الكُرد في قاموس برمودا

أحمد اسماعيل اسماعيل

لكل منا قاموسه، وكذلك لكل مجتمع القاموس الخاص به، وعلى خلاف القواميس التي تأخذ في شرحها ومعرفتها لأصل الكلمة ومعناها بأوائل الكلمات، أو بأواخرها، فإن هذا النوع من القواميس ليس مدوناً في كتب مخصوصة كلسان العرب أو المنجد أو مختار الصحاح، بل هي، القواميس، حصيلة حياتية متراكمة في وعي الفرد وذاكرة المجتمع وروحه، يعبر بواسطتها عن مشاعره وأحاسيسه، ويصيغ بها أفكاره ورؤاه، ومن خلالها يتم تحديد هوية الشخص: جنسه أو مرحلته العمرية أو مستواه العلمي أو الفئة المهنية أو الاجتماعية التي ينتمي إليها.
من الطبيعي أن تتفق هذه القواميس في الكثير من أساليب معرفة الكلمة وتصريف ما ينصرف حسب طبيعة المجتمع الواحد، ولكن من غير الطبيعي “إنسانياً” أن نجد في هذا المجتمع قاموساً ينفرد في استعماله للكلمة بطريقة تأخذ بخناقها ولَوّي عُنُقِها، حذفاً أو اختزالاً أو تأطيراً أو قولبة أو تحريفاً.

وذلك بخلاف ما هو علمي وحضاري وإنساني.

 
فللبحث عن كلمة الحرية مثلاً في هذا القاموس يجب أولاً تجريدها من ال التعريف، ثم إضافتها إلى كلمة أخرى معينة مثل: السادة، القتل، الحكم..

لتصبح حرية السادة، حرية القتل، حرية الحكم، وكذلك الأمر بالنسبة لكلمة القائد، التي لا يمكن معرفتها إلا بإضافة صفة لها مثل: القائد الأعلى أو القائد العظيم، وفي حال تجريدها من أل التعريف، يجب تعريفها بطريقة الإضافة لتصبح: قائد الوطن، قائد الشعب..

وما ينطبق على هذين الاسمين ينطبق على أسماء ومفاهيم أخرى.


شاع استعمال هذا القاموس في أكثر من لغة ولدى أكثر من قوم، وخاصة لدى شرائح غير قليلة من تلك التي يعيش معها الكرد، فكان من الطبيعي أن تحتل كلمة الكرد في هذا القاموس مساحة واسعة للتعريف بها، نذكر بعضها:
الكُرّدْ: من الكَرّ والفَرّ والرَد، ظهروا في غفلة من التاريخ الموغل في القدم في الشعاب الجبلية ويزعم بعض المستشرقين أنهم أسلاف الحوريين والميديين، تكاثروا رغم محاولات إبادتهم المستمرة حتى بلغ عددهم اليوم أكثر من أربعين مليوناً.


الكُرّدْ: أبناء الجن، لا أرض لهم ولا أصل ولا فصل..
الكُرد: أتراك الجبال، يعيشون في جبال عصية منيعة منعزلين عن الحضارة والتواصل مع ما يحدث في الوطن التركي.
الكُرد: فرع من قبيلة هوازن العربية وقد كان لعيشها في الجبال أثره على ما أصاب لغة أهلها من لحن وانحراف.
الكُرد: هم أكراد عرب، ويتكلمون بأحد اللهجات العربية التي تنقسم بدورها إلى لهجات تمتد على أربع دول.
الكُرد: جماعات هاجرت عام 1925 من دولة مجاورة هرباً من المذابح التي وقعت لهم في تركيا بعد انتفاضة شيخ يدعى سعيد بيران، وسكنت في المناطق الحدودية المتاخمة لمسقط رؤوسهم ومذبح أحلامهم.


الكُرد: تسمية محرفة عن أسماء فارسية وهي بذلك منتحلة ولا أساس لها في التاريخ والجغرافيا.

وذكرها يثير المشاعر القومية الحادة لدى القوميات الغالبة، وهم ليسوا سوى شريحة أو فئة أو طائفة من القومية الغالبة في هذا البلد أو ذاك.
وفي آخر تحقيق لهذا القاموس بقصد تجديده ليواكب العصر، ويناسب إيقاع وخفق نسائم الربيع القادم، تم إعادة النظر في تعريف الكرد ليصبح: مواطنون لهم حق المساواة أمام القانون، مثل غيرهم من أبناء القومية السائدة، وحماية وجودهم الثقافي كإكسسوار وطني يستخدم حين اللزوم في أي عرض أو مهرجان بهدف دعم جمالية القومية السائدة إنسانياً وحضارياً، وبما يشبه إعادة إنتاج تجربة المهاجرين البيض إلى أمريكا مع السكان الأصليين من الهنود الحمر.


ولعل ما ورد في هذا القاموس بخصوص كلمة الكرد من بحث وتصريف وتعريف يشبه تماماً ما قامت به فكتوريا ملكة الإنكليز حين أخفت هولندا من الخريطة وقالت: هذا البلد لم يعد في العالم؟! وهو فعل مشتق من إحدى مفردات هذا القاموس الشبيه بمثلث برمودا في ابتلاعه لكل ما يقع في مجاله، إذا كانت شخصية الإنسان جزءاً مصغراً من شخصية الشعب الذي ينتمي إليه، يتمثل في شخصه قيم هذا الشعب والمجتمع وعاداته وآماله، ويمثله في كل ما يصدر عنه من عواطف وطموحات وأفكار، فإن الدعوة إلى مساواة الكردي كمواطن بمعزل عن انتمائه القومي ليست سوى عملية اختزال الكرد كشعب إلى كردي كفرد، فرد يؤدي دوراً على خشبة الوطن دون تمثيل، وشخص نكرة لا شخصية اعتبارية مبنية ومكونة من عوامل اجتماعية وتاريخية وثقافية وعاطفية وانفعالية، وإذا لم تكن المواطنة تعني ممارسة المواطن لحقوقه المعنوية التي تُكوّن شخصيته وتحدد ملامح هويته العامة والخاصة، وبما يضمن استمراريتها وسلامتها من الذوبان والتماهي والانصهار في أسيد أو هوية الآخر، الشريك، فماذا عساها تكون ؟        
ليس الفرد سوى ورقة في شجرة شعبه، يموت حين يسقط عنها.

أما حق الشعوب فحيٌّ لا يموت بالتقادم أو بالتهميش.

      
  Asmail1961@gmail.com

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية، وبالمشاركة مع أطفال العالم وجميع المدافعين عن حقوق الطفل وحقوق المرأة وحقوق الانسان، نحيي احتفال العالم بالذكرى السنوية الثلاثين لاتفاقية حقوق الطفل، التي تؤكد على الحقوق الأساسية للطفل في كل مكان وزمان. وقد نالت هذه الاتفاقية التصديق عليها في معظم أنحاء العالم، بعد أن أقرتها الجمعية…