشعبي في غرب كردستان إلى التوقيع على وثيقة تفاهم للتنسيق في الرؤى والمواقف تعتبر خطوة أولية نحو توحيدهما، وهذا ما يطمح إليه الشارع الكردي.
وفي الاجتماع الذي عقد بين ممثلي المجلسين في 21-2-2012 تقرر تشكيل لجان مناطقية مشتركة في جميع مناطق تواجد الكرد بهدف تنسيق العمل الميداني وتوجيهه باتجاه التأكد على الخصوصية الكردية في الإطار الوطني العام والحفاظ على المسار السلمي للحراك الشعبي في المناطق الكردية.
من الملاحظ أن توحيد المجلسين لا يحتاج إلى توحيد للمواقف السياسية فيمكن الذهاب إلى مجلس واحد مع وجهات نظر مختلفة كما في كل دول العالم.
ففي البرلمان العراقي يجتمع التحالف الكردستاني مع مختلف القوى العراقية الأخرى التي تضم قوميين عرب وإسلاميين من تيارات مختلفة.
وفي تركيا يجتمع نواب حزب السلام والديمقراطية الكردي تحت سقف البرلمان التركي مع قوى اليمين التركي والإسلاميين وغيرهم من أقصى اليمين وأقصى اليسار، وتجرى الحوارات والسجالات المتباينة.
يستنتج من هذا إن الكرد السوريين يمكنهم العمل سوية في مجلس تمثيلي واحد، له صفة استشارية.
إذ توفرت الإرادة القوية لذلك، واحتكموا إلى إرادة الشارع الكردي الذي يحلم منذ زمن بعيد بوحدة الكرد، ويمكن تحقيق ذلك بسهولة، من خلال صناديق الاقتراع كما في العالم قاطبة، ولا يحتاج ذلك إلى وصفة سحرية أو معجزة سوى الإرادة الصادقة وشيء من الحزم والإصرار.
فلا يجب أن يضع أي حزب شروطاً أو كوتات مسبقة.
ويمكن بسهولة إجراء انتخابات حرة وشفافة تحت إشراف أطراف صديقة ومحايدة.
إن توحيد صفوف الشعب الكردي الذي عانى من شتى أنواع الظلم والحرمان والاضطهاد والقمع على مدى أكثر من نصف قرن يبدأ بتشكيل مجلس تمثيلي واحد يمثلهم، وهذه مسؤولية القوى السياسية الكردية وأحزابها، فعليها أن تدرك أهمية هذه المرحلة التاريخية والمصيرية من تطوّر سوريا والشعب الكردي.
إن مثل هذا المجلس سوف يمثل الكرد خير تمثيل في المحافل الدولية والإقليمية لنيل الحقوق القومية المشروعة للشعب ، وسيجعل من الكرد كتلة اعتبارية لها وزنها في إطار المعارضة السورية، وسوف يوحّد هذا المجلسُ الخطابَ السياسيَّ الكردي وذلك لبلورة خطاب جديد على قاعدة الوحدة والاختلاف وصراع الآراء.
في المجالس تقوم اللجان المختصة بوضع أفضل البرامج والخطابات والمواقف والسياسات المصيرية التي تهم الشعوب من خلال المداولات والحوارات.
وتجتمع الأحزاب الكبيرة والصغيرة الموالاة والمعارضة والمختلفين والمتفقين إيديولوجياً وسياسياً وهم ليسوا من لون واحد أو من قميص واحد كما يتصوره ضيقو الأفق.
فمثل وجهات النظر هذه ليست بالنسبة إليه سوى ترجمة لإرادة القوة لدى من ينشرونها، بالتالي يؤكد نيتشه ضرورة إعادة تقويم لكل فلسفة.
إن التصور الماركسي لعلم اجتماع تتعاقب فيه العصور التاريخية بموجب قوانين هو مغال في حتميته” الحتمية التاريخية” وقد أكدت الماركسية على رسوخ قوانين الديالكتيك ومقولاته.
وميّزت بين المنطق الصوري والمنطق الديالكتيكي للتفكير، إذ يرى انغلز أن السلوك البشري يتبع قوانين ديالكتيكية راسخة، في حين ينتقد لوكاش الماركسية التقليدية على دور الوعي، ويرفض نموذج المادية الذي يقول إن الفكر يعكس واقعاً خبرياً مسبقاً منفصلاً عن الفعالية العقلية، ويسخر لوكاش من فكرة الديالكتيك الطبيعية ببيانه أن محدد الديالكتيكية أي التفاعل بين الذات والموضوع غائب عن عالم الطبيعة الذي يستبعد عمله الفكر البشري، وقد طالب غرامشي بإعادة قراءة لدور البنى الفوقية في المقاربة الماركسية للتغيرات التاريخية.
ففي الثلاثينيات من القرن الماضي أصبح هناك ظهور قوي للإيديولوجيات كالفاشية والستالينية بعد أن أصبحت مقطوعة من الجذر المعرفي للماركسية، وقد زهقت أرواح الملايين من البشر باسم العدالة المفتعلة، إذ أن هدف الايديولوجيا هو تأطير حركة المجتمع لخدمة أهداف سياسية واجتماعية.
وقد ظهر هذا المصطلح على يد دستوت دوتراس عام 1796 للدلالة على الدراسة المنهجية والنقدية لأسس الأفكار إلا أن الايديولوجيا تجسّد رؤية مشوهة بشكل منتظم” وعي زائف” للعالم فهو يفترض مسبقاً تمييز بين ظاهر الأشياء وواقعها الكامنة، وتمييز الفكر الذي يتخذ ظاهر الأشياء محتوى حقيقياً لها، ويبنى على هذا الأساس نظريات خاصة، ويقول نيتشه في نقده للايديولوجيا إن البشر يستعملون افتراضات مسبقة تحميهم وتجنبهم مواجهة واقع شرطهم، وكان نيتشه سبّاقاً في دحض الايديولوجيا، وبين زيفها، وأشار إلى شرورها وأخطارها على البشرية التي دفعت ثمناً باهظاً لصراع الايديولوجيات.
بعد كسوف طويل الأمد ظهرت حقيقة تنبؤات نيتشه العبقرية الذي حاول تغيير العالم وليس تفسيره فقط، ويطرح بقوة في أيامنا مسألة تجاوز الايديولوجيا، فما لم تقدر على فعله الايديولوجيا، قامت به التكنولوجيا على أكمل وجه، وأصبحت مهمة الفكر هي تحرير المجتمع من قمقم الايديولوجيا، فالعقل الكبير المشبع بالمعرفة يبقى أوسع أفقاً من أية نظرية.
ففي عصر العولمة والحوكمة والمعلوماتية تعجز أعظم العقول في العصور الغابرة من مواصلة التطورات المتلاحقة.
لا شك أن التطورات المتسارعة بعد انتهاء الحرب الباردة وغياب احد أقطابها وظهور نظريات مثل نهاية التاريخ قد قوّض الصراع الايديولوجي على المستوى العالمي عموماً إلا أن تأثير هذه التطورات العالمية لم يؤثر على الداخل السوري بشكل فعّال، والساسة الكرد بقوا كما كانوا أثناء الحرب الباردة مثل بعدها، حتى أثناء تسونامي آذار 2004 وبعده لم يتوحّد حزبان كرديان بل على العكس ازداد عدد الأحزاب الكردية، ولم يتخلّ الساسة الكرد من رواسب إيديولوجيات الحرب الباردة وكزموبوليتاتها في حين كان يتوجّب عليهم إجراء قراءة نقدية ومراجعة لمسيرة الحركة السياسية ا لكردية في سوريا، وتناول جديد للعلوم السياسية وممارسة السياسة بحرفية تامة وبعقلية مؤسساتية.
نحن من خلال هذه المقدمة الموجزة لتطور أسلوب التفكير نسعى إلى تطوير نموذج جديد من الخطاب السياسي الذي هو جملة من الرموز المتقادمة ظاهراً، لكنها موحية على الصعيد التاريخي.
فالثالوث الكردي الذي نطرحه هو أولاً: الكوردايتي” ثانياً: الديمقراطية، وثالثاً: الواقعية السياسية.
الكوردايتي
يمكن أن أن تكون وسيلة لخلاصهم من العقلية الحزبية الضيّقة التي أبقتهم في حالة الانقسام التاريخي للشعب الكردي، فالكرد لم يتوحدوا يوماً على الصعيد السياسي، وعانوا كثيراً من الانقسامات العميقة في صفوفهم كما يقول جوناثان راندال، وربما هذا هو السبب جعل الكرد لم يؤسسوا كيانات سياسية ودولاً في تاريخهم مثل بقية شعوب المنطقة، في حين يشير د.
أحمد خليل إلى أن سيكولوجيا الجبال إلى جانب ذهنية القبيلة تلعب دوراً في تشرذم المجتمع الكردي وافتقاره إلى التماسك في المواقف المصيرية.
و(سبق القول إن كل كردي يرى في نفسه جبلاً مستقلاً)، وهذا الكلام مشكوك في مصداقيته، فشعوب جبال القوقاز أكثر تماسكاً وتضامناً من شعوب السهول المجاورة.
يمكننا القول إنه هناك صحوة كردية منذ أواسط التسعينيات القرن الماضي في كردستان العراق بعد الصراع الدموي وتغيير الظروف الجيوسياسية في العراق والمنطقة، وانتقلت هذه الصحوة في بداية الربيع العربي إلى سوريا بزخم أكبر، فأصبح هناك حدٌّ أدنى من التضامن الكردي بعيد تشكيل المجلس الوطني الكردي والمجلس الكردي في غرب كردستان، والعملية بحاجة إلى متابعة للتوحيد مع الأطراف الأخرى، فالعقلية الحزبية الضيقة في انحسار، وأصبح الكرد يشعرون بوحدة المصير أمام التحديات والأخطار التي تلوّح في الأفق في الساحة السورية.
فالكرد العراقيون أعادوا توحيد صفوفهم ضاغطين على جروحهم على الرغم من الدماء التي سالت بينهم، وفي حين تتوقع عقول بعض الكرد السوريين في الشباك الحزبية الضيقة، على الرغم من نداءات الشارع الكردي ومناشدات الرئيس مسعود البارزاني في أكثر من مناسبة، ونشير هنا إلى آخر ما قاله في مؤتمر أربيل للجالية الكردية السورية في الخارج 28-1-2012 إذ قال: إننا لا نريد أن نتدخل في أموركم بأي شكل كان، بل نريد أن نساعدكم، ونتيح لكم الفرصة كي تتخذوا قراركم، إن أي قرار تتخذونه يجب أن يكون بعيداً عن العنف، يجب أن تبنى خيارات السلم والديمقراطية والحوار، وإن شرطنا لدعمكم هو توحيد صفوفكم لأن هذه الفترة هي فترة حساسة للغاية، ويجب أن تبتعدوا عن الحزبية الضيقة لحين توضيح الأوضاع في سوريا»
إن الكردايتي الحقّة تعني نشر قيم التسامح والابتعاد عن العصبية القبلية والثأر والانتقام والأحقاد، فلقد تحدّث الرئيس مسعود البارزاني بهذا الخصوص قائلاً: إننا أصدرنا عفواً عاماً على كل من أخطا من أبناء شعبنا، ووضعنا أيدينا حتى في أيادي الجحوش الذين كانوا يقتلون أهلنا، ويحرقون قرانا، وفتحنا صفحة جديدة، وبدأت حملة إعمار كردستان.
وكان إيمان البارزاني بالشعب و« الكردايتي» قوياً لا حدود له، وكان يقول «إن القومية والحزبية والثورية هي أن نتعاون جميعاً من أجل المصلحة العليا لشعبنا»
وكان يتوجّه إلى البيشمركة بالقول « إذا كانت الكردايتي عبئاً ثقيلاً فعدم ارتكاب الخيانة أمر سهل»
وقد قال قاسملو إن ما لم يعرفه المفكرون لم يفهمه السياسيون، إن البارزاني هو الوحيد الذي عرف كيف يجمع الشعب الكردي.
ثانياً: الديمقراطية
يقول أفلاطون: الديمقراطية شكل فاتن من أشكال الحكم، يملؤها التنوع والفوضى، وتوزع نوعاً من القيمة للمتساوين وغير المتساوين على حد سواء.
الديمقراطية مصطلح سياسي من العصور القديمة، ظهر في أثينا وفي الصين القديمة في عهد أسرة كوين( 221 ق م) ازدهرت نظريات عديدة في الحكم، وكانت تلك هي فترة ” المائة مدرسة” التي مازالت بالنسبة للصين المعاصرة، نموذج الخطاب الحر والديمقراطي، ومن هنا تعبير ماو« فلتتفتح مائة زهرة، ولتتجادل مائة مائ مدرسة» وكان روسو وهو من أوائل المنظرين المحدثين للديمقراطية يميز السيادة والديمقراطية( المسؤولة عن إنشاء القانون الأساسي) والحكومة الديمقراطية ( المسؤولة عن التنفيذ اليومي للقانون) وبعد انتصار الاقتراع الديمقراطي العام في الغرب، بين عام 1848 ونهاية القرن التاسع عشر، ارتبطت النظرية والممارسة الديمقراطية التمثيلية والديمقراطية التشاركية، وظهرت مؤخراً الديمقراطية التوافقية.
ويمكن تقسيم الاتجاهات التقليدية للديمقراطية إلى ديمقراطية المساواة منذ روسو وحتى ت.
ما كفرسون الذين يؤكدون على دور المساواة والعدالة الاجتماعية في الديمقراطية، يرون أن الملكية العامة والخيرات المشتركة أسس صالحة للمساواة السياسية والقانونية التي تستند إليها الديمقراطية الليبرالية من لوك إلى هايل إلى ميلتون فريدمان الذين يؤكدون على دور الحرية والاختيار الحر للديمقراطية وحرية السوق الاقتصادية.
يرى جيفرسون وهو تلميذ لأرسطو أن الإنسان كائن اجتماعي بطبيعته، وأن الجماعات الديمقراطية الصغيرة وحدها التي تستطيع ضمان إسهامه الفعلي وتنمية قدراته الاجتماعية والسياسية حتى تقوم الديمقراطية بتمييز أفضل المواطنين، أولئك الذين يملكون الحكمة والفضيلة والذين يسميهم جفرسون الأرستقراطية الطبيعية.
لقد قامت الكومونات الرعوية في اليونان القديمة وكذلك في أوروبا بداية العصر الحديث، ونادى الاشتراكيون الطوباويون بقيام الكومونات وكذلك غاندي في الهند، وكذلك الاشتراكية الستالينية حيث أدخل إليها الأساليب القسرية والتعسفية، ولم تثبت تجربة الكومونات جدارتها على النطاق العالمي كشكل لتنظيم الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
وتخلّى العالم عنها وأصبحت شيئاً من الماضي، وتحوّل العالم إلى الأشكال الراقية من التنظيم الديمقراطي الاجتماعي، ويبقى المثل الديمقراطي أحد أرفع المثل العليا شأناً كنقيض الشمولية التي ترمي إلى السيطرة الكلية في الداخل، وخاصتاها هما ( الإيديولوجيا والإرهاب) وهي متحولة من متحولات الاستبدادية الشرقية.
إن المجتمع الكردي يفتقر إلى التقاليد الديمقراطية، والحركة السياسية الكردية تنادي بالديمقراطية منذ عشرات السنين ومعظم أحزابها أسماء ومسميات ديمقراطية والديمقراطية شعار كبير لها ،فلا بدَّ لها من تطبيق الديمقراطية داخل الحركة نفسها داخل أحزابها و في العلاقات البينية في الممارسة العملية، وليس من مصلحة الكرد استبدال صيغة شمولية بأخرى.
إن الديمقراطية وسيلة لتحرر وتقدم الشعوب، فالبلدان الديمقراطية قطعت أشواطاً في سلم التطور الحضاري، وأصبحت بخلاف الأنظمة الشمولية أمماً راقية، المثال الأقرب هو إقليم كردستان العراق الذي حقّقَ إنجازات هائلة في فترة قصيرة عندما تحوّل من سلطة الديكتاتورية إلى سلطة الديمقراطية، وعلى هذا المنوال يمكن أن تتحول المجالس الكردية والمؤسسات الأخرى إلى منابر لممارسة الديمقراطية ومدارس لتخريج الكفاءات الديمقراطية، ولنشر ثقافة الديمقراطية.
ثالثاً: الواقعية السياسية
يقول هيغل إن الفكر الحق هو الفكر الذي يعقل الضرورة” فالواقعية السياسية تعني أولاً الاحتكام إلى المحاكمات العقلية، وليس إلى العواطف والغرائز أي ليس العمل بردود الأفعال بل وتبني السياسات الصحيحة بغض النظر عن بعض الظواهر السلبية والعوامل الجزئية والثانوية.
ثانياً ممارسة السياسة بحرفية والإحاطة التامة بمفرداتها وقوانينها، والمتابعة والتواصل مع المستجدات ومعرفة أصول اللعبة السياسية والمقدرة على التنبؤ ما يحصل غداً.
ثالثاً- الابتعاد عن التطرف في المواقف السياسية
ونبذ العنف والإرهاب والانفتاح على كافة الاتجاهات السياسية والابتعاد عن الميكيافيلية السياسية التي تجمع بين قوة الأسد ودهاء ومكر الثعلب وعن أسلوب الدسائس والتآمر والاغتيالات السياسية، وطرح شعارات وبرامج تناسب وطبيعة كل مرحلة مع التمسك بالحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي مع الحفاظ على الإخوة الكردية العربية وفي إطار وحدة سوريا.
وتعدُّ خطابات الرئيس مسعود البارزاني أفضل نموذج للخطاب الكردي السياسي الذي يتميز بالواقعية.
ويمكننا القول إن الخطاب السياسي الكردي عموماً يتسم بالواقعية: عندما اجتمع مؤخراً ممثلو الأطراف الكردستانية في هولير العاصمة شباط 2012 وهم الرئيس مسعود البارزاني ورئيس الحكومة برهم صالح، ووفد من حزب السلام والديمقراطية برئاسة السيدين أحمد ترك وصالح دمرتاش، ومن سوريا السيدين حميد درويش وعبدالحكيم بشار حيث أكّد المجتمعون على ضرورة النضال بالوسائل السلمية والديمقراطية.
وكذلك أكد المجتمعون في مؤتمر اللغة الكردية الذي عقد في آمد بتاريخ 4-3-2012 على حل القضية الكردية بالوسائل السلمية.
أسئلة حول حق تقرير المصير ؟
التعريف بحسب موسوعة ويكيبديا هو: مصطلح في مجال السياسة الدولية والعلوم السياسية يشير إلى حق كل مجتمع ذي هوية جماعية متميزة مثل شعب أو مجموعة عرقية وغيرهما، بتحديد طموحاته السياسية، وتبني النطاق السياسي المفضل عليه من أجل تحقيق هذه الطموحات، وإدارة الحياة والمجتمع اليومية، وهذا دون تدخل خارجي أو قهر من قبل شعوب أو منظمات أجنبية.
كان رئيس الولايات المتحدة ويلسون هو الذي أبدع المصطلح بعد الحرب العالمية الأولى مع أن بعض الأدباء والعلماء استخدموا مصطلحات مماثلة من قبل، وكان مبدأ حق تقرير المصير من أسس معاهدة فرساي التي وقعت عليها الدول المتقاتلة في الحرب العالمية الأولى والتي أمرت بتأسيس دول أمة جديدة في أوروبا بعد انهيار الإمبراطورية المجرية والقيصرية الألمانية( الرايخ الثاني) في فترة لاحقة من القرن العشرين كان هذا المبدأ في أساس سياسة إزالة الاستعمار التي سعت إلى تأسيس دول مستقلة في آسيا بدلاً من المستعمرات الأوربية.
بعد الحرب العالمية الأولى شاعت الفكرة أن المجتمع الذي يحق له تقرير المصير هو مجموعة الناس الناطقين بلغة واحدة وذوي ثقافة مشتركة، والذين يعيشون في منطقة معينة ذات حدود واضحة، كذلك شاعت الفكرة إن ممارسة حق تقرير المصير تتم عن طريقة إقامة دول أمة أو مناطق حكم ذاتي.
فإذا عاش في منطقة ما مجموعة أناس ذات لغة وثقافة مشتركتين يمكن اعتبارهما قوماً أو شعباً، ويمكن إعلان المنطقة دولة مستقلة أو محافظة ذات حكم ذاتي في إطار دولة فيدرالية.
تبينت أن هذه الأفكار غير علمية إذ بلغ عدد مطالبات الشعوب والمجتمعات للاعتراف بحقها لتقرير المصير إلى درجة القادة الأوربيين خافوا من تقسيم أوربا إلى عشرات الدويلات ذات حدود طويلة تعرقل التبادل التجاري وحرية العبور والسفر، وهناك مشكلة أخرى تعرقل مبدأ حق تقرير المصير وهي أن بعض الشعوب مشتتة في مناطق جغرافية مختلفة ومن الصعب تحديد قطعة أرض معينة لتأسيس دولتها عليها.
إن حق تقرير المصير يوحي في الوعي الثقافي العربي إلى الانفصال، وكان على القائمين على طرح هذا الشعار تحديده وتفسيره بدقة هل يقصد بذلك الإدارة الذاتية؟ واللامركزية السياسية أو الحكم الذاتي؟ أو الفيدرالية؟ وكل ذلك في إطار وحدة سوريا، ومن المعروف أن ما يخص مصير شعب من الشعوب يجري عادة عبر استفتاءات شعبية، ويقرر على أساسها مثل هذه القرارات الهامة، وتجربة كردستان العراق أقرب لنا، ويمكن الاقتداء بها، وليس بالتجارب الأوربية في المقاطعات الألمانية أو كاتالونيا أو غيرها أو غيرها، فليس هناك من يقرر عن الشعب سوى الشعب نفسه، ويمكن عند اللزوم إجراء استفتاء( الموضوع يحتاج إلى عقد اجتماعي جديد) في المناطق ذات الغالبية الكردية على أساس ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي جاء فيه:
الفقرة 3 – الدول الأطراف في هذا العهد بما فيها تلك التي لها مسؤولية في إدارة الأقاليم المنضوي عليها ستشجع حق تقرير المصير، وستحترم ذلك بما يتوافق مع أفكار ميثاق الأمم المتحدة (30)
أهم ما ورد في الإعلان فيما يخص حق تقرير المصير هو نص المادة21 وخاصة فقرتها الثالثة التي تقول « تكون إرادة الشعب أساساً لسلطة الحكومة، ويجري التعبير عن هذه الإرادة في انتخابات صادقة.
شعب واحد مجلس واحد
منذ أ ن وضع أرسطو دستور أثينا وصولاً إلى قبيلة الدوزو الأفريقية مجالس الشعوب واحدة( مجلس شورى أو مجلس دستوري وتشريعي) تضم مختلف القوى السياسية إلا الكرد السوريين، فلهم مجلسان وأكثر، وهذا ما يعتبر حالة شاذة بالمقاييس العالمية وهي نتاج لحالة الانقسام والتشرذم والتخلف السياسي والاجتماعي في الساحة الكردية.
ففي دول العالم وعند شعوبها كيفما اختلفت القوى السياسية، ومهما زاد عدد أحزابها إلا أنها تجتمع كلها تحت سقف مجلس واحد.
ففي كردستان العراق بعد الاقتتال الداخلي عندما كانت هناك حكومتان في السليمانية وأربيل وبرلمان منقسم، فكان ذلك مثار السخرية حتى عند أصدقاء الكرد، وكان يقال عنهم إنهم قبائل متناحرة لا يتحلون بعقلية رجالات الدولة.
وعندما توحدوا في حكومة وبرلمان واحد أصبحت لهم هيبة واحترام وثقل سياسي، وأصبحوا أحد أقطاب الثلاثي العراقي الحاكم، ويلعبون دوراً هاماً في المعادلة الإقليمية والدولية بل أصبحوا عامل استقراراً في الوضع العراقي ككل، وحققوا منجزات على الميادين الاقتصادية والاجتماعية والعملية، وقطعوا أشواطاً في حملة إعادة إعمار كردستان.
والمثال الآخر ما ذا حقق الكرد من الاقتتال الكردي الكردي بشكل عام والاقتتال بين PKK والجبهة الكردستانية بشكل خاص في بداية التسعينيات التي ذهبت ضحاياها المئات بل الآلاف من الشباب الكرد؟
ألم يندم كل كردي ذي ضمير حي على ذلك؟
هل ألغى أي طرف الطرف الآخر؟
الحل يكمن ببساطة في سماع صوت العقل والمنطق والحكمة وبقبول الآخر كما هو والإقرار بحق الاختلاف مثل باقي الشعوب وليس بالعودة إلى قيم الجاهلية والإقصاء والعنف وشريعة الغاب.
إن توصّل المجلسين (المجلس الوطني الكردي والمجلس الشعبي في غرب كردستان إلى التوقيع على وثيقة تفاهم للتنسيق في الرؤى والمواقف تعتبر خطوة أولية نحو توحيدهما، وهذا ما يطمح إليه الشارع الكردي.
وفي الاجتماع الذي عقد بين ممثلي المجلسين في 21-2-2012 تقرر تشكيل لجان مناطقية مشتركة في جميع مناطق تواجد الكرد بهدف تنسيق العمل الميداني وتوجيهه باتجاه التأكد على الخصوصية الكردية في الإطار الوطني العام والحفاظ على المسار السلمي للحراك الشعبي في المناطق الكردية.
من الملاحظ أن توحيد المجلسين لا يحتاج إلى توحيد للمواقف السياسية فيمكن الذهاب إلى مجلس واحد مع وجهات نظر مختلفة كما في كل دول العالم.
ففي البرلمان العراقي يجتمع التحالف الكردستاني مع مختلف القوى العراقية الأخرى التي تضم قوميين عرب وإسلاميين من تيارات مختلفة.
وفي تركيا يجتمع نواب حزب السلام والديمقراطية الكردي تحت سقف البرلمان التركي مع قوى اليمين التركي والإسلاميين وغيرهم من أقصى اليمين وأقصى اليسار، وتجرى الحوارات والسجالات المتباينة.
يستنتج من هذا إن الكرد السوريين يمكنهم العمل سوية في مجلس تمثيلي واحد، له صفة استشارية.
إذ توفرت الإرادة القوية لذلك، واحتكموا إلى إرادة الشارع الكردي الذي يحلم منذ زمن بعيد بوحدة الكرد، ويمكن تحقيق ذلك بسهولة، من خلال صناديق الاقتراع كما في العالم قاطبة، ولا يحتاج ذلك إلى وصفة سحرية أو معجزة سوى الإرادة الصادقة وشيء من الحزم والإصرار.
فلا يجب أن يضع أي حزب شروطاً أو كوتات مسبقة.
ويمكن بسهولة إجراء انتخابات حرة وشفافة تحت إشراف أطراف صديقة ومحايدة.
إن توحيد صفوف الشعب الكردي الذي عانى من شتى أنواع الظلم والحرمان والاضطهاد والقمع على مدى أكثر من نصف قرن يبدأ بتشكيل مجلس تمثيلي واحد يمثلهم، وهذه مسؤولية القوى السياسية الكردية وأحزابها، فعليها أن تدرك أهمية هذه المرحلة التاريخية والمصيرية من تطوّر سوريا والشعب الكردي.
إن مثل هذا المجلس سوف يمثل الكرد خير تمثيل في المحافل الدولية والإقليمية لنيل الحقوق القومية المشروعة للشعب ، وسيجعل من الكرد كتلة اعتبارية لها وزنها في إطار المعارضة السورية، وسوف يوحّد هذا المجلسُ الخطابَ السياسيَّ الكردي وذلك لبلورة خطاب جديد على قاعدة الوحدة والاختلاف وصراع الآراء.
في المجالس تقوم اللجان المختصة بوضع أفضل البرامج والخطابات والمواقف والسياسات المصيرية التي تهم الشعوب من خلال المداولات والحوارات.
وتجتمع الأحزاب الكبيرة والصغيرة الموالاة والمعارضة والمختلفين والمتفقين إيديولوجياً وسياسياً وهم ليسوا من لون واحد أو من قميص واحد كما يتصوره ضيقو الأفق.
إن الانطلاق من المصلحة العليا للشعب الكردي يتطلب عدم العودة إلى الماضي والعيش في الحاضر والتخلي عن المواقف المسبقة وترك الأحقاد والضغائن والعقلية الثأرية، وتجنب تناول السياسة على الطريقة الكيدية القروية التي لم تجلب للكرد سوى الويلات والتشرذم، فإذا كان الساسة الكرد تعلموا دروساً وحقائق من تاريخهم يجب أن يدركوا جيداً أن وحدة الكرد المنشودة تكمن في مجلس كردي واحد يمثلهم اليوم قبل الغد، وسيحاكمكم التاريخ على ذلك.